الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
شنقيط مدينة مهمة من مدن موريتانيا، وبلغ من أهمِّيتها أن سُمِّيت الدولة كلها باسمها، واكتسبت أهميتها قديمًا من كونها مركز تجمع لحجاج غرب إفريقيا.
نافذة اليوم نفتحها على مدينة مهمة من مدن موريتانيا، وبلغ من أهمِّيتها أن سُمِّيت الدولة كلها باسمها، وهي مدينة شنقيط، ويُقال لموريتانيا: بلاد شنقيط، وهي مدينة صغيرة في موريتانيا في عمق الصحراء، وهي بعيدة عن نواكشوط العاصمة بحوالي 540 كم، واكتسبت أهميتها قديمًا من كونها مركز تجمع لحجاج غرب إفريقيا، وكانت قد تأسَّست سنة 160هـ=ـ 776م، ثم اندثرت، لتأسَّس من جديد في عام 660هـ= 1262م.
وقد أُختلف في أصل اشتقاق اسمها، فقيل: إنها كلمة أمازيغية تعني عيون الخيل (منطقة عيون تردها الخيول)، وقيل: كلمة عربية فصيحة أصلها (سن قيط) أي طرف جبل (قيط) المجاور للمدينة، ورأي ثالث قال: إنها كلمة عربية تعني الشنقيط وهو نوع من الأواني الخزفية كان متداولًا في المنطقة، ويُقال أيضًا أن شنقيط كانت موضعًا للرباط الذي انشأه الفقيه عبد الله بن ياسين في التاريخ عام 451 هجرية، وكان نواة لدولة المرابطين.
نافذة اليوم نفتحها على مسجد شنقيط، وهو مسجد بسيط للغاية، ولكن خرج منه عمالقة في العلم، ويرجع بناء المسجد إلى عام 660هـ، أو بعد ذلك، وقد تأسَّس على يد الجدَّين الجامعين لقبيلتي الإقلال: محمد قلي ويحيى جد إدو علي، ورجلين آخرين هما: أعمر وإديجر، ويضم المسجد بهوًا للصلاة وأربعة ممرَّات وفناء مكشوف، ويتميز المسجد ببنائه القائم على الحجارة المقطوعة والمئذنة المربعة الشكل علاوة على خلوِّه من الزينة تماشيًا مع المذهب المالكي، ويعبر المسجد عن معمار صحراوي ينطق بالبساطة حيث يعتلي منبره بواسطة 3 درجات خشبية، وكانت جذوع النخيل مادة السقف الأصلية، ومازال محتفظًا بهيئة المساجد القديمة؛ فهو غير مفروش للصلاة، ويؤدي المصلون صلواتهم على الرمال الناعمة، وبه مكتبات حجرية.
اللقطة الحضارية المهمة في ذلك هي ذات شقين عجيبين:
الشِّقُّ الأول: تفوُّق في العلم الشرعي:
اكتسبت شنقيط أهمية خاصة، غالبًا في القرن العاشر الهجري، وهي الأهمية العلمية التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم الإسلامي، لتثبت أن طالب العلم الحقيقي لا تقف أمامه موانع، فكل العوائق العلمية كانت موجودة بهذه المدينة، ومع ذلك نشطت حتى تميَّزت:
1- ليست من الحواضر الكبرى حتى يقصدها العلماء، بل هي في عمق الصحراء
2- كانت لغتها في الأصل أمازيغية، وليست لغة القرآن والسُّنَّة
3- بعيدة عن مدن الإسلام التاريخية
4- فقيرة في الموارد فلا يتمكَّن أهلها من شراء الكتب، خاصة في زمن غياب المطابع
5- طبيعة البداوة التي تتناقض كثيرًا مع فكرة العلم.
للتعليم في موريتانيا نمط متميز حتى في مسمى المؤسسة التعليمية، فهي تعرف عندهم باسم المحضرة، وهي مؤسسة دراسية تقليدية، جامعة لشتات المعارف، وهي تلقينيَّة فرديَّة التعليم طوعيَّة الممارسة، حيث يختار الطالب ما يحب أن يتلقاه، ويجلس إلى من يشاء من معلمين، ويبدأ بها بعد حفظ كتاب الله عز وجل أو بعضه وتتنوع فيها المواد العلمية.
وتترتب معارف المحضرة وفق ما يلي:
الدرجة الأولى: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والتصوف، والسيرة، والغزوات، وفتوحات الصحابة، وأنسابهم.
الدرجة الثانية: اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والعروض، وأنساب العرب، وأيامهم.
الدرجة الثالثة: المنطق، والتاريخ، والجغرافية، والحساب، والفلك، والهندسة.
قد يستغرق طالب العلم يومه كله في التدريس، لأن الشيخ عندهم، لا يلزم الطلبة أن يشتركوا في درس واحد، من فن من الفنون، فتراه مثلًا يدرس لعشرة من التلامذة الألفية، فبعضهم يقرأ من أولها، وبعضهم يقرأ من وسطها، وبعضهم يقرأ من آخرها، ويلقى لكل درسه من موضعه الذي يليق به، وهكذا في الفقه وغيرهما من العلوم.
وقد أخرجت هذه المدينة علماء أفذاذ:
عبد الله بن إبراهيم الشّنقيطي (1235هـ=1820م): فقيه مالكي، وله: ألفية في أصول الفقه "مراقي السعود"، و"نور الأقاح" منظومة في علم البيان، و"طلعة الأنوار" في مصطلح الحديث. وشروحات وافية لهذه المنظومات.
غالي بن المختار (1243هـ=1827م): من الأدباء وعلماء السيرة النبويّة، وله مؤلفات في ذلك، بالإضافة إلى كتاب في "علم الصرف"
خديجة بنت العاقل الشنقيطية: من العالمات بالمنطق، وهي أخت العلامة الفقيه أحمد ولد العاقل الشنقيطي (ت1244هـ)، ومن أشهر مؤلفاتها شرح على سلم الأخضري.
أحمد بن الأمين الشنقيطي (1331هـ=1913م): وهو عالم بالأدب، ومن كتبه: (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط والمعلقات العشر وأخبار قائليها.
محمد حبيب الله الشنقيطي (1363هـ=1944م): عالم بالحديث، من كتبه: زاد المسلم، فيما اتفق عليه البخاري ومسلم 6 مجلدات، وإيقاظ الأعلام في رسم المصحف، ودليل السالك إلى موطأ مالك منظومة، وإضاءة الحالك شرحها، وغيرها.
محمد الأمين بن المختار الشنقيطي (1393هـ=1974م): له مؤلفات عديدة في الأصول والفقه والعقيدة والمنطق والرحلات والتفسير وأهمها وأشهرها: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن".
الشِّقُّ الثاني: التفوُق في اللغة العربية:
وهذا ملمح رائع وعجيب؛ إذ تأثَّر أهل شنقيط الأمازيغ بقبيلة بني حسان العربية، وتنازلوا طواعية عن لغتهم الأم، وتعلَّموا العربية، وبرعوا فيها، وصارت لغتهم الوحيدة، وتفوَّقوا فيها حتى عرفوا الشعر وأتقنوه، وعُرِفت بلادهم ببلاد المليون شاعر!
هذا ليس أمرًا عاديًّا، ولقد واجهت مصاعب كبيرة في إقناع الباكستان والهنود مثلًا في تعلُّم اللغة العربية[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك