التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
هل أصاب عثمان بن عفان رضي الله عنه بحرق 6 قراءات للقرآن؟
ذكرنا في مقال سابق أن القرآن أن القرآن أنزل على سبعة أحرف أو لهجات عربية، وأنها كانت مختلفة عن بعضها اختلافًا ظاهرًا، وإن كان التشريع فيها واحد، والإعجاز فيها كلها متحقِّق، روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»[1].
وذكرنا أن الاختلافات بين الصحبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في القراءة كانت ظاهرة، ولم يدرك بعض كبار الصحابة هذه الفروق مع جلالة قدرهم في العلم واللغة؛ ك عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُصَحِّح لهم.
كان هذا الوضع أيَّام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يكون الحال بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وليس هناك من المسلمين مَنْ يُحيط علمًا بالأحرف السَّبعة التي نزل بها القرآن، وإذا حدث اختلافٌ بين اثنين فلعلَّ أحدهما يقرأ بما صحَّ ولا يعرفه الآخر، أو يقرأ قراءة غير صحيحة ويحتاج إلى تصويب.
حدثت هذه المشكلة بالفعل في إحدى معارك المسلمين في أذربيچان وأرمينيَّة، وكان جيشا العراق والشام يُقاتلان في الموقعة نفسها، وبالتالي وُجِدَ مسلمون يقرأ كلُّ واحدٍ منها على حرفٍ مختلف، فنشأ الشِّقاق، وكاد يصل بهم إلى الصِّراع المهْلِك!
ذَكَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ رضي الله عنه، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيچَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه لِعُثْمَانَ رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إِلَى حَفْصَةَ رضي الله عنها: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ».
فَأَرْسَلَتْ بِهَا حفصة رضي الله عنها إِلَى عثمان رضي الله عنه، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، رضي الله عنهم، فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ». فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ رضي الله عنه الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ رضي الله عنها، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ[2].
وتكرر هذا في المدينة نفسها في بعض الكتاتيب كان هذا من الأعمال الجليلة لعثمان رضي الله عنه، بل هي من أجلِّ أعماله؛ ولئن كان نفع بئر رومة، أو تجهيز جيش العسرة، عائدًا على المسلمين المعاصرين للحدث فإن نفع حفظ القرآن دون اختلاف في الأمة مستمرٌّ إلى يوم القيامة! لقد أبقى عثمان رضي الله عنه على صورةٍ واحدةٍ من الصور التي نزل بها القرآن، آخذين في الاعتبار:
1- أنَّ هذه هي لغة الرسول صلى الله عليه وسلم،
2- وأنَّ هذه هي أفضل لغات العرب وأشهرها،
3- وأنَّها التي قُرِئت بها العرضة الأخيرة للقرآن قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة،
4- وهي التي احتفظ بها المسلمون عندما جمعوا القرآن زمان أبي بكر رضي الله عنه.
يقول ابن كثير: «.. وَإِنَّمَا جَمَعَهُمْ عَلَيْهَا لِمَا رَأَى مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ وَتَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَرَتَّبَ لَهُمُ الْمَصَاحِفَ الْأَئِمَّةَ عَلَى الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَارَضَ بِهَا جِبْرِيلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في آخِرِ رَمَضَانَ مِنْ عُمْرِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ ألَّا يَقْرَءُوا بِغَيْرِهَا، وَأَلَّا يَتَعَاطَوُا الرُّخْصَةَ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِيهَا سَعَةٌ، وَلَكِنَّهَا أَفْضَتْ إِلَى الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ»[3].
من المهمِّ أن نعرف أنَّ عثمان رضي الله عنه لم يُلِغِ القراءات المتعدِّدة التي يقرأ بها المسلمون القرآن الآن؛ فإنَّ هذه القراءات كلَّها فروعٌ من لغة قريش التي أقرَّها عثمان رضي الله عنه، وهي القراءات المشهورة المتداولة بين المسلمين اليوم.
يقول مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ[4]: «هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ، وَصَحَّتْ رِوَايَاتُهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ، جُزْءٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ.. وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ؛ كَنَافِعٍ وَعَاصِمٍ، هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا»[5]!
وكان عثمان رضي الله عنه يتابع بنفسه هذه العملية الشاقَّة، ولا ننسى أنه من حملة القرآن الكريم، وكان إذا اختلف الناسخون للمصحف في شيء رجعوا إليه. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ، فَقَالَ القُرَشِيُّونَ: التَّابُوتُ، وَقَالَ زَيْدٌ رضي الله عنه: التَّابُوهُ، فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَقَالَ: «اكْتُبُوهُ التَّابُوتُ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ»[6].
تمَّ نَسْخُ سبع نُسَخٍ على الأغلب من هذا المصحف المتَّفق عليه، وأرْسِلت إلى الأمصار الرئيسة في الدولة؛ وهي المدينة، ومكَّة، والكوفة، والبصرة، والشام، ومصر، واليمن[7]، وتذكر بعض المصادر أنَّ هناك نسخةً ثامنةً كانت عند عثمان بن عفَّان رضي الله عنه في المدينة غير نسخة المدينة[8]، وهي التي قُتِل وهو يقرأ بها[9].
بعد هذه الكتابة للنُّسخ السَّبع أمر عثمانُ بن عفَّان رضي الله عنه بحرق كلِّ النسخ الأخرى التي قد يمتلكها بعض الصحابة أو التابعين، وذلك حتى يقطع مادَّة الخلاف تمامًا، آخذين في الاعتبار أنَّ الكتابات الأخرى غير النسخ المعتمدة يمكن أن تكون مكتوبةً بالأحرف الأخرى غير حرف قريش، ويمكن أن تكون محتويةً على آياتٍ منسوخة لفظًا، كما يمكن أن تكون على غير ترتيب المصحف في عرضته الأخيرة، أو تكون محتويةً على تفسيراتٍ للصحابة لبعض الآيات يمكن أن تُحْدِث خَلْطًا عند بعض الناس. هذا الحرق للمصاحف لم يكن فيه بأسٌ عند عامَّة الصحابة، باستثناء ما حدث مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وموقفه يحتاج إلى وقفة لفهمه[10].
[1] البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
[2] البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، (4702).
[3] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1/45.
[4] من علماء القراءات الكبار، وهو من القيروان، وعاش لاحقًا بقرطبة.
[5] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 9/31.
[6] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله r، باب ومن سورة التوبة، (3104)، وقال: حديث حسن صحيح.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية، 7/243.
[8] ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، 1/7.
[9] أبو داود سليمان بن نجاح: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، 1/142، والسمهودي: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، 2/200.
[10] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك