جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
العالم العربي وانفصال جنوب السودان مقال بقلم د. عبد الله الأشعل، يبين موقف الدول العربية من انفصال جنوب السودان، فما هو؟ وما مخاطر الانفصال على العالم
الخلاف في السودان يتم بين النخب السياسية ولا يصل إلى مستوى الناس، ورغم ذلك فالنخب هي التي بيدها تقرير المصير, وفيما يتعلق بجنوب السودان الذي سيتصدر الاهتمام الإقليمي والدولي من الآن فصاعدًا، ترى الحركة الشعبية أن انفصاله مسألة وقت, بينما يرى حزب المؤتمر الوطني أنه يمكن استنقاذ الوحدة.
ولو أجرينا استفتاء بين الشعوب العربية حول الموقف العربي المحتمل من انفصال جنوب السودان, هل تعترف به الدول العربية أم تناهض الدولة الجديدة؟ فإنني أظن أن الشعوب ستجمع على رفض الانفصال لأسباب عديدة لا خلاف عليها، أهمها: أن هذه الشعوب لا تريد انفصال أي جزء من الجسد العربي تحت أي مسمى وبأي ذريعة, كما أن هذا الانفصال سيشجع على حالات انفصال مماثلة في العالم العربي وإفريقيا, وستكون آثار الدومينو أسرع مما تتوقع، خاصة أن تفتيت العالم العربي مخطط أمريكي صهيوني نجح حتى الآن في فلسطين والعراق ورسم قسماته في لبنان, ويوشك أن يهدد وحدة اليمن، وغير ذلك كثير مما تم رصده من مؤشرات خطيرة في كل الدول العربية, خلال العقد الأخير, وبالأخص منذ الغزو الأمريكي للعراق.
وتدرك الشعوب العربية أيضًا أن قسطًا مما آل إليه حال العالم العربي يعود إلى سياسات الحكومات الوطنية التي أسهمت في نجاح مخطط التفتيت, ولا تزال قناعتي تتزايد بأن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية كانت نقطة البداية في تفكيك العالم العربي وتمزيقه, ثم تفكيك أوطانه الواحد تلو الآخر حتى رغمًا عن الحكام.
ويترتب على ذلك أن انفصال الجنوب الذي تلح الحركة الشعبية لتحرير السودان عليه سيكون مؤامرة في مواجهة نظام أعلن صراحة أنه سعى بكل الطرق لتفادي ذلك، وأنه حتى عندما قبل في اتفاق نيفاشا فكرة الاستفتاء أسلوبًا لتقرير المصير فإنه كان يقصد طمأنة الجنوبيين، خاصة النخبة السياسية والعسكرية التي استقوت بالخارج لتحارب الجيش السوداني، وأن تصل إلى إحدى الحسنيين: إما الاستيلاء على الحكم في الخرطوم لتصوغ السودان الجديد العلماني الليبرالي وتزيل منه المسحة الإسلامية التي أتت بها حكومة الإنقاذ، أو أن تستقل بالجنوب تفعل به ما تشاء.
هكذا كانت نيفاشا نقطة التقاء حاسمة بعد صراع عسكري شغل السودان وحشد موارده في محرقة امتدت لأكثر من عقدين من الزمان، فسره الطرفان تفسيرًا متباينًا، فرأت فيه الخرطوم انتصارًا لخط السلام وحقن الدماء والتفرغ للتنمية والبناء، بينما رأت فيه الحركة الشعبية انتصارًا كاسحًا أرغم الخرطوم على تنازلات حاسمة وهي اقتسام الثروة والسلطة، والانفراد تمامًا بالجنوب دون وجود للسلطة السودانية فيه، والتوغل في الجيش والحكم باسم الشراكة، فصار النائب الأول للرئيس من الجنوب ونائب رئيس البرلمان من الجنوب وعدد من المحافظين في الشمال والوزراء من الجنوب، ومع ذلك ينعي الجنوبيون على الخرطوم أنها لم تتح مكانًا لهم في الكوادر العليا في الدولة, ولكن التنازل الأخطر هو الإقرار للجنوب بتقرير مصيره.
غير أن الاتفاق أشار أيضًا درءًا للشبهات إلى أن السنوات الست الأولى لتطبيق الاتفاقية هي اختبار لمدى نجاح الشمال في جعل الوحدة أكثر جاذبية من الانفصال، أي أن الانفصال عقوبة للشمال؛ لأنه عجز مقدمًا في أن يجعل الوحدة معه جاذبة, فحق الطلاق البائن على هذا الشريك الفاشل.
ونود أن نسجل في هذا المقام أن تقرير المصير حق للشعوب ضد المستعمر، وأن صراع الخرطوم مع الحركة الشعبية وأنصارها من الإقليم وفي العالم أصحاب مشروع تفتيت السودان لم يكن حربًا أهلية، وإنما هو صراع للمحافظة على وحدة السودان ضد التمرد المدعوم من الخارج.
كما نود أن نسجل أن التزام جعل الوحدة جاذبة للجنوب كان صيغة مخادعة لثلاثة أسباب: الأول: أن هذا الالتزام يقع على عاتق شريكي الحكم, فلا يجوز أن نلوم المؤتمر الوطني دون الحركة الشعبية التي تتحمل النصيب الأوفى من اللوم.
السبب الثاني: أن الحركة الشعبية فهمت اتفاق نيفاشا على أنه تسليم بحقها في تأصيل وتكريس الانفصال، فأتاح لها الاتفاق مساحة واسعة من الحركة داخل الجنوب ومع الخارج وأنشأت بعثات دبلوماسية موازية، وتحدثت الحركة بشكل معارض لحكومة الوحدة وضد الدستور الانتقالي، بينما فهم المؤتمر الوطني الاتفاق على أنه فسحة وفرصة للعمل على تدارك أسباب الصراع وتوثيق أواصر العلاقة على أسس جديدة، وأن حق تقرير المصير الوارد في نص الاتفاق علامة على حسن نية الخرطوم وعدم رغبتها في قهر الجنوب على علاقة لا ترضيه.
السبب الثالث: أن أصدقاء الإيجاد ودولاً أخرى ساعدت على تهيئة ظروف الانفصال بدعمها المكشوف للحركة الشعبية.
وقد أظهرت الحركة الشعبية صراحة خلال المعركة الانتخابية الرئاسية أنها مستعدة لمنع الانفصال إذا تنازل البشير لياسر عرمان مرشح الحركة في الانتخابات، أي سيطرة الحركة على كل السودان وتحريرها من العرب المسلمين أو فصل الجنوب، وعلى الخرطوم أن تختار أحدهما وهما خياران أحلاهما مُرّ.
لقد انهمكت الحركة الشعبية في مساندة متمردي دارفور وساندت مسرحية المحكمة الجنائية الدولية ضد البشير لاتهامها له بجرائم في دارفور، ولكن البشير يفهم جيدًا أنه لو أبدى استعداده للاعتراف بإسرائيل وأغفل المقاومة العربية وتخلى عن مواقفه العربية ضد إسرائيل، فسيظل رئيسًا مدى الحياة وتحافظ له واشنطن على السودان موحدًا، وربما سعت إلى ترشيحه لجائزة نوبل للسلام فيتحول بقدرة قادر عندهم من قاتل مطلوب أمام المحكمة الجنائية إلى قديس ينشر السلام والعدل في أحراش السودان.
وقد فهمت أن حكومة الخرطوم تتمنى ألا تمضي الحركة الشعبية في خطها لفصل الجنوب، ولكنها تواجه ضغوطًا هائلة من واشنطن وغيرها ومن توظيف المحكمة الجنائية ضد البشير, معنى ذلك أن البشير يوافق على إجراء الاستفتاء وفق اتفاق نيفاشا، لكنه واثق من أن النتائج سيتم تزويرها ما دام الشمال لا يملك رقابة النتائج، وما دامت تلك خطة واشنطن التي أشار ممثلها في الخرطوم إلى أنه لن ينازع في نتائج انتخاب البشير، لعل ذلك الفضل يدفع البشير إلى عدم تعويق الانفصال.
فإذا رفض البشير الانفصال فسيكون عليه أن يحارب الجبهة مرة أخرى، كما أن رفضه سيواجه بضغوط هائلة من الغرب بحجة عدم احترامه لاتفاق نيفاشا.
ولكن الحقيقة أن فهم الطرفين لحق تقرير المصير ليس واحدًا، كما أن المؤامرة كانت واضحة منذ البداية, سيترتب على رفض الخرطوم الاعتراف بالجنوب كدولة مستقلة عزوف الدول الأخرى عن الاعتراف بها، لأن الاعتراف ضد رغبة الحكومة المركزية يعد إسهامًا في تقويض وحدة السودان.
نفهم أن الحكومة في الخرطوم مستعدة لإرضاء الجنوب حتى بالتنازل عن حصتها في بترول الجنوب، ولكن الجنوب مدفوع لاعتبارات سياسية دولية نحو الانفصال, حتى يمكن للدولة الجديدة أن تعترف بإسرائيل, وتتابع مع متمردي دارفور فصل الإقليم وتفتيت بقية الأراضي السودانية.
أمام هذا المأزق, ما هو موقف الدول العربية؟ هل تعترف بالدولة الجديدة امتثالاً للرغبة الأمريكية أم تعزف عن الاعتراف احترامًا لرغبة الحكومة السودانية؟
فإذا اعترضت الحكومة السودانية أملاً في استجلاب الوحدة أو الفدرالية في وقت لاحق، فلا أظن أن الدول العربية ستكون ملكية أكثر من الملك كما يقولون، خصوصًا أن مصر مثلاً بادرت في وقت مبكر استشرافًا لهذا المصير ومدت جسورًا مع حكومة الجنوب, وأنشأت بعثة قنصلية في جوبا عاصمة الجنوب.
إنني أنبه إلى أن المؤامرة على وحدة السودان لا قِبَل للسودان وحده بمواجهتها، وإذا تسامحت الدول العربية مع انفصال الجنوب، فإن تفكيك السودان قادم وتفتيت الدول العربية يكون قيد النظر ما دامت السابقة قد تم إرساؤها.
ولذلك فإنني أطالب بوقفة عاقلة في هذه المأساة، وليس واردًا استجداء الحركة الشعبية حتى ترضى بعدم فصل الجنوب، أو بوعود باستثمارات عربية في الجنوب ثمنًا لمنع الانفصال، وإنما تكون هذه الوعود في مؤتمر تحضره كل الأطراف وأن تكون جزءًا من حل شامل يحفظ للسودان وحدته.
وأخيرًا، وكما أشار أحد كبار المسئولين السودانيين أثناء لقاء في الخرطوم أوائل يوليو/ تموز 2010م: لماذا يصر الجنوب على الانفصال وهو منفصل فعلاً وروابطه مع الشمال شكلية، إلا أن يكون الانفصال مقصودًا منه تمزيق السودان, وإدخاله في دوامة جديدة من الصراع؟!
والحق أن التصدي للمؤامرة منذ بدايتها أقل كلفة وأبعد نظرًا من الاستسلام لأوهام التسوية وسراب السلام، ولكن العالم العربي قد بدأ ينفرط عقده مما لا يدع مجالاً للشك بأن السلام المصري الإسرائيلي رأس الشرور للعالم العربي ومصر في المقدمة.
ونظرًا لمخاطر الانفصال على العالم العربي والإسلامي وإفريقيا, فقد ترى الدول في العوالم الثلاثة عقد قمة مشتركة لتدارك المخاطر، فالدول العربية والإفريقية هشة, وأضعفها بلاء الداخل وتجبُّر الخارج؛ مما أنهك قدرتها على الصمود حتى للحفاظ على وحدتها الداخلية.
المصدر: موقع الجزيرة.
التعليقات
إرسال تعليقك