الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
الهجرة والتخطيط لعام جديد مقال يحتوي عبى خطة عملية مكونة من عشرة بنود تستوعب حياة المسلم بكافة جوانبها الإيمانية والدعوية والعلمية والأسرية
مع تتابع الأيام، ومرور الشهور والأعوام، يأتي حادث هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرَّمة إلى المدينة المنورة ليذكرنا دائمًا بمجموعة من الدروس والعبر غاية في الأهمية، وقد أبدع العلماءُ والكتّابُ قديمًا وحديثًا في استخراج هذه الدروس وتلك العبر.
ولا أدَّعي أنني قرأت كلَّ ما كتبه سادتنا وعلماؤنا حول هذا الحدث العظيم والجليل، وإنَّما قبسًا منه، ورأيتُ مما أفاض الله به عليهم من نور الحكمة ودقَّة الفهم ما تقرُّ به العين ويسعد به القلب. ولكني أردت أن أقف على ملمحٍ مهم للغاية -وقد عالجه العلماء بتوسع أيضًا- غير أني أردت أن أربطه بواقع كلٍّ منا، ألا وهو الهجرة والتخطيط لعام جديد.
ورغم أن خطة الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة وما بعدها، لم تكن خطة عام واحد، وإنما كانت لمرحلة كاملة من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولم تكن لفرد واحد أو أسرة واحدة أو قبيلة بمفردها، وإنَّما كانت لأمَّةٍ ممتدَّةٍ زمانًا ومكانًا -على الرغم من هذا كلِّه- إلَّا أنَّنا نعرض هنا إمكانيَّة أن كلاًّ منَّا يستطيع أن يضع خطَّةً لنفسه وأسرته وعائلته بل وأمَّته أيضًا.
سؤال وسؤال!
إنَّ السؤال الذي يطرح نفسه كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة هو ماذا أفعل خلال هذه الساعة أو هذا اليوم؟ ويزاد الأمر إلحاحًا مع مرور الشهور تباعًا، ويبلغ الأمر ذروته مع قرب انتهاء العام وبداية عام جديد، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12].
فماذا ستفعل خلال عام قادم؟!
إن هذا السؤال يقودنا إلى سؤال أصعب منه، وهو ماذا فعلت خلال عام بل أعوامٍ مضت؟!
لا شك أن البعض أحسنَ، ولا شك -أيضًا- أن الكثير نادم لشعوره أنه لم يحسن، وأن الأمور كانت لتسير بشكل أفضل لو أحسن التخطيط لها.
وحتى لا ندور في فلك ما مضى، دعونا نبدأ معًا صفحاتٍ بيضاء نقيَّة صافية، وحتى تكون تلك الصفحات ناصعة البياض دعونا نملأ سطورها الأولى بالاستغفار وحسن التوجُّه إلى الله أن يوفقنا إلى تدبُّر أمرنا، وأن يصلح حالنا.
نقاط خطتنا عشر فأتقنوها!!
مذ كنت في الثانوية، ومع بداية كلِّ عامٍ هجريٍّ أو ميلادي بل ومع تاريخ ميلادي الهجري والميلادي أيضًا، كنت مع كل مناسبة من هذه المناسبات أحاول وضع خطة للعام اللاحق لكلٍّ منها، وكانت الخطة تخرج بسيطة لكنها كانت تعبر عن حاجاتي وما أريده في تلك المرحلة، وأذكر من بنود تلك الخطط متابعة مجلات كذا وكذا (إسلامية شهرية)، وشراء كتب كذا وكذا (ثقافية عامة)، وتوفير بعض المصروف اليومي لتنفيذ عناصر الخطط.
ورغم أن الكثير من القراء يفوقون كاتب هذه السطور في مجال وضع الخطط ومتابعة تنفيذها، إلا أنني أرى أن بنود أو عناصر هذه الخطة البسيطة الهادفة ينبغي ألَّا تخلو من محورٍ من هذه المحاور:
أولًا: الجانب الإيماني
كيف حالك مع الله الآن وفيما مضى؟ وهل تريد أن تظل على هذه الحال أم تريد أن ترتقي؟
إذن فضع في خطتك في هذا الجانب حالك مع تدبر القرآن، ومع قيام الليل والتهجد والذكر، فضلاً عن صلاة الجماعة، والسنن الراتبة، وابدأ يومك دائمًا واختمه بالاستغفار.
ثانيًا: الجانب الدعوي
وهو ثمرة الجانب الإيماني، فالإناء -كما يقولون- لا يفيض إلا إذا امتُلِئ، فلن تكون داعية بحق إلا إذا امتلأ قلبك إيمانًا وصدقًا مع الله سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ تشعر بمسئولياتك تجاه إصلاح الناس، وسَلْ نفسك دائمًا هل تقوم بالدور المطلوب منك تجاه دعوتك أم لا؟
ثالثًا: الجانب العلمي
وأقصد به هنا التخصص العلمي، سواء كان دراسة في إحدى دور العلم (معهد أو جامعة ...)، أو كان عن طريق التلقي عن أحد العلماء، فماذا حصَّلت من علمٍ في تخصصك؟ وماذا تنوي أن تحصِّل؟ وهل أعددت العدة لذلك من وقت وجهد ومال؟ فكما قال يحيى بن معين: لا يستطاع العلم براحة الجسم.
رابعًا: الجانب الثقافي
وهو أوسع دائرة من الجانب العلمي، لكنه أقل تخصصًا، وهو المشهور بقولهم: اعرف شيئًا عن كل شيء. فماذا تتابع من أخبار؟ وأيُّ كتب عامة تقرأ؟ وكيف علمك بما على الساحة الآن من طرح لمختلف القضايا؟ ثِقْ أن هذا الجانب سيساعدك كثيرًا في اتخاذ قرارات مناسبة.
خامسًا: الجانب الصحي
الكشف الطبي وإجراء التحاليل حتى ولو لم تعانِ من أي أمراض، وقد يرى البعض هذا الأمر مبالغةً، غير أن الواقع يشهد بأن الكثير من الأمراض قد تنشأ بسيطة بحيث لا يظهر لها أعراض، وتستفحل بعد ذلك -عافانا الله جميعًا- خاصة في عصر الإشعاعات والتلوث بكافة أصنافه. ومن هنا أرى هذا لزامًا على كلٍّ منا، وإن كان مرتفع التكلفة إلا أنها في محلها. وكذلك يدخل في هذا الجانب الاعتناء بالنظافة العامة، والتجمُّل، وغير ذلك من هذا الباب.
سادسًا: الجانب المالي
ما هي خطتك وخطواتك في تنمية مالك إن كان لك، أو إيجاده إن لم يكن؟ فكثرة المال ليست عيبًا، فـ "نعم المال الصالح للرجل الصالح"[1] كما قال صلى الله عليه وسلم. ولا يتنافى هذا مع الزهد، ما دامت الدنيا في يدك وليست في قلبك، فلا بأس بوضع خطة لتنمية مالك لتطعم وتنفق مما وسع الله عليك.
سابعًا: الجانب المهني أو الوظيفي
لا بُدَّ أن تتضح لدى كل منا أهدافه وطموحاته المهنية والوظيفية، ولا بُدَّ أن يطوِّر نفسه من خلال الدورات التدريبية المتخصصة في مجال عمله أو مهنته، وأن يراعي في ذلك ميوله ومهاراته لينميها، ويصقل ما لديه من قدراتٍ، حتى يكون إنتاجه وفيرًا وذا جودة عالية، وينعكس ذلك -دون شك- على حياته فيعيش راضيًا مطمئنًا.
ثامنًا: الجانب الأسري
مما ينبغي ألَّا يغيب عن ذهن كل منا أثناء وضع خطته؛ أسرته (الزوجة والأولاد)، وكيف يرتقي بهم علميًّا وتربويًّا، وينتقل بهم من حَسَنٍ إلى أحسن. وأما غير المتزوج فسيكون هذا الجانب في خطته في طور الإعداد؛ حيث البحث عن الزوجة الصالحة، أو إتمام مراحل الخطوبة والعقد، وأن تكون خطواته واقعية وملائمة لأحواله المعيشية.
تاسعًا: الجانب العائلي
وهو أوسع دائرة من الجانب الأسري، وهذا الجانب يشمل الأهل والأصهار، وهو جانب من الأهمية بمكان، حيث تتصدر صلة الرحم في الإسلام مكانة عظيمة، ولا أخفيكم سرًّا فأنا أضع صلة الرحم كأحد الموارد المالية، يقينًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه"[2].
عاشرًا: الجانب الاجتماعي
وهو أكثر اتساعًا من الجانبين السابقين (الأسري والعائلي)، فهو يشمل كافة المعارف والأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وكلٌّ له خصوصية في التعامل. ويشمل أيضًا من نتواصل معهم عبر الإنترنت وغيره من الوسائل الحديثة، وهؤلاء لا بدّ أيضًا من وضع النقاط على الحروف في التواصل وحسن التعامل معهم لحتمية التأثير والتأثر بهم.
بين التخطيط والتوكل على الله
ممَّا لا شك فيه أن مثل هذه النقاط -رغم بساطتها- إلا أنها تستوعب حياة الإنسان، وتحتاج عند وضعها في خطة عملية واقعية إلى بعض الوقت والجهد، حتى تؤتي ثمارها المرجوَّة بإذن الله.
ومع الأخذ بكل الأسباب -قدر الإمكان- إلا أنَّنا يجب ألا ننسى دائمًا الاعتماد الكامل والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والارتباط به دائمًا وأبدًا، والإكثار من الدعاء بالتوفيق لما يُحبُّ ويرضى.
وأختم بقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:
"وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان.. ثم تستقر أخيرًا وفق مقتضيات الحكمة العليا، وفي حدود قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21][3].
التعليقات
إرسال تعليقك