د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
لماذا حارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل من عاهدهم من قبائل اليهود وهم بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ويهود خيبر ؟ ولماذا عاقب بعضهم بالإجلاء والبعض
السؤال الذي يحب المتشككون أن يثيروه دومًا! وهو لماذا حارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلَّ مَنْ عاهدهم من قبائل اليهود؟ ولماذا عاقب بعضهم بالإجلاء والبعض الآخر بالقتل؟
هذه شبهات يُثيرها البعض حول الدوافع وراء حروب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمَنْ عاهدهم من قبائل اليهود، ولكن الحقيقة أن اليهود بعد أن عاهدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووفَّى بعهدهم، وأحسن معاملتهم، ما كان منهم إلاَّ الإساءة، ونكران الجميل، ومحاولة تشكيك المسلمين فيما يعتقدونه من الحقِّ، وقد صبر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، وتغاضى عن الكثير من أخطائهم، ولم يُعاقبهم عليها رغم فداحتها، فإنَّ الأمر بلغ حدًّا لا يُطاق، وأصبح من الحكمة بمكان أن يتمَّ اتخاذ موقف حازمٍ إزاء ما يفعله اليهود.
يهود بني قينقاع
فلقد بدأت قبائلهم في نقض العهود الواحدة تلو الأخرى، فقام يهود بني قينقاع بفعلٍ فاحشٍ تمالَئُوا فيه على الاعتداء على شرف امرأة مسلمة، كانت تشتري من سوقهم بعض حاجتها، كما اجتمعوا على قتل رجل مسلم (1).
واليهود بهذا الفعل الفاحش، وهذه الجريمة النكراء، أصبحوا ناقضين لعهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد قَبِلَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإجلائهم وهو على استطاعة تامَّة أن يقتلهم جميعًا، وما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قبول الاكتفاء بإجلائهم عن المدينة يُعَدُّ عفوًا عظيمًا عن أناسٍ يستحقُّون القتل لنقضهم العهد، واعتدائهم على حرمات المسلمين، وتمالُئِهم على ذلك.
يهود بني النضير
ولم يُؤَاخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- طوائف اليهود الأخرى بفعل إخوانهم من بني قينقاع، مع أنه كان بالإمكان إجلاؤهم أيضًا؛ فجميعهم ينتسب إلى دين واحد، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحسن إلى مَنْ بقي من طوائف اليهود، ومع ذلك قابل يهودُ بني النضير هذا الإحسان بالإساءة، فحاولوا الغدر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتله، فبينما كان يجلس بينهم، ذهب أحدهم ليُلقي صخرة من أعلى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم!
إن الخيانة التي تسري في دماء اليهود قد دفعتهم إلى هذه الجريمة التي لا عقاب لها إلاَّ القتل جزاءً وفاقًا، ومع ذلك فقد حقن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دماءهم -بعدما مكَّنه الله –عز وجل- من رقابهم، وقذف في قلوبهم الرعب– وأجلاهم خارج المدينة، وتلك رحمة غير مسبوقة، ونادرة الحدوث من غير المسلمين في التاريخ البشري.
يهود بني قريظة
ولم يُعاقب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة مع بني النضير، ولم يُؤَاخذهم بجرم إخوانهم الذين أرادوا قتله؛ فقد كانوا على عهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أن يدافعوا مع المسلمين ضدَّ أي عدوٍّ يُهاجم المدينة، ولكنْ بنو قريظة خانوا المسلمين في أشدِّ المواقف حرجًا؛ فقد راسلوا الأحزاب المتجمِّعَةَ حول المدينة، والآتية من مكة وما حولها لغزو المدينة واستباحتها، وتأكَّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صحَّة هذا الأمر؛ فعن سعيد بن المسيب (2) في سياق قصة الأحزاب: فبينما هم كذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمنه الفريقان، كان موادعًا لهما، فقال: إني كنت عند عيينة بن حصن وأبي سفيان إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا فإنَّا سنُخَالف المسلمين إلى بيضتهم(3). أي أن اليهود يعِدون الأحزابَ إن خرج المسلمون إلى قتالهم أن يعتدي اليهود على نساء المسلمين وذراريهم وأموالهم؛ وهو معنى مخالفة المسلمين إلى بيضتهم.
فهي إذًا خيانة عظمى من هذه الفئة التي كانت على عهد وميثاق مع الدولة الإسلامية، ثم هي في أحلك الظروف تنقض العهد، وتتعاون مع العدوِّ المهاجم من خارج الدولة؛ فسبب غزوهم هو نقضهم للعهد الذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحلك الظروف وأصعبها على المسلمين، فهل يدَّعي أحدٌ بعد ذلك أن العقاب الذي أنزله النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم فيه شيء من الإجحاف أو الظلم؟ وماذا لو تمَّ لهم ما أرادوا من غدر وخيانة للمسلمين؟ إن مصير المسلمين في هذه الحالة -من دون شكٍّ- هو القتل والتشريد وضياع المال والولد والأهل(4).
غزوة خيبر
أمَّا يهود خيبر؛ فقد تحالفوا مع مَنْ جاءهم من يهود بني النضير كحيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهَوذة بن قيس الوائلي، وخرج هؤلاء إلى قريش يدعونهم إلى التجمع والتحزُّب لاستئصال المسلمين في غزوة الأحزاب، ثم خرجوا إلى غطفان؛ فدعَوْهم إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة، إنْ هم نصروهم، وأخبروهم أنَّ قريشًا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه. ثم خرجت يهود إلى بني سليم فوعدوهم المسير معهم إذا خرجت قريش(5).
لقد كانوا -إذًا- العقل المدبِّر لتحالف الأحزاب ضدَّ المسلمين، وعندما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمر قريش وأمِنَ جانبها بصلح الحديبية تفرَّغ ليهود خيبر وحاربهم.. فهل يُلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حربه لمن حزَّب الأحزاب بغرض إبادة جماعية للمسلمين؟!
1- ابن هشام: السيرة النبوية 2/47، 48، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/30، وابن كثير: السيرة النبوية 3/6، وقال أكرم ضياء العمري: وهذه الرواية ضعيفة في إسنادها انقطاع، ثم إنها موقوفة على تابعي صغير مجهول الحال، ولكن يُستأنس بها من الناحية التاريخية؛ فقد أوردتها معظم مصادر السيرة. انظر: السيرة النبوية الصحيحة، 1/300- 301.
2- هو سعيد بن المسيب المخزومي القرشي، أبو محمد، وُلِدَ سنة 13هـ، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاءً، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سُمِّي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة 94هـ. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/217، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/375، وأبو إسحاق الشيرازي: طبقات الفقهاء 1/57.
3- انظر مصنف عبد الرزاق (9737) 5/367، من مرسل سعيد بن المسيب، والرواية صالحة للاحتجاج بها مع المتابعة، وأبو نعيم: من مراسيل سعيد، دلائل النبوة 1/504، 505، وقد جاء من حديث عائشة، وأخرجه البيهقي في الدلائل 4/1008، والحاكم في المستدرك 3/34، 35، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في البداية 4/125- 128: ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها. وبهذا يكون الحديث حسنًا.
4- انظر ابن كثير: السيرة النبوية 4/115، 116.
5- انظر: الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/364، والديار بكري: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس 1/480.
التعليقات
إرسال تعليقك