د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل يمكن أن تكون ليلة القدر ليلة زوجية؟
أعظم ليالي الدنيا باتِّفاق العلماء هي ليلة القدر:
قال الله في حقِّها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5]
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3، 4].
وقال النبي في حقّها كما روى النسائي عن أبي هريرة: «.. لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ»[1]، وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[2].
لذلك أمرنا النبي أن نتحرَّى ليلة القدر، وهنا تأتي المشكلة! الأقوال في تحديد ليلة القدر بلغت 46 أو 47 قولًا، وجُلُّها يعتمد على أحاديث نبوية صحيحة، وكثرة هذه الاحتمالات جعلت بعض العلماء يقولون بتنقُّلها بين الليالي في الأعوام المختلفة، بينما قال آخرون إنها معينة في ليلة محددة، ولكي تستوعب الخلاف يكفي أن تعرف أن أبا حنيفة يرى أنها متنقلة، بينما يرى تلميذاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن أنها معينة!
أيضًا كبار الصحابة اختلفوا: أبو سعيد الخدري يراها ليلة 21، ورأى جماعة أنها ليلة 23، ويرى علي بن أبي طالب أنها ليلة 25، ويرى أبي بن كعب، وعدد آخر أنها ليلة 27، وهناك من يراها ليلة 24 رمضان كابن عباس، وهو مروي في البخاري.
والبعض خرج بها عن العشر الأواخر، فقال: إنها أول ليلة من رمضان، أو ليلة سبعة عشر من رمضان، أو في ليالي الأواسط والأواخر، أو آخر ليلة من الشهر، والمذاهب الفقهية بين هذه الأقوال.
لن أقول لك مثلما قال ابن مسعود: "مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ"! وبه أخذ أبو حنيفة، لكن لنقل إنها على الأغلب في العشر الأواخر من رمضان.
البعض يريد التحديد أكثر ويقول إنها في الوتر من العشر الأخيرة في رمضان، وهذا صحيح؛ لكن ابن تيمية يطرح رأيًا معتبرًا بناءً على حديث صحيح للنبي r. عند مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري: ".. فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ». قَالَ: قُلْتُ (أبو نضرة): يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا. قَالَ: أَجَلْ. نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ. قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهْىَ التَّاسِعَةُ فَإِذَا مَضَتْ ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ»[3].
وروى البيهقي والطيالسي: وذُكِرَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مُلْتَمِسَهَا إِلَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَعْدَ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ سَابِعَةٍ تَبْقَى أَوْ خَامِسَةٍ تَبْقَى أَوْ ثَالِثَةٍ تَبْقَى أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ» فَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي فِي عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي سَائِرِ السَّنَةِ فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ.
ويقول ابن تيمية: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». وَتَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا: لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.
كل هذا يصب في اتِّجاه واحد، وهو الاهتمام بالعشر الأواخر كلها، ويدعم ذلك::
أولًا: لم يرد عن رسول الله التحري في ليلة واحدة معينة في أي من السنوات، إنما كان يجتهد في العشر جميعًا؛ ففي البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ».
ثانيًا: كان الرسول يعلم الليلة ثم أنسيها، وذكر أن هذا النسيان هو الخير؛ ففي البخاري عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ..». ووجه الخير أن هذا سيدفع المسلمين إلى الاهتمام بكل الليالي، فيحقِّقون خيرًا أعظم من الاجتهاد في ليلة واحدة..
ثالثًا: علامات ليلة القدر في أثناء الليلة ليست مؤكَّدة، والأحاديث فيها مختلف على تصحيحها، مثل أنها لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، أو أن الكلاب لا تنبح فيها؛ إنما العلامة المؤكَّدة تكون بعد انتهائها، كما جاء في مسلم عن أبَيِّ بنِ كَعبٍ t قال: «وأمارَتُها أن تطلُعَ الشَّمسُ في صبيحةِ يَومِها بيضاءَ لا شُعاعَ لها»، وعندها ستكون الليلة قد فاتت.
الخلاصة: إني لكم ناصح أمين: لا تصب اهتمامك على ليلة 27 فقط، أو حتى الليالي الوترية وحدها: السُّنَّة أن تجتهد في العشر الأواخر جميعًا، وقناعتي أن التوفيق إلى ليلة القدر يكون هدية لمن ظهر منه الاجتهاد في العشر كلها، إن لم يكن في رمضان كله.
[1] النسائي: كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على معمر في هذا الحديث (2416).
[2] البخاري: كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان (35).
[3] مسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها (1167). لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك