التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
استلم السلطان أحمد الثاني حكم الدولة العثمانية في سنة السلطان أحمد الثاني 1691م، وذلك بعد وفاة أخوه سليمان الثاني.
السلطان أحمد الثاني (1691-1695م)
صعد إلى العرش بعد وفاة سليمان الثاني أخوه أحمد الثاني، وهو من أم أخرى[1]، وكان أصغر من أخيه بسنة تقريبًا (48 سنة)[2]. من الناحية العلمية كان هذا السلطان أفضل تحصيلًا من أخويه السلطانين السابقين؛ محمد الرابع، وسليمان الثاني[3]، ولكن من الناحية السياسية والإدارية -في رأيي- كان مشابهًا لهما في الضعف وعدم الكفاءة، وكان قد قضى -كأخيه سليمان- جلَّ حياته (43 سنة) حبيسًا في قصره الملكي[4]! كان الحدث الأبرز الذي استقبل به هذا السلطان أول أيام حكمه هو الحملة العسكرية التي خرج بها الصدر الأعظم مصطفى باشا في اتجاه المجر منذ ثمانية أيام فقط.
موقعة سلانكامن، ووفاة فاضل مصطفى باشا كوبرولو (19 أغسطس 1691م):
كان الجيش العثماني في هذه الحملة يُقَدَّر بخمسين ألف مقاتل. لم تكن هناك قدرة لزيادة العدد عن هذا الرقم لاضطرار الدولة العثمانية لوضع جنود في جبهاتها الأخرى؛ روسيا، وبولندا، واليونان. وصل الجيش العثماني إلى بلجراد، ومنها اتجه شمالًا في اتجاه المجر. استعد الصليبيون بجيش مقارب في العدد للجيش العثماني، وإن كانت مدفعيته أفضل[5]. لم يحدث تطوير للمدفعية العثمانية منذ عقود. اخترق الجيش الصليبي حدود المجر جنوبًا إلى صربيا، وكان الجيش تحت قيادة لويس وليام Louis William، وهو أمير بادن Baden الألمانية، ويُعْرَف بلقب: «لويس الترك» Türkenlouis، لكثرة انتصاراته على الأتراك في هذه السلاسل من الحروب[6].
التقى الجيشان في 19 أغسطس 1691م عند قرية صغيرة في شمال صربيا اسمها سلانكامن Slankamen[7]، على الضفة الغربية لنهر الدانوب، وهي على بعد خمسين كيلو متر شمال بلجراد، في نقطة متوسطة تمامًا بين بلجراد وحدود المجر. امتلك العثمانيون زمام المبادرة، واحتلوا أماكن استراتيجية في ساحة القتال، ومن ثم بدأوا القصف المدفعي والهجوم بسلاح الفرسان.
صاحَب هذه المعركة البرية أخرى بحرية في نهر الدانوب المجاور حقق فيها الأسطول العثماني انتصارًا بارزًا. على الرغم من تفوُّق المدفعية الألمانية المصاحبة للجيش الصليبي فإن الجيش العثماني حقق تقدُّمًا ملحوظًا على خصمه، وزاد من ضغطه عليه، إلى الدرجة التي جعلت لويس وليام يفكر في الانسحاب[8]. في هذه اللحظة الفارقة حدث ما لم يكن في حسبان أحد! تلقَّى الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا طلقةً مباشرة في جبهته أسقطته شهيدًا على الفور[9]! كانت نقطة تحول في القتال.
فقد العثمانيون عزيمتهم فجأة، فالمفقود ليس مجرد قائد عسكري يمكن أن يحلَّ غيرُه محلَّه؛ إنما هو رجل الدولة الأول، ومستنهضها من سُباتها، وراسم سياستها في الداخل والخارج. كانت لحظات تسمُّر عند الجنود بعد الخبر الأليم. أدرك الجيش الصليبي ما حدث، فتحرك لويس وليام بحركة مباغتة شملت جيشه كله ليضغط على الجيش العثماني، وذلك تحت غطاء من القصف الشديد. نجحت حملة لويس، وتقهقر العثمانيون[10]. لم يكن تراجعهم منظَّمًا مما زاد في الأزمة، وبدأ الشهداء يتساقطون. تختلف التقديرات في عدد القتلى في الجيش العثماني، من خمسة آلاف[11] إلى خمسة وعشرين ألفًا[12]، ولكن الجميع متفق أن النصر كان حاسمًا للصليبيين. فقد الجيش العثماني في المعركة -أيضًا- معظم مدفعيته[13].
كانت الخسارة الأكبر في سلانكامن -مع كامل التقدير لكل الشهداء- هي فقد الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا كوبرولو! هذا الاسم ينبغي أن يُتَذَكَّر! إنه رجل من الصعب تعويضه، خاصة في هذا الزمن الذي عانى من «قحط الرجال»! يقول رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»[14]. كان مصطفى باشا هو الراحلة التي حملت هموم دولته، وقادتها إلى الثبات في زمن تزل فيه الأقدام. بارك اللهُ في خطواته بطريقة عجيبة. ليس العجب في سرعة تحوُّل البلاد تحت حكمه من الضعف إلى القوة، ومن الفوضى إلى الاستقرار، ولكن العجب كان في استمرار ذلك التحوُّل عقودًا بعد موته.
من الناحية الإدارية، والقانونية، والاقتصادية، والأمنية، ظلت البلاد تعمل بسياسته عدَّة عشراتٍ من السنين، ومن الناحية العسكرية، والسياسية، ظلت الأقاليم التي حرَّرها؛ صربيا، والبوسنة، في أيدي الدولة العثمانية قرابة قرنين من الزمن، وعلى الرغم من هزيمة سلانكامن فإن النمساويين لم يجرءوا على مطاردة الجيش العثماني، ولم يفكروا في استعادة بلجراد، بل قَبِلوا أن يُخْرِجوا كل ما هو جنوب الدانوب من حساباتهم. إنها آثار عجيبة باقية لرجل لم يتجاوز العامين في منصبه!
كتب عنه مؤلفو الموسوعة الإسلامية بقيادة المستشرق الأسكتلندي الشهير السير هاملتون چِب Sir Hamilton Gibb مقالة طويلة يمدحون تاريخه بإعجاب شديد، وكان مما قالوه في حقه: «على الرغم من أن فاضل مصطفى باشا تولَّى الصدارة لأقل من عامين فإنه تمكن من تحديد الاحتياجات الحقيقية للدولة، وأظهر القدرة على تطبيق الإصلاحات الضرورية»، وقالوا في موضع آخر: «كان معرفته بعلوم الحديث (النبوي)، وإخلاصه للشريعة الإسلامية، وحبه للعدل، مُعْتَرفًا به على نطاق واسع»[15]!
لم يشهد هذا الرجل العظيم هزيمةً في حياته. انتصر في كل معاركه، حتى في هذه المعركة الأخيرة لم يُسْتَشْهَد مهزومًا؛ إنما كانت الغلبة لجيشه قبيل موته، وتلقى الموت مقبلًا غير مدبر. لقد كانت الطلقة في جبهته، وليست في مؤخرة رأسه! وهذا أجمل ما في قصته!
تذكَّروا هذا الاسم جيدًا: فاضل مصطفى باشا كوبرولو! فهو لا يتكرر كثيرًا في التاريخ!
استقرار الدولة، وتوازنها مع النمسا، وفَقْد ولاء ترانسلڤانيا، واحتلال خيوس (1691-1695م):
بعد الجهود الجبارة التي بُذِلَت في العامين السابقين استقرت الأوضاع الداخلية في الدولة، ولم تكن هناك اضطرابات في فترة حكم السلطان أحمد الثاني. قادت الإصلاحات التي قام بها مصطفى باشا في الجيش إلى ثباته، فتجاوز أزمة هزيمة سلانكامن بنجاح. هذا أدى إلى حالة توازن ملحوظة على الجبهة العثمانية النمساوية. لم تفكر النمسا إلا نادرًا في تجاوز الدانوب جنوبًا في هذه المرحلة، ولكنها قامت ببعض الأعمال العسكرية في شماله. كان من أهم هذه الأعمال احتلال ترانسلڤانيا عسكريًّا بشكل نهائي في ديسمبر 1691م[16]، وبذلك خرجت هذه المقاطعة المهمة من تبعية الدولة العثمانية بعد مائةٍ وخمسةٍ وستين عامًا (منذ 1526). -أيضًا- شهدت هذه السنوات احتلال النمسا لمدينة ڤاراد Varad (الآن أوراديا Oradea في رومانيا) في يونيو 1692، وقد حاول العثمانيون استردادها في عام 1694م دون نجاح.
-أيضًا- سقطت مدينة چيولا Gyula المجرية في أيدي النمساويين في 12 يناير 1695م[17]. من الجدير بالذكر أن هذه العمليات الثلاث؛ ترانسلڤانيا، وڤاراد، وچيولا، تقع كلها شمال الدانوب، وكأن الطرفين قد اتفقا ضمنيًّا على أن ما هو جنوب الدانوب تابعٌ للدولة العثمانية، وما هو في شماله تابعٌ للنمساويين، على الأقل في هذه المرحلة.
كانت الجبهتان الروسية والبولندية هادئتين نسبيًّا في أثناء حكم السلطان أحمد الثاني، وعلى العكس منهما نشطت البندقية مرتين في بحر إيجة؛ الأولى كانت محاولة فاشلة لاستعادة كريت في أغسطس 1692م[18]، والثانية كانت ناجحة، حيث تمكنوا من احتلال جزيرة خيوس Chios المهمة بالقرب من الأناضول في 21 سبتمبر 1694م[19]. كان احتلال هذه الجزيرة يمثل تهديدًا خطرًا للمضايق البحرية، وقد يخنق إسطنبول.
موت السلطان أحمد الثاني (1695م):
كانت خسائر الدولة في فترة حكم هذا السلطان محدودة نسبيًّا. ظل الوضع كما هو عليه مع النمسا، باستثناء ضياع ترانسلڤانيا. لم يُحْكَم هذا الإقليم الروماني بشكل مباشر من العثمانيين قط؛ إنما كان يتمتَّع خلال فترة تبعيَّته بحكم ذاتي، ويدفع الجزية إلى الدولة العثمانية في مقابل حمايتها له من أعدائه (النمسا، وبولندا، وروسيا). لذا كانت خسارته غير مؤثرة تمامًا في الدولة. الخسارة الكبيرة حقًّا كانت جزيرة خيوس، وهي التي ينبغي أن تُقْلِق الدولة العثمانية في المرحلة القادمة كونها قريبة من الدردنيل. كان السلطان أحمد الثاني منزعجًا جدًّا من احتلال هذه الجزيرة، ويفكر في كيفية تحريرها. نُقِل عنه قوله المؤثِّر: «ساقيز (خيوس بالتركية) أحرقت قلبي؛ لو رأيتُ استعادتها ثم مِتُّ لما اكترثت»[20]! ومع ذلك لم يمهله الموت، فقد قضى نحبه فجأة في 6 فبراير عام 1695م[21]، بعد أربعة أشهر ونصف من احتلالها، تاركًا مهمة حلِّ معضلتها لخَلَفِه من السلاطين[22].
[1] Uluçay, Mustafa Çağatay: Padişahların kadınları ve kızları, Ötüken, Ankara, Turkey, 2011., pp. 56-61.
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 205.
[3] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/565.
[4] Alderson, Anthony Dolphin: The Structure of the Ottoman Dynasty, Clarendon Press, Oxford, UK, 1956., p. 36.
[5] Greiner, Christian: «Der Türkenlouis» Markgraf Ludwig von Baden-Baden (1655–1707) (in German), Militärgeschichtliche Beiträge, Herford/ Bonn, Germany, 1989., pp. 27-41.
[6] Ágoston, Gábor: Ahmed II (b. 1643–d. 1695) (r. 1691–1695), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (B).p. 24.
[7] Hötte, Hans H.A.: Atlas of Southeast Europe: Geopolitics and History, Brill, Leiden, Netherlands, 1521-1699, Edited by: Colin Heywood, 2015), vol. 1, p. 16.
[8] Chandler, David G.: A Guide to the Battlefields of Europe, Wordsworth Editions Ltd, 1998., p. 374.
[9] Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen; Kramers, Johannes Hendrik; Lewis, Bernard; Pellat, Charles; Schacht, Joseph & et al.: The Encyclopaedia of Islam, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1954., vol. 5, p. 262.
[10] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م صفحة 1/607.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/566.
[12] Greiner, Christian: «Der Türkenlouis» Markgraf Ludwig von Baden-Baden (1655–1707) (in German), Militärgeschichtliche Beiträge, Herford/ Bonn, Germany, 1989., pp. 27–41.
[13] أوزتونا، 1988 صفحة 1/566.
[14] البخاري: كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة (6133) عن عبد الله بن عمر، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب قوله ﷺ: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» (2547).
[15] Gibb, et al., 1954, vol. 5, p. 262.
[16] Young, William: International Politics and Warfare in the Age of Louis XIV and Peter the Great: A Guide to the Historical Literature, iUniverse, Inc, New York, USA, 2004., p. 437.
[17] Ágoston, 2009 (B), p. 24.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/567.
[19] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. l.
[20] أوزتونا، 1988 صفحة 1/568.
[21] إينالچيك، خليل: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناءوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م. صفحة 98.
[22] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 776- 780.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك