التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تُعْتَبر قبلة المسلمين في فترة مكة من الأمور غير المحسومة في السيرة النبوية! يرى فريق من العلماء أنها كانت إلى بيت المقدس من البداية......
كانت الصلاة من أوائل الفروض التي فُرِضَت على المسلمين في مكة، وعند فرضها كانت صلاتين فقط، وكل صلاة ركعتان، وكان قيام الليل فرضًا في العام الأول، ثم صار نافلة.
قبلة المسلمين في مكة:
تُعْتَبر قبلة المسلمين في فترة مكة من الأمور غير المحسومة في السيرة النبوية! يرى فريق من العلماء أنها كانت إلى بيت المقدس من البداية، ولم تتحوَّل إلى الكعبة إلا بعد ستة عشر شهرًا من الهجرة النبوية إلى المدينة. يدعم هذه الرؤية ما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ[1]، وَبَعْدَمَا هَاجَرَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ»[2]، في هذا النصِّ نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص في فترة مكة على جعل الكعبة بين يديه؛ أي يصلي دومًا تجاه الحائط اليماني من الكعبة، فيكون متوجِّهًا إلى الشمال، أي إلى بيت المقدس، وفي الوقت نفسه يتوجَّه إلى الكعبة.
هذه الكيفية في الصلاة تُحقِّق له فائدتين: الأولى إيمانية ونفسية، وهي أنه لا يريد أن يجعل الكعبة المعظَّمة في ظهره، أو عن يمينه أو شماله، إنما ستكون أمام عينيه وهو يصلِّي، وهو في الوقت ذاته ملتزم بالقبلة "الشرعيَّة" التي وجَّهه اللهُ إليها؛ أي قبلة بيت المقدس. هذه فائدة مهمة اجتهد فيها رسول الله r في التأدُّب مع أعظم المقدسات الدينية على الأرض. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
أما الفائدة الثانية فسياسية، وهي أنه لا يريد أن يفتح، في ظروف مكة الصعبة، بابًا جديدًا للجدل مع كفَّار قريش، فلا شك أن ترك الكعبة إلى بيت المقدس لم يكن ليمر دون تشهير برسول الله، واستغلال من قريش في حربها ضده. ثم هاجر رسول الله إلى المدينة، فتعذَّر الجمع بين القبلتين؛ لكون الكعبة في الجنوب الآن، وبيت المقدس في الشمال، فصار التوجُّه إلى بيت المقدس وحده.
يرى فريق آخر من العلماء أن القبلة كانت أولًا إلى الكعبة عدة سنوات، ثمَّ حُوِّلت إلى بيت المقدس، واستمر التحويل ستة عشر شهرًا في المدينة، ثم رجعت إلى وضعها الأول إلى الكعبة: يؤيد هذه الرؤية نصٌّ دقيق لابن جريج، وهو من تابعي التابعين، ومن العلماء المشهورين بالدراية والأمانة[3]، قال فيه: "صَلَّى رسولُ الله أوَّلَ ما صلَّى إلى الكعبة، ثم صُرف إلى بَيتِ المقدس. فصَلَّتْ الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ، وصلَّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا، ثم ولَّاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة"[4].
هذا الرأي وجيه للسببين الآتيين، أولاً: لا نجد في كتب السيرة أيَّ صراع فكري في مكة مع المشركين حول مسألة القبلة، ولو كان الرسول والمسلمون يُصَلُّون ناحية بيت المقدس من البداية لكانت هذه مسألة نقاش كبرى، ولَمَا سكت المشركون في مكة عن توجهه إلى هذه القبلة أو غيرها تاركًا الكعبة المعظَّمة، خاصة أن هناك حوادث رؤية للمسلمين وهم يُصلُّون في أماكن بعيدة عن الكعبة، وسيكون التوجُّه حينها بعيدًا عن الكعبة إلى الشمال ناحية بيت المقدس.
ثانيًا: أيضًا لو كانت القبلة ناحية بيت المقدس من البداية لكان من الضروري أن نجد سؤالًا من الصحابة في هذه الفترة عن سِرِّ التوجه إليه بدلًا من الكعبة، خاصة أن الرسول كان يقضي الساعات الطوال قبل بعثته ينظر إلى الكعبة من مكانه المرتفع في غار حراء أثناء اعتكافه هناك للتفكُّر. غياب مثل هذا السؤال يُرَجِّح أن القبلة التي كان المسلمون يُصَلُّون إليها كانت طبيعية وغير مفاجِئة للمسلمين، أعني الكعبة.
والمؤكَّد أن القبلة في السنوات الثلاث الأخيرة في مكة كانت إلى بيت المقدس: قال كعب رضي الله عنه في رواية أحمد وابن حبَّان، وهي صحيحة: "خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[5]، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا وَخَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلَاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللهِ رَأيًا، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقُلْنَا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟، قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ مِنِّي بِظَهْرٍ -يَعْنِي الْكَعْبَةَ- وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا، فَقُلْنَا: وَاللهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي إِلَيْهَا، فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ، فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ، وَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَاسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّهُ وَاللهِ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لَمَّا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ.. ثم بعد الوصول إلى رسول الله r قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا وَهَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا، قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ r فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ. قَالَ كعب: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ[6] وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ.."[7].
في هذه الرواية تصريح لا يقبل التأويل يشير إلى أن الأنصار كانوا يُصَلُّون ناحية بيت المقدس، بل قالوا: "وَاللهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ"، فالرسول r كان يصلي بالضرورة إلى القبلة نفسها، ويتوافق هذا مع كلام ابن جريج السابق من أن الأنصار صَلُّوا ثلاث سنوات إلى بيت المقدس، وهذه هي كل فترة إسلامهم قبل الهجرة.
قد يعكَّر على هذا التصوُّر رواية البيهقي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ".. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ، أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ.."[8]، قد يوهم هذا بأن الأمر بالتوجُّه إلى بيت المقدس لم يكن إلا بالمدينة.
هذا أمر من الله لرسوله، بالتوجه إلى بيت المقدس، وأنا أراه أمرًا مكرَّرًا لكون الرسول الآن سيُصَلِّي مستدبرًا الكعبة، وهذا شديدٌ عليه لا شك، فأكَّد الله الحكم، خاصة أنه قد يحدث خلط عند بعض المسلمين، ويتركون قبلة اليهود لعدائهم، فلذا وجب التأكيد على أن القبلة إلى بيت المقدس.
[1] أي يصلي بين الركنين اليمانيين.
[2] أحمد (2993)، تعليق شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والمعجم الكبير للطبراني (11088).
[3] مصادر للتعريف به تعلق على علمه وأمانته.
[4] الطبري: تفسير الطبري=جامع البيان، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420ه= 2000م، 3/ 139.
[5] كان هذا في العام الثالث عشر من البعثة النبوية قبيل بيعة العقبة الثانية.
[6] مات البراء بن معرور قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بشهر، وأمر أن يوجَّه قبره للكعبة.
[7] أحمد (15836)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث قوي وهذا إسناد حسن.
[8] الطبري: تفسير الطبري=جامع البيان، 3/ 138.
التعليقات
إرسال تعليقك