الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كان السبب في تأسيس مدينة الكوفة هو حالة التَّرف التي أصابت المسلمين حين عاشوا في عاصمة الفرس المدائن.
كان السبب في تأسيس مدينة الكوفة هو حالة التَّرف التي أصابت المسلمين حين عاشوا في عاصمة الفرس المدائن. لاحظ ذلك عمر رضي الله عنه في هيئة الوفود التي تأتي له منها، كما لاحظ ذلك الصحابة الذين قطنوا هناك، حتى أرسل إليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: «إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ أُتْرِفَتْ بُطُونُهَا، وَخَفَّتْ أَعْضَادُهَا، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهَا».
أرسل عمر رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسأله عن سرِّ ذلك قائلًا: «أَنْبِئْنِي مَا الَّذِي غَيَّرَ أَلْوَانَ الْعَرَبِ وَلُحُومَهُمْ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «إِنَّ الْعَرَبَ خَدَّدَهُمْ وَكَفَى أَلْوَانَهُمْ وُخُومَةُ[1] الْمَدَائِنِ وَدِجْلَةَ»، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «إِنَّ الْعَرَبَ لا يُوَافِقُهَا إِلَّا مَا وَافَقَ إِبِلَهَا مِنَ الْبُلْدَانِ، فَابْعَثْ سَلْمَانَ رَائِدًا وَحُذَيْفَةَ فَلْيَرْتَادَا مَنْزِلًا بَرِّيًّا بَحْرِيًّا، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِيهِ بَحْرٌ وَلا جِسْرٌ»[2].
بحث الصحابيَّان الكبيران سلمان وحذيفة رضي الله عنهما عن المكان المناسب فوجداه في أرضٍ ذات حصباء ورمل، والعرب يُسَمُّون مثل هذه الأرض كوفة[3]، فاستقرَّا عليها، ووافقهما سعد رضي الله عنه، فتمَّ تخطيط المدينة هناك، وهو موقعها المعروف اليوم شرق مدينة النجف مباشرة، وصارت بذلك الكوفة هي قاعدة المسلمين الرئيسة في العراق، وبها مراكز القيادة وبيت والي العراق سعد رضي الله عنه، وانتقلت إليها معظم القبائل العربيَّة، وسرعان ما توسَّعت المدينة، وصارت أهمَّ مدن العراق آنذاك، متبوعةً بالبصرة التي أسَّسها عتبة بن غزوان رضي الله عنه قبل ذلك بقليل.
ممَّا يُذْكَر أيضًا بشأن طريقة بناء بيوت المدينة أنَّها كانت قد بُنِيَت في البداية بالقصب (الغاب)، فحدث حريقٌ التهم معظم بيوت المدينة فاستأذنوا عمر رضي الله عنه في البناء باللَّبِن (الطِّين) فوافق[4]، ولكنَّه نصح بلزوم الزُّهد، والبعد عن التَّرف، فقال لهم: «وَلا يَزِيدَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى ثَلاثَةِ أَبْيَاتٍ، وَلا تُطَاوِلُوا فِي الْبُنْيَانِ، وَالْزَمُوا السُّنَّةَ تَلْزَمْكُمُ الدَّوْلَةُ»[5]!
[1] الوخومة: هي الهواء غير الصحي، أو هي التخمة من الطعام، وفي كلام سعد نجد المعنيَيْن متواجدَيْن.
[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك (دار التراث)، 4/40، 41.
[3] البَلَاذُري: فتوح البلدان، ص271.
[4] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ (دار الكتاب العربي)، 2/353، 354.
[5] أبو عبيد البكري: المسالك والممالك، 1/427.
التعليقات
إرسال تعليقك