ملخص المقال
هل فكرت يوما أن عالم الغيب بمشاهده وصوره وأهواله قريب منك؟ هل حاولت أن تستشعر أن يوم القيامة واقع لا محالة؟
هل فكرت يومًا أن عالم الغيب بمشاهده وصوره وأهواله قريبٌ منك؟ هل حاولتَ أن تستشعر أن يوم القيامة واقع لا محالة؟ وهل تصوّرتَ أن من تحبهم، وتضحي من أجلهم سيتركونك وحدك حائرًا في ذلك اليوم؟
إنه يوم القيامة.. يومٌ كان مقدارُه خمسين ألف سنة!
منذ أيام قليلة وأنا أقرأ في كتاب الله استوقفتني آية عظيمة، هي قول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]. وهي آية ذكرتني بواقعة حدثت قبل قراءتي لهذه الآية الكريمة بيوم واحد فقط؛ إذ تشاجرت عائلتان كبيرتان في مدينتنا، وأراد كل منهما أن يبطش بالآخر، ولم يراعوا حرمة شهر رمضان، وثارت العصبية بين الفريقين، كل منهما يريد أن يفتك بصاحبه، وانتهى الأمر بإصابات خطيرة في كلا الطرفين، ورغم ذلك ما زال كثير منهم يؤمنون بصحة ما فعلوه، وقد أخبرني أحدهم أن أحد الفريقين يزرع العداوة في قلوب صغار العائلة ليشبُّوا على ذات الطوق، ويسيروا مسيرة الآباء الأولى!!
إن الفرقة والتشرذم أمران لا يحبهما الله تبارك وتعالى، بل إن سبب نزول قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، أن أحد اليهود أثار الحميَّة والعصبية بين الأوس والخزرج، وذكّرهم بأيامهم في الجاهلية وحروبهم، وكادت الفتنة أن تقضي على الفريقين لولا أن النبي r استطاع أن يقضي عليها بعدما هدّأ الفريقين، ثم قال r: "أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟" وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح y[2].
إن فعل النبي r هو المثال الذي يجب أن تحتذي به الأمة في فضِّ منازعاتها، هذه المنازعات التي نراها بكرة وعشية بين الأب وابنه، والزوجة وزوجها، والجار وجاره... وما كان قضاء النبي r على هذه الفتنة في مهدها إلا انطلاقًا من الإسلام؛ فعصبية الإسلام هي ما يجب أن يتحلى به كل مسلم في حياته، أن يعيَ جيدًا الحب لله والكره لله والغضب لله والسلم لله U.
ونرجع إلى قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، هذه العصبية التي طالما اختلْتَ بها في الدنيا، التي طالما نصرتك على المظلوم، وجعلتك تأكل مال الضعيف، وجعلت الناس كل الناس يخافون منك ومن شيعتك ورهطك.. أوَلا تتذكر الحوار المبكي بين شعيب u وقومه؟ هؤلاء القوم الذين قالوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 90]، أي: لولا قومك وعائلتك وعشيرتك التي تحميك لآذيناك، وأنزلنا بك كل عقوبة وشر. لكنه u يجيبهم في حسرة وألم، ويعجب من فهمهم الضيق لمعنى العصبة والعائلة والعشيرة قائلاً: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 91]، أي: هل جماعتي أحقُّ بالمجاملة والرِّعاية عندكم من الله؟ فتتركون مساءتي إكرامًا واحترامًا لقومي، ولا تتركونها إعظامًا لله القدير أن تنالوا نبيَّه بمساءةٍ، وقد نبذتم جانب الله وحقَّه، وجعلتموه وراء ظهوركم لا تطيعون ربَّكم، ولا تعظِّمونه. وربِّي يعلم جميع أعمالكم وهو محيطٌ بها، وسيجزيكم عليها أوفى الجزاء[3].
ويأتي يوم القيامة بمشاهده العظيمة التي تأخذ الألباب، وتمحي الذكريات... ذكريات الأبوة والأمومة والأخوَّة والقرابة والصداقة، تلك المشاعر الفياضة التي لم تزل منك لحظة في الدنيا، ولكنها تُنفى كل النفي يوم القيامة؛ حيث لا أنساب بينهم. أتستشعر ذلك المعنى، حيث الكل يفرُّ من الكل، إذ تقول حينها: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً} [الفرقان: 28]؟! لقد تقطعت الروابط، وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا، وشملهم الهول بالصمت، فهم ساكنون لا يتحدثون، ويعرض ميزان الحساب وعملية الوزن في سرعة واختصار {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 101-104].
التعليقات
إرسال تعليقك