الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تميزت الحدائق في الحضارة الإسلامية بالعديد من المميزات والخصائص، لعل أهمها الاستلهام القرآني والنبوي لوصف الجنة
مميزات وخصائص الحدائق الإسلامية
يقرر جيمس دكي أن تصميم الحديقة الإسلامية كشأن فن العمارة الإسلامي، لا يمكن حتى مجرَّد وصفه بالمصطلحات الغربية؛ لأنه لا يقع فقط خارج التطور الغربي التاريخي، بل هو نتاج سياق فكري مختلف، ويشهد بأن "الفن الإسلامي لم يقع في يوم من الأيام تحت جاذبية التعارضات الثَّرة التي تقوم عليها (الأنساق) الأوربية"[1].
ولقد استعرض الدكتور يحيى وزيري في كتابه (العمارة الإسلامية والبيئة)[2] بعضًا من المزايا التي تميزت بها الحدائق الإسلامية، فمنها مثلاً:
1- الاستلهام القرآني والنبوي لوصف الجنة:
كانت الحدائق الإسلامية مستلهمة من الوصف القرآني والنبويِّ للجنة، حتى في تلك التفاصيل الدقيقة مثل الأشجار والمياه والأرائك والمجالس والروائح.
فمن الآيات الكريمة التي استوحى منها المسلمون الموضع النموذجي لاختيار الحدائق والجنات الأرضية قوله I: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]. فقد التفت المسلمون هنا إلى إشارة دقيقة؛ حيث أوضحت الآية الكريمة أن الموقع الأمثل للحدائق والبساتين إنما يكون بالأماكن المرتفعة من الأرض (الربوة)؛ فهذا يُجَنِّب الأشجار التقاء جذورها بالمياه الجوفية التي تَحُدُّ من نموِّهَا، كما أنه يساعد على جودة الصرف والتخلُّص من المياه الزائدة.
وقد بلغ الاهتمام إلى حد أن أحيطت جذوع الأشجار في بعض الأحيان برقائق الذهب، وكان خمارويه بن أحمد بن طولون يعتني بحدائق قصره إلى حد أن كسا جذوع النخيل بالنحاس المذهَّب، وكأن المسلمين قد استلهموا هذا الأسلوب من حديث النبي r: "مَا فِي الْـجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ"[3].
2- النظرة الفردوسية:
تميَّزَتِ العمارة الإسلامية بما يمكن أن نطلق عليه: (النظرية الفردوسية)، في محاولة لإيجاد حدائق وجنَّات أرضية داخل بيئات تتَّسم بظروف مناخية قاسية، بغرض تحسين وتجميل هذه البيئة، ومع نموِّ الفنون والعمارة الإسلامية وتطوُّرها أصبح الاتجاه في تصميم الحدائق يحاولُ التأنُّق ويبرع فيه؛ لإضفاء تلك البهجة التي وَصَفَ بها القرآنُ حدائقَ الأرض {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة} [النمل: 60].
3- كتبت على أبوابها أو جدرانها آيات من القرآن أو من الحديث أو عبارات إسلامية أخرى.
4- كثرت في البيوت، وكانت في أفنية البيوت الداخلية لتحقق الخصوصية، وتوفِّر البديل المبهج عن الساحات والحدائق والميادين العامة.
5- وكانت الخصوصية هي أهمُّ ما يميِّز الحديقة في العصر الإسلامي؛ ولذلك أُحيطت الحدائق بالأسوار العالية، أو أشجار النخيل؛ لحجب المناظر الداخلية.
بين النظرة الإسلامية والنظرة الغربية للحدائق
ومن المهم أن نختم بهذه الملاحظة الجوهرية بين النظرة الإسلامية والنظرة الغربية للحدائق، والتي يتضح منها جوهر الفلسفة الإسلامية التي تهتم مع الفائدة بالجمال، وجوهر الحضارة الغربية التي تهتم أكثر ما تهتم بالجانب المادي والوظيفي فقط، هذه الملاحظة لجيمس دكي، وبها فسِّر سبب (قتل تراث البستنة الإسلامي)، قال: "إن طرد المورسكيين كان سيقتل تراث البستنة الإسلامي في إسبانيا حتى ولو لم يتزامن سقوط غرناطة مع تغير الأذواق الذي أحدثه عصر النهضة (في أوربا)، فقد نظر عصر النهضة للحديقة على أنها مُكَمِّلة لفن العمارة، بينما مال المسلمون إلى اعتبار القصر تابعًا للحديقة، ولم يكن التوفيق بين هاتين النظرتين المتعارضتين تمام التعارض ممكنًا"[4].
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك