التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
قرن الثبات النسبي هو مرحلة في تاريخ الدولة العثمانية، وهذه المرحلة تمتد قرابة قرن من الزمان؛ من عام 1683 إلى عام 1768م.
نظرة إجمالية على الدولة العثمانية في قرن الثبات النسبي
بالنظر إلى عوامل الضعف والقوة في الدولة العثمانية في هذه المرحلة التاريخية التي أسميناها «قرن الثبات النسبي» (1683-1768م) نتوقع أن يكون مستوى الدولة ثابتًا. هذا يشمل الوضع السياسي، والعسكري، والاقتصادي، كما يشمل المساحة الكلية للدولة. يُعتبر قياس مساحة الدولة في هذه الفترة معيارًا جيدًا لتحديد مستوى الدولة عالميًّا؛ لأن الحدود بين الدول لم تكن محترمة أبدًا، ولا تتردد قوة في اجتياح الأراضي المجاورة لها إن وجدت في أصحابها ضعفًا.
من المألوف جدًّا في هذا الزمن أن تجد فرنسيًّا يحكم بولندا، أو نمساويًّا يحكم إسبانيا، كما أن الدول الصغيرة لا حقوق لها؛ بل تتنافس عليها القوى العظمى بشكل صريح وسافر. إن ثبات «مساحة» الدولة العثمانية «نسبيًّا» في ظل هذه الظروف لمن أكبر الأدلة على ثبات مستوى الدولة، كما أنه دليل على أنها ما زالت مرهوبة بالدرجة التي جعلت القوى المتضخمة آنذاك تتجنب إثارتها. لقد فقدت الدولة العثمانية في هذه المدة الزمنية الكبيرة (85 سنة) ما يقرب من 1,4 مليون كيلو متر مربع من أرضها، وعلى الرغم من أن الرقم يبدو كبيرًا إلا إنه لا يمثل سوى تسعة بالمائة فقط من مساحة الدولة آنذاك (15 مليون كيلو متر قبل بداية قرن الثبات النسبي)، وكان معظم هذا الفقد في أول القرن، ثم صار الوضع ثابتًا بقية القرن كله.
ومع ذلك فإننا نرى عند تحليل عوامل الضعف والقوة بدقة أن المتوقع أن يكون انهيار الدولة كبيرًا، نظرًا إلى أن مظاهر ضعفها في الحقيقة أكثر من مظاهر قوتها؛ ولكن هذا لم يحدث، والسِّرُّ الأكبر وراء ذلك هو انشغال العالم بنفسه بعيدًا عن الدولة العثمانية؛ فقد شهدت أوروبا عدة حروب هائلة، بداية بحرب الشمال العظمى، ومرورًا بحروب الخلافة في إسبانيا، وبولندا، والنمسا، وانتهاءً بحرب السنوات السبع الشرسة. هذه الحروب أَلْهَت أوروبا، واستنزفت قواها، خاصة أن موازين القوى كانت متعددة، ومتفرقة، وكلٌّ منها يبحث عن مصالحه الخاصة.
لم يكن الوضع في إيران بعيدًا عن ذلك؛ إذ دخلت الدولة الصفوية في حروب مع روسيا، وقاد ذلك إلى انهيارها. هذه الاضطرابات منعت القوى الكبرى من التفكير في الدولة العثمانية، ورضيت منها بالسكون، على الأقل في هذه المرحلة؛ مما ساعد على ثبات الدولة نسبيًّا.
ليس معنى هذا أن الدولة لم تَخُضْ حروبًا في هذه المرحلة التاريخية، إنما دخلت الدولة في الحقيقة في حروب ضد خمسة دول؛ النمسا، وروسيا، وبولندا، والبندقية، والصفوية. كانت للنمسا وروسيا الغلبة في بادئ الأمر لكن الأمر اتجه في النهاية للتوازن، أما حروب البندقية، وبولندا، والصفوية، فكانت المحصِّلة لصالح العثمانيين. لم تدخل الدولة العثمانية في هذا القرن في صراعات مع بريطانيا وفرنسا، المنشغلتين ببعضهما البعض؛ ولكنها كذلك لم تُقِم علاقات تحالف قوية مع أيهما.
على المستوى الداخلي شهدت الدولة العثمانية في هذا القرن هدوءً بارزًا في بعض الفترات، مثل الفترة بين عامي 1718 و1730م، والمعروفة بفترة التيوليب Tulip Period، وأيضًا الفترة بين عامي 1740 و1768م؛ ولكنها شهدت توترًا في فترات أخرى، كهذا الذي حدث عام 1730م؛ ولكن في العموم كان القرن هادئًا.
حدثت تغيرات كبرى في موازين القوى العالمية في هذا القرن، وسيكون لهذه التغييرات آثار كبيرة مباشرة على الدولة العثمانية. صارت بريطانيا هي القوة العسكرية الأولى في العالم، ومن خلال انتصاراتها في حروب الخلافة الإسبانية، والنمساوية، ثم في حرب السنوات السبع، صارت مهيمنة إلى حدٍّ كبير على قرارات معظم الدول في أوروبا، وستَحْدُث فيها الثورة الصناعية في العقود الأخيرة من هذا القرن نفسه، لتكون رائدة أوروبا والعالم في الصناعة والإنتاج، وهذا سيضاعف من قوتها وثروتها. دولة بهذا الحجم لن تترك الدولة العثمانية في سلام! نعم لم يظهر منها حتى هذه اللحظة بوادر شَرٍّ تجاه العثمانيين؛ لكن من المتوقع أن تكون إحدى خطواتهم القادمة في مناطق نفوذ الدولة العثمانية؛ ومع ذلك لم تتمكن الدبلوماسية العثمانية من التواصل مع الإنجليز بشكل وثيق في خلال هذه الفترة، وهذا في الواقع قِصَر نظر!
أما فرنسا فإنها كانت صديقة قديمة للدولة العثمانية؛ ولكن في زمان لويس الرابع عشر صارت العلاقة مترددة بين الفتور، والعداء، وأحيانًا الصداقة الباهتة. بعد الهزائم الفرنسية في هذا القرن ستبدأ فرنسا في مراجعة ملفاتها القديمة للبحث عن حلفاء، وستكون الدولة العثمانية منهم؛ ولكن هذا على كل حال أمر مؤقت؛ لأن الأوروبيين في هذا الوقت -وخاصة الفرنسيين، والإنجليز- لا يعرفون الصداقة الحقيقية، إنما هي «المصالح» و«الخداع»! بعد دورة من الودِّ والمحبة ستغدر فرنسا بالعثمانيين غدرًا عظيمًا!
أسوأ ما في هذا القرن بالنسبة للعثمانيين هو النمو الكبير للعدو الروسي! بدايات قرن الثبات النسبي كانت تحمل نجاحات مستمرة للروس في ظل قيادة بطرس الأكبر؛ ولكن بعد وفاته هدأت وتيرة النمو. ستصل روسيا إلى حالة من التوازن مع الدولة العثمانية في العقود الوسيطة في هذا القرن؛ ولكن بداية من عهد كاترين الثانية ستتغير الأمور لصالح الروس.
كان الروس هم أخطر أعداء الدولة العثمانية في هذه المرحلة؛ فهم أولًا قريبون من العثمانيين جغرافيًّا، وأحلام توسعهم تشمل كل أراضيهم الأسيوية والأوروبية، وثانيًا جيوشهم كبيرة وقوية، وثالثًا بلادهم مستعصية على الغزو لطبيعة الطقس شديدة البرودة، ورابعًا يدينون بالأرثوذكسية التي ينتمي إليها معظم نصارى الدولة العثمانية؛ مما يجعل من السهل عليهم أن يستقطبوا جماعات، أو أقطارًا كاملة، ليعملوا لصالحهم كجيوب وعيون خطرة داخل الدولة، وخامسًا تسيطر الدولة العثمانية على البحر الأسود والمضايق البحرية التي تقود إلى البحر المتوسط (البحار الدافئة)، وهذا سيمثل عامل إغراء كبير للروس لحرب العثمانيين؛ وذلك لإزاحتهم عن طريقها إلى العالم الخارجي؛ لأن بحار الشمال تتجمد معظم شهور السنة؛ مما يعزل روسيا عن التجارة، والحركة العسكرية، في وقت طويل كل عام. ستعاني الدولة العثمانية -والعالم أيضًا- من الروس معاناة كبيرة، خاصة بعد هذا النمو المفاجئ في القرن الثامن عشر.
الأخبار الجيدة سياسيًّا بالنسبة إلى العثمانيين في هذا القرن كانت في أمرين كبيرين؛ الأول هو اندثار، أو ضعف، بعض القوى التي دأبت على حرب الدولة العثمانية، والثاني كان في ميلاد «بروسيا» الألمانية! في هذا القرن اندثرت الدولة الصفوية، ثم بولندا، وأخيرًا البندقية، وهذه كيانات طالما حاربت العثمانيين، خاصة الصفويين والبنادقة. نعم كان اندثار هذه القوى نافعًا لقوى أخرى مُحارِبة -أيضًا- للدولة العثمانية؛ ولكن تقليل عدد الأعداء كان مفيدًا في تقليص التشتيت التي كانت تعاني منه الدولة عندما تقاتل في أكثر من جبهة.
قامت دولة جديدة في إيران مكان الصفويين هي الدولة الإفشارية، وكانت معادية هي الأخرى للعثمانيين؛ ولكن بصورة أضعف وأقل. سيتم تقسيم بولندا بين الروس، والنمساويين، والبروس، وستبتلع فرنسا البندقيةَ. ستقل الأهمية العسكرية لبعض الدول المعادية كالنمسا، وإسبانيا، والبرتغال، وهذا سيفيد العثمانيين بلا جدال. الفائدة الدبلوماسية الكبرى للدولة العثمانية في هذا القرن كانت ميلاد مملكة بروسيا! سيتجه العثمانيون إلى صداقة الألمان؛ بروسيا الآن، وألمانيا الموحَّدة لاحقًا.
كانت تحالفات الألمان أكثر صِدْقًا من تحالفات الإنجليز أو الفرنسيين، وفي الوقت نفسه هم أعداء مباشرون للنمسا، وروسيا، أعداء العثمانيين. -أيضًا- لن يحتفظ الألمان بصداقتهم للإنجليز بعد حرب السنوات السبع؛ لأن غدر الإنجليز كان سريعًا! أما عداوة الألمان للفرنسيين فتاريخية. هذه العوامل كلها ستجعل من بروسيا، ثم ألمانيا لاحقًا، حليفًا مناسبًا للعثمانيين، خاصة عندما يكشف الفرنسيون، ثم الإنجليز، عن وجوههم الحقيقية تجاه الدولة العثمانية. لن تخلو علاقة الألمان بالعثمانيين من بعض الهنات والتوترات؛ ولكن ستبقى هي العلاقة الأوثق إلى آخر أيام الدولة العثمانية.
في ظل هذا التوتر العالمي الشديد، والعلاقات المعقَّدة، يُعتبر ثبات الدولة العثمانية، ولو «نسبيًّا»، من أكبر الأدلة على عظمتها ومجدها[1].
[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 741- 744.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك