الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية يقف بشر أمام باب من أبواب السماء، ويدخلها، دخل الرسول السماء الدنيا في رحلة المعراج، ورأى أمورًا غيبية ومشاهد متميزة،
بدأ النبي في الصعود إلى السماء عن طريق المعراج حتى وصل إلى أبواب السماء الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ..".
الوصول إلى السماء الدنيا!
للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية يقف بشر -وهو حيٌّ- أمام باب من أبواب السماء ينتظر أن يُفتح له!
تُرى ماذا كان في عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستمع إلى حوار جبريل مع خازن السماء الدنيا؟ تُرى إلى أيِّ شيء كان ينظر؟ ما شكل باب السماء الذي وقف أمامه صلى الله عليه وسلم؟ وما لونه؟ وما سمكه؟ وما طبيعته؟ وما حجمه؟
لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم أن للسماء أبوابًا عدَّة؛ قال تعالى واصفًا حال الكفار: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40]. وقال في إهلاك قوم نوح عليه السلام: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11]؛ ولذلك عندما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام الباب قال -كما في رواية الرؤيا: "فَضَرَبَ -أي جبريل- بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا..". لكنه لم يصف لنا شيئًا عن هذا الباب، ويبدو أنه كان ملتفتًا بشكل كامل للحوار بين جبريل وخازن السماء، أو لعلَّه كان يُفَكِّر في شكل العالم العلوي المختفي خلف هذا الباب!
استفتح جبريل عليه السلام؛ أي قال لخازن السماء: افتح. فردَّ خازن السماء الدنيا بسؤال: مَنْ هذا؟! ويبدو أن مَنْ في داخل السماء لا يرى مَنْ في خارجها، أو لعلَّ خازن السماء لا يعرف الصورة البشرية التي عليها جبريل عليه السلام، التي لا يتمثَّل بها إلا إيناسًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد ردَّ جبريل ذاكرًا اسمه مجرَّدًا: جبريل. فسأل الخازن -كما جاء في رواية البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ وهذا يدعم أن خازن السماء لا يرى خارجها، وهنا أجاب جبريل: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
وهذه الإجابة في حدِّ ذاتها تكريم كبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناها أن أهل السماء يعرفونه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد سأل الخازن: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ فردَّ جبريل: نَعَمْ. والمقصود من الاستفهام هو السؤال عن قدومه للسماء وليس عن أصل رسالته صلى الله عليه وسلم؛ لأن بدء الرسالة مرَّ عليه سنوات، ولا شكَّ أن خازن السماء يعرف بأمرها، خاصة أن هناك تغييرات كونية في السماء الدنيا حدثت عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لمنع الشياطين من التسمُّع لأخبار السماء؛ قال تعالى على لسان الجنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9].
فهذا الحرس الشديد من الملائكة وقف بداية من البعثة النبوية؛ فهو إذن حدث معلوم مشهور. ولقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة السماء الدنيا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فقال -كما روى أبو هريرة رضي الله عنه: "إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ. فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ -وَوَصَفَ سُفْيَانُ (هو سفيان بن عيينة أحد رواة الحديث) بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا، وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا. فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ" [1]. كل هذا التسمُّع وقف عند بعثته صلى الله عليه وسلم: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6-10].
لقد كانت بعثته صلى الله عليه وسلم حدثًا مهيبًا في الكون؛ ولذلك سَعِدَ خازن السماء بقدوم محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ". ومع ذلك فإن هذه الفرحة والسعادة لم تجعله يتجاوز القوانين المعمول بها في حراسة هذا الباب، فسأل جبريل: وقد أُرسل إليه؟ مع أنه من المنطقي أن جبريل عليه السلام سيد الملائكة لن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء من تلقاء نفسه؛ ولكن من الواضح أن الملائكة تتبع نظامًا معيَّنًا ثابتًا لا اجتهاد فيه ولا استثناء؛ قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
ثم فتح خازن السماء الباب، ودخل جبريل عليه السلام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن الدخول فيه شيء من الجهد، أو أن باب السماء سميك جدًّا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عَبَّرَ عن الدخول بقوله: "فَلَمَّا خَلَصْتُ..". وهو يُوحي بجهد ما في المرور.
مع نبي الله آدم عليه السلام
ماذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الناحية من السماء؟ أو ما بين السماء الدنيا (الأولى) والسماء الثانية؟
لقد كان في استقباله أبوه وأبو البشر كلهم آدم عليه السلام! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ [2]، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى" [3].
كان وجود آدم عليه السلام في الاستقبال الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم معبِّرًا جدًّا؛ لأنه أول البشر، وله الأبوة على الخلائق أجمعين، بما فيهم كل الأنبياء، فكان من المناسب أن يكون هو المستقبل الأول لابنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو أسعد الناس بشرف هذا الابن العظيم؛ لذا فقد قال مسرورًا: "مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ". وفي رواية: "مَرْحَبًا وَأَهْلاً بِابْنِي، نِعْمَ الاِبْنُ أَنْتَ" [4].
وكان من المشاهد المؤثِّرة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من وجود أرواح البشر كلهم حول أبيهم آدم عليه السلام، وقد تجمَّعت أرواح أهل الجنَّة عن يمينه، وأرواح أهل النار عن شماله، وهو يضحك تارة، ويبكي تارة، وضحكه مفهوم، أما بكاؤه فقد يكون راجعًا لشفقته على أولاده الذين سيلقون هذا المصير المؤلم، وقد يكون لإحساسه أنه كان سببًا في نزولهم إلى الأرض، وتعرُّضهم للاختبار الذي فشلوا فيه، وهو ما سيُعبِّر عنه يوم القيامة بألفاظ موحية حين سيقول للبشر عندما يطلبون شفاعته: "وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ.." [5]. وأنا أحسب أن هذا الموقف عابر؛ أي أنه أثناء رحلة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؛ لأن بكاء آدم عليه السلام مؤلم وحزين، ولا يُتَوقَّع أن يُعاني منه آدم بشكل دائم؛ وهو من أصحاب الجنَّة لا شكَّ.
رؤية ثلاثة أنهار من الجنة
وكان من المشاهد التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك بين السماء الدنيا والسماء الثانية ثلاثة أنهار عظيمة هي النيل والفرات والكوثر! ومع أن ذكر هذه الأنهار في هذا الموضع جاء في رواية الرؤيا إلا أنها متحققة يقينًا لأن رؤيا الأنبياء حقٌّ، وكانت رؤياه صلى الله عليه وسلم تتحقَّق كفلق الصبح.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه "فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا. ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ" [6].
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة من رحلته ثلاثة أنهار! أما الأول والثاني فهما النيل والفرات، وستتكرَّر رؤية هذين النهرين في السماء السابعة؛ لذا فسوف نؤجِّل الحديث عنهما إلى هذا الموضع؛ وذلك لاحتياجنا إلى التفصيلات المذكورة هناك، أما نهر الكوثر فهو نهر فريد وعجيب، ويكفي للدلالة على عظمته أنه هدية رب العالمين لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم! قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، وهذا القصر الذي عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وماء النهر رائحته مسك أذفر، وهو أجود أنواع المسك، والنهر من أنهار الجنَّة، وجاء في وصفه أحاديث أخرى، وسنفرد له حديثًا آخر عند حديثنا عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنَّة في هذه الرحلة.
____________________
[1] البخاري: كتاب التفسير، سورة سبأ، (4522)، وابن ماجه (194).
[2] الأسودة: جمع سواد وهو الشخص؛ لأَنه يُرَى من بعيدٍ أَسْوَدَ. ابن منظور: لسان العرب، 3/224.
[3] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، (342)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
[4] البخاري: كتاب التوحيد، باب قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، (7079).
[5] مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (195)، عن حذيفة رضي الله عنه.
[6] البخاري: كتاب التوحيد، باب قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، (7079).
التعليقات
إرسال تعليقك