ملخص المقال
بقي بن مخلد من العلماء الكبار في الأندلس، قام برحلة طويلة في طلب العلم، حيث قرَّر الرحيل من الأندلس إلى بغداد ماشيًا لقلة النفقة!
بَقِيُّ بن مَخْلَد الأندلسي أحد كبار علماء الأندلس في الحديث والتفسير، ومن مجابي الدعوة، ومن أئمة الزهد والورع. من علماء القرن الثالث الهجري توفي عام 276 هجرية
بقي بن مخلد في التاريخ الإسلامي:
قال عنه المؤرخ الكبير ابن أبي خيثمة (توفى 279هـ): "ما كنا نسميه إلا المِكْنَسة، وهل احتاج بلد فيه بقي بن مخلد أن يأتي إلى هنا (العراق) منه أحد"[1]. (المكنسة إشارة إلى أنه لا يترك شاردة ولا واردة إلا أولاها اهتمامه)
وقال المؤرخ الأندلسي الشهير ابن الفرضي (توفى 403هـ): "بقي بن مخلد ملأ الأندلس حديثًا ورواية"
وقال ابن حزم عن وضع بقي بن مخلد بين المحدثين: "وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وسليمان بن الأشعث السجستاني (أبو داود)، وأحمد بن شعيب النسائي".
وقال الفقيه الفذُّ محمد بن عبد الهادي المقدسي في طبقات علماء الحديث (مات عام 744 هجرية وعمره 40 سنة فقط، وله سبعون مؤلَّفًا!): "وذكر عن بقي خيرٌ، ونُسك، وإيثار حتى بثوبه. وكان مجابَ الدَّعوة. وقيل: إنَّه كان يختم القرآن كل ليلةٍ في ثلاث عشرة ركعة، ويسرد الصوم (لا يفطر إلا الجمعة)، وحضر سبعين غزْوة.
وقال ابن حزم عن كتاب تفسير القرآن لبقي بن مخلد: "وفي تفسير القرآن: كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد؛ فهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه انه لم يؤلف في الإسلام تفسيرٌ مثلُه، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره.
الموقف عجيب: أخذ عدة سنوات!
بقي بن مخلد من العلماء الكبار في الأندلس، ولكن لم يكن يتم العلم في ذلك الزمن إلا بالرحلة في طلبه، وقد سمع بأن أفضل علماء الحديث في زمانه هو أحمد بن حنبل، فعزم على السماع منه، وقرَّر الرحيل من الأندلس إلى بغداد ماشيًا لقلة النفقة!
الرحلة الأولى بدأت عام 224 هجرية تقريبًا واستمرت 20 سنة!
والرحلة الثانية بعدها ولا ندري بدايتها واستمرت 14 سنة!
شملت الرحلتان عددًا كبيرًا من البلاد (تونس، ومصر، ومكة، والكوفة، وبغداد، و..)
كان يسافر في كل عام إلى أن يأتي وقت الحج فيذهب للحج في كلِّ عام!
غالبًا في زمن المعتصم بالله قبيل وفاته: يعني 226 أو 227 هجرية. (توفي المعتصم في 227 هجرية، وكان جبارًا، على الرغم من نخوته العسكرية، لكنه لم يكن يقدِّر العلماء، بل كان أمِّيًّا لا يقرأ)
كان بقي بن مخلد وقت وصوله في الخامسة والعشرين من عمره (من مواليد 201هـ)
عمَّر إلى عام 276 هجرية: يعني عاش 50 سنة بعد هذا الموقف
تعب في شبابه ليظلَّ عالمـًا إلى آخر عمره
فوجد ابن حنبل حبيسًا في بيته رهن الإقامة الجبرية عقابًا من الخليفة العباسي لعدم رضائه ببدعة خلق القرآن (مخالفة عقائدية كبيرة صمَّم ابن حنبل على مقاومتها، فامتحن في ذلك آخر زمن المأمون، فالمعتصم بالله، ثم الواثق بالله، وبعد أن سُجِن قرابة عامين، أُخْرِج إلى الإقامة الجبرية في بيته، ومُنِع من التدريس والتحديث). فتنة استمرت 16 سنة بين 218 إلى 234 هجرية.
وصل بقي بن مخلد إلى بغداد فوجد ابن حنبل حبيسًا في بيته، وممنوعًا من التحاور مع الناس. (جُلِدَ في حضرة المعتصم 30 سوطًا، وحُبِس أكثر من سنتين: 28 شهرًا، وأطلق إلى بيته عام 220 هجرية)
أجَّر بقي بن مخلد حجرة في فندق، وحضر درسًا في علم الرجال كان يلقيه يحيى بن معين، وفي آخر الدرس سأل عن رأي يحيى بن معين في أحمد بن حنبل (لا يدري آراء العلماء في مسألة فتنة خلق القرآن)، فقال يحيى بن معين متعجِّبًا: ومثلنا نحن نَكْشف عن أحمد بن حنبل؟! ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. (على الرغم من مقاطعة ابن حنبل له)
قال بقي: فخرجت أستدلُّ على منزل أحمد بن حنبل فدُلِلت عليه، فقرعت بابه فخرج إلى وفتح الباب، فنظر رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله، رجلٌ غريبٌ، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومُقيِّد سُنَّة (أي جامع حديث)، ولم تكن رحلتي إلا إليك.
فقال: ادخُل الأسطوان (يعني: الممر إلى داخل الدار) ولا يقع عليك عين.
فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟! قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: إفريقية؟قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس.
قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيءٌ أحب إلى من أن أُحسن عون مثلك على مطلبه، غير أنِّي في حيني هذا مُمتحنٌ بما لعلَّه قد بلغك.
فقلت: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك، مُقبلٌ نحوك.
فقلت له: يا أبا عبد الله، هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فان أذنت لي أن آتي كل يوم في زِيِّ السُّؤَّال (في هيئة متسوِّل)، فأقول عند الباب ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية.
فقال لي: نعم، على شرط ألا تظهر في الحِلق، ولا عند المحدثين.
فقلت: لك شرطك.
فكنت آخذ عصا بيدي، وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي، ثمَّ آتي بابه فأصيح: الأجر رحمك الله -والسُّؤَّال هناك كذلك- فيخرج إلى ويُغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر.
فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له (المعتصم بالله على الأغلب حينذاك)، وولي بعده من كان على مذهب السنة (من المحتمل أن المقصود هو الواثق بالله على الرغم من أنه كان على رأي القائلين بخلق القرآن، لأن الخطيب البغدادي يذكر أنه رجع عن هذا القول، ومن المحتمل أن يكون الخليفة المتوكل)، فظهر أحمد وعلت إمامته، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرؤه عليَّ وأقرؤه عليه[2]!
النتيجة:
تأليف مسند بقي بن مخلد وهو في الواقع مسند ومصنَّف
المسند هو كتاب يجمع الأحاديث النبوية مرتبة حسب الراوي لا حسب الأبواب.
بالإضافة إلى الجودة
قال ابن حزم عن مسند بقي بن مخلد: "ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف. ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحدٍ قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام[3] مشاهير،
المسند عظيم بحق:
(للأسف الكتاب مفقود)
في المسند أكثر من 30 ألف حديث (30969) في 200 جزء (أكبر من مسند أحمد بن حنبل 30000 حديث الذي طُبِع في 20 مجلد) والرواة أكثر من ألف صحابي (1013)، وشيوخ بقي 284 عالم.
وصنَّف الصحابة بالعدد (أصحاب الألوف، وأصحاب الألف، وأصحاب المئين، وأصحاب المائة، وأصحاب العشرات، وأصحاب التسعة عشر، والثمانية عشر، ... إلى أصحاب الحديثين، وأصحاب الحديث الواحد)
التطبيق العملي للموقف:
مسند أحمد بن حنبل في أيدينا الآن وغيره من الكتب التي رحل بقي بن مخلد في طلبها 34 سنة، فهلَّا قرأنا فيها الآن، وهي موجودة في بيوتنا، وعلى شاشات الانترنت واللاب توب والموبايل
هل يمكن أن نتَّعظ بهذه القصة فنفرِّغ وقتًا للعلم، ونترك بعض الأعمال لنعرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
[1] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، 1/108.
[2] الذهبي: سير أعلام النبلاء 13/292.
[3] ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، 2/178.
التعليقات
إرسال تعليقك