الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
عدل الرسول مع غير المسلمين في القضاء، مقال د. راغب السرجاني يتناول أخلاق الرسول في عدله مع غير المسلمين مثل قصة بني أبيرق وموقف جابر بن عبد الله مع اليهودي
العدل في القضاء
إن كنا نعجب من مواقف عدل الرسول صلى الله عليه وسلم التي مرَّت بنا في المقالات السابقة، فالعجب كل العجب من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يحكم بين مسلم وغير مسلم؛ فالعدل عنده صلى الله عليه وسلم أمر مُطلق لا يتوقف عند أصحاب الأديان والأجناس والعصبيات والمصالح المخالفة، ولا غير ذلك من الوشائج الأرضية والعلاقات الدنيوية.
وأمثال هذه المواقف في السيرة النبوية كثيرة..
رسول الله وبنو أبيرق واليهودي
منها ما حدث عندما سرق رجل من المسلمين من إحدى قبائل الأنصار من بني أبيرق بن ظفر بن الحارث، وكان اسمه في رواية: «طعمة بن أبيرق»، وفي رواية أخرى: «بشير بن أُبيرق»، وكان هذا الرجل قد سرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له: «قتادة بن النعمان»، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: «زيد بن السمين»، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره. فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق!! فجاء بنو ظفر -وهم قوم طعمة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات من سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 105- 112][1].
لقد اعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ السارق هو اليهودي لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فلم يكتم صلى الله عليه وسلم شيئًا -وحاشاه- بل قام وأعلن بوضوح وصراحة أنَّ اليهودي بريء، وأن السارق مسلم!!
وليس الأمر هينًا..!!
إنَّ التبرئة تأتي في حق يهودي اجتمع قومه من اليهود على تكذيب الإسلام، والكيد له، والطعن في رسوله صلى الله عليه وسلم، وبثِّ الفرقة بين أتباعه.. ومع ذلك، فكل هذه السلبيات والخلفيات لا تبرِّر اتهام يهودي بغير حق.
وهذا الاتهام في حق رجل مسلم من إحدى قبائل الأنصار، وما أدراك من هم الأنصار!! هم الذين آووا ونصروا، وهم كَرِشُ الرسول صلى الله عليه وسلم وعيبته[2]، وهم أهل دار الإسلام، وعلى أكتافهم قامت الدولة الإسلامية، ولكن كل هذا ليس مبررًا لتبرئة سارقٍ منهم، ولو كان على حساب يهودي.
إضافةً إلى أنَّ هذا الموقف قد يُعطي مساحة جديدة لليهود يكيلون فيها التُّهم والادعاءات للمسلمين: فها هم المسلمون يسرقون، وها هم يرمون الأبرياء بالتهم، وها هم يجتمعون على نصرة ظالم، وها هم يكذبون. إنها مِساحة واسعة قد أُتيحت لليهود؛ ليواصلوا طعنهم في جسد الأمة الإسلامية.
برغم هذه الخلفيات، كان لا بُدَّ من إحقاق الحق وإقامة العدل.
إنَّ الأمر لم يكن مجرد تبرئة رجل وإدانة آخر، «إنَّما كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة؛ لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية، وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض، ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوِّق على كل ما تعرف البشرية، وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يُمَحَّصَ كيانُها تمحيصًا شديدًا، وتُنْفَضَ عنه كل خبيئة من ضعف البشر، ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل -لتحكم به بين الناس- مجرَّدًا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئًا كبيرًا لا يقدرون على تجاهله!»[3].
ونتساءل من جديد -وسيكثر هذا التساؤل- هل هناك مثل هذه المواقف في تاريخ أمة غير أمة الإسلام؟!! هل بلغ أي قائد من قوَّاد الأرض مثلما بلغ رسولنا صلى الله عليه وسلم من التجرُّد للحق، وإظهار العدل وتطبيقه، ومن السماحة والأمانة في التعامل مع غير أتباع دينه؟!!
رواية الترمذي لقصة بني أبيرق
ومن الجدير بالذكر في القصة السابقة أن نذكر أن هذا المسلم الذي قام بالسرقة -واتَّهم بها اليهودي- كان من المنافقين الذين ظهر نفاقهم وتأكَّد بعد هذه الحادثة، وهذا واضحٌ فيما رواه الترمذي عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيتٍ منَّا يُقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلًا منافقًا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا. فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلَّا هذا الخبيث -أو كما قال الرجل- وقالوا: ابن الأبيرق قالها. قال: وكان أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهليَّة والإسلام، وكان الناس إنَّما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك[4] ابتاع الرجل منها، فخص بها نفسه وأمَّا العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملًا من الدرمك فجعله في مَشْربة([5]) له، وفي المشربة سلاح: درع وسيف، فعُدي عليه من تحت البيت فنُقبت المشربة وأُخذ الطعام والسلاح، فلمَّا أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، إنَّه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه ونُقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا. فتحسَّسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلَّا على بعض طعامكم. قال: وكان بنو أبيرق قالوا -ونحن نسأل في الدار-: والله ما نرى صاحبكم إلَّا لبيد بن سهل -رجلًا منَّا له صلاحٌ وإسلام- فلمَّا سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟! فوالله ليُخالطنَّكم هذا السيف أو لتبينُنَّ هذه السرقة. قالوا: إليك عنها أيُّها الرجل، فما أنت بصاحبها.
فسألنا في الدار حتى لم نشك أنَّهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّ أهل بيت منَّا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأمَّا الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَآمُرُ فِي ذَلِكَ». فلمَّا سمع بنو أبيرق أتوا رجلًا منهم يُقال له: أسير بن عروة فكلَّموه في ذلك؛ فاجتمع في ذلك ناسٌ من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله، إنَّ قتادة بن النعمان وعمَّه عمدوا إلى أهل بيتٍ منَّا أهل إسلامٍ وصلاح يرمونهم بالسَّرقة من غير بيِّنةٍ ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلَّمته، فقال: «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَلاَ بَيِّنَةٍ». قال: فرجعتُ ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
فلمَّا نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة، فقال قتادة: لمَّا أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا قد عمي أو عشي في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولًا، فلمَّا أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. فعرفتُ أنَّ إسلامه كان صحيحًا، فلمَّا نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلاقة بنت سعد بن سمية فأنزل الله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 115، 116].
فلما نزل على سلاقة رماها حسان بن ثابت رضي الله عنه بأبياتٍ من شعره، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمت به في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟! ما كنت تأتيني بخير([6]). بل إنَّه -في بعض الروايات- هرب إلى مكَّة مرتدًّا، ومات بها[7].
وإذا كان هذا الحكم العادل قد جاء في حقِّ اليهودي على حساب مسلمٍ ضعيف الإيمان مذبذب العقيدة، فإنَّ هذا الحكم لم يصدر لشكٍّ في إيمان المسلم وعقيدته، بل كان سيصدر مهما كان المخطئ؛ لأنَّ الشريعة لا تُحابي أحدًا، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يُجامل أصحابه ومعارفه.
قصة جابر بن عبد الله ويهودي
وإن شئت الإيضاح أكثر لهذا المعنى، والتأكيد بصورة أعمق لهذه الحقيقة، فراجع هذه القصة العجيبة التي حدثت بين يهودي وأحد الصحابة المكرمين، والذي كان مقرَّبًا جدًّا إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جابر بن عبد الله بن حرام –رضي الله عنهما-[8]، وهو من الصحابة الكرام الذين حضروا بيعة العقبة الثانية في طفولته[9] مع أبيه «عبد الله بن حرام» رضي الله عنه[10]، وشهد المشاهد كلها ابتداءً من أُحد أو التي عدها[11].
يروي جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- فيقول: «كان بالمدينة يهودي، وكان يسلفني في تمري إلى الجِداد[12] -وكانت لجابرٍ الأرض الَّتي بطريق رومة- فجلستُ، فخلا عامًا، فجاءني اليهوديُّ عند الجِداد، ولم أجدَّ منها شيئًا، فجعلتُ أستنظره إلى قابلٍ[13] فيأبى، فأُخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ الْيَهُودِيِّ».
فجاءوني في نخلي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُكلِّم اليهوديَّ، فيقول: أبا القاسم، لا أنظره.
فلمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل، ثمَّ جاءه فكلَّمه فأبى، فقمتُ فجئتُ بقليل رطبٍ فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل ثمَّ قال: «أَيْنَ عَرِيشُكَ[14] يَا جَابِرُ؟» فأخبرتُه، فقال: «افْرُشْ لِي فِيهِ». فَفَرَشْتُهُ، فدخل فرقد ثمَّ استيقظ، فجئتُه بقبضةٍ أخرى، فأكل منها ثمَّ قام فكلَّم اليهوديَّ فأبى عليه، فقام في الرِّطاب في النَّخل الثَّانية ثمَّ قال: «يَا جَابِرُ، جُدَّ وَاقْضِ». فوقف في الجداد فجددت منها ما قضيته، وفضل منه، فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشَّرته، فقال: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ»[15].
فهذه قصة عجيبة يستدين فيها جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- من يهودي، فيأتي ميعاد سداد الدين، وليس مع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ما يقضي به دَينه، فجعل يطلب من اليهودي أن يؤخره عامًا حتى يستطيع السداد -وكان جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- من الفقراء المدينين- لكن اليهودي أَبَى وأصرَّ على أن يأخذ دَينه في موعده، فأخبر جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالأمر، وطلب منه أن يتوسط بينه وبين اليهودي، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل، بل أخذ معه بعضًا من أصحابه، وذهب إلى اليهودي يستشفع لجابر، فيقول جابر رضي الله عنه: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلِّم اليهودي. أي أنه أكثر في الكلام والاستشفاع عنده، لكن اليهودي رفض بكل وسيلة، وكان مصرًّا على قوله: أبا القاسم، لا أنظره.
هذا موقف يقع فيه أحد الأصدقاء المقربين إلى قلب من يحكم المدينة المنورة بكاملها في أزمة مع أحد رعايا هذه المدينة وهو اليهودي، إنه يريد تأجيل سداد الدين وليس المماطلة فيه أو التغاضي عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه يستشفع له، ولكن اليهودي يرفض، ومع ذلك لم يجبر زعيم الأمة الإسلامية وقائد المسلمين ورسول ربِّ العالمين صلى الله عليه وسلم ذاك اليهوديَّ أو يُكْرِهْهُ على قبول استشفاعه!
لم ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا إلى صورته التي قد يستضعفها المراقبون والمحللون للموقف، ولم ينظر إلى حبِّه لجابر بن عبد الله وقُرْبِهِ من قلبه، ولم ينظر إلى تاريخ اليهود العدائي مع المسلمين؛ لم ينظر إلى كل هذه الاعتبارات ولا إلى غيرها؛ إنَّما نظر فقط إلى إقامة العدل في أسمى صوره.
إنَّ الحقَّ مع اليهودي، والسداد واجب، والاستشفاع مرفوضٌ من صاحب الحق، فليكن السداد، وليكن الإنصاف لليهودي غير المسلم، ولو كان من صحابيٍّ جليل وابن صحابيٍّ جليل.
إنَّ هذا هو الإسلام حقًّا..
لم يكن هذا تكلُّفًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تجمُّلًا منه؛ إنَّما كان التطبيق الطبيعي لقواعد الدين.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
إنَّ الشفقة على جابر لفقره لم تكن مبرِّرًا للحكم له ضدَّ اليهودي.
يقول الشوكاني[16] في فتح القدير في تفسير هذه الآية {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا}: «إن يكن المشهود عليه غنيًّا فلا يُراعى لأجل غناه استجلابًا لنفعه أو استدفاعًا لضرِّه؛ فيترك الشهادة عليه، أو فقيرًا فلا يُراعَى لأجل فقره؛ رحمةً له وإشفاقًا عليه، فيترك الشهادة عليه»[17].
[1] الترمذي عن قتادة بن النعمان 3036، وقال الترمذي: غريب. والحاكم 4/385-388 وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه. وعزاه في تحفة الأحوذي -أيضًا- لابن المنذر وأبي الشيخ الأصبهاني. وانظر: الطبري في تفسيره 4/265، والقرطبي في تفسيره 3/327، وابن كثير في تفسيره 1/731، والشوكاني في فتح القدير 1/771، وتفسير البغوي 1/283، وتفسير البيضاوي 1/248، وتفسير الجلالين 1/120، والوجيز للواحدي 1/287، وتفسير أبي السعود 2/229، والدر المنثور للسيوطي 2/671، وتفسير النسفي 1/246، وروح المعاني للألوسي 5/140، وزاد المسير لابن الجوزي 2/190، والتحرير والتنوير لابن عاشور 1/1021، ومعاني القرآن للنحاس 2/185.
[2] كرشي وعيبتي: أي بطانتي وخاصَّتي. قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنَّه مستقرُّ غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال: لفلان كرش منثورة، أي: عيالٌ كثيرة. والعَيْبَة: ما يُحْرِزُ فيه الرجلُ نفيس ما عنده، يُريد أنَّهم موضع سرِّه وأمانته. قال ابن دريد: هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم الموجز الذي لم يُسْبَقْ إليه. وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة مستودع الثياب، والأوَّل أمرٌ باطنٌ والثاني أمرٌ ظاهر؛ فكأنَّه ضُرِب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنة والظاهرة، والأوَّل أولى، وكلا الأمرين مستودعٌ لما يُخْفَى فيه. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/121.
[3] سيد قطب: في ظلال القرآن 2/753.
[4] ضَافِطَة من الدَّرْمَك: الضَّافِطُ والضَّفَّاط: الذي يَجْلبُ الطعام والمَتَاعَ إلى المُدُن. والمُكارِي: الذي يُكْرِي الأحْمَال، وكانوا يومئِذ قومًا من الأنباط يَحْمِلُون إلى المدينة الدَّقيق والزيت. والدرمك: هو الدقيق الأبيض. والمقصود: بضاعة من الشام فيها هذا النوع من الدقيق. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/201، والحموي: معجم البلدان 4/10.
[5] مشربة: الغرفة والعلية. العظيم آبادي: تحفة الأحوذي 8/314.
[6] الترمذي 3036، وقال أبو عيسى: حديث غريب. وحسنه الألباني.
[7] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/406، 407، والرازي: مفاتيح الغيب 5/369.
[8] جابر بن عبد الله بن حرام، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة، وكان من المكثرين الحفَّاظ للسنن. ابن عبد البر: الاستيعاب 1/292، وابن الأثير: أسد الغابة 1/351، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 1022.
[9] ابن الأثير: أسد الغابة 3/241.
[10] عبد الله بن حرام السلمي الأنصاري، كان نقيبًا وشهد العقبة ثم بدرًا، وكان أول قتيل من المسلمين يوم أحد، ودفن هو وعمرو بن الجموح في قبر واحد. انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 3/84، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 4836.
[11] ابن الأثير: أسد الغابة 3/241.
[12] الجداد: زمن قطع النخل. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/97، 9/567.
[13] أستنظره إلى قابل: أي أستمهله إلى عام ثانٍ. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 9/568.
[14] عريشك: أي المكان الذي اتخذته في البستان، لتستظلَّ به وتقيل فيه. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 9/568.
[15] البخاري: كتاب الأطعمة، باب الرطب والتمر 5128.
[16] الشوكاني: هو محمد بن علي الشوكاني 1172 - 1255هـ، نشأ باليمن، وتعلم النحو والصرف والتفسير والفقه، وصار مشارًا إليه في علوم الاجتهاد بالبنان. من مؤلفاته: نيل الأوطار، وفتح القدير. انظر: القنوجي: أبجد العلوم 3/201.
[17] الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 1/790.
التعليقات
إرسال تعليقك