الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
اهتمت مؤسسة الحكم والخلافة بالقضاء والقضاة، فشدَّدت الرقابة عليها، منعًا للمحاباة، وتلافيًا للظلم
اهتمت مؤسسة الحكم والخلافة بالقضاء والقضاة، فشدَّدت الرقابة عليها، منعًا للمحاباة، وتلافيًا للظلم؛ ولذلك فإنها حرصت على عزل القاضي الظالم المتحامل، فقد ذكر الكندي أن "يتيمًا كان في ولاية يحيى بن ميمون وهو على القضاء (عام 105هـ) فردَّ أمره إلى عريف[1] قومه، وكان في حجره[2]، فتظلَّم اليتيم بعد بلوغه من العريف إلى يَحْيَى زمانًا، فلم يُنصفه منه، فكتب إليه اليتيم بأبيات:
أَلا أَبْـلِــغْ أَبَا حَسَّـانَ عَنِّــي *** بِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ عَلَى هَوَاكَا
حَكَمْـتَ بِبَاطِـلٍ لَــمْ تَأْتِ حَقًّا *** وَلَــمْ يُسْمَعْ بِحُكْمٍ مِثْـلُ ذَاكَــا
وَتَـزْعُمُ أَنَّـهَا حَـــقٌّ وَعَــدْلٌ *** وَأَزْعُمُ أَنَّهَــا لَيْسَتْ كَـذَاكَـا
أَلَــــمْ تَعْلَـمْ بِـــأَنَّ اللــهَ حَقٌّ *** وَأَنَّـــكَ حِيـنَ تَحْكُمُ قَدْ يَرَاكَا
فبلغ يحيى بن ميمون ذلك فسجن اليتيم، فرُفع أمره إلى (هشام بن عبد الملك)، فعظم ذلك عليه، وكتب بعزله، وكان في كتابه إلى الوليد بن رفاعة: "اصرف يحيى عمَّا يتولاَّه من القضاء مذمومًا مدحورًا..."[3].
وهذا التشبُّث في وجوب تحقق العدل، ونبذ الظلم من قِبَلِ الخلفاء والأمراء لم يكن معروفًا مطلقًا في العالم آنذاك، ولم يكن هناك من يهتمُّ من الخلفاء والأمراء بشئون العامة والأيتام إلا في الحضارة الإسلامية؛ مما يُدلل على رُقِيِّ هذه الحضارة وإنسانيتها.
وقد تطوَّر الأمر بعد ذلك، فأصبح قاضي القضاة مختصًّا بالتحقيق مع قضاة الأقاليم الذين كانت تُرفع فيهم الشكاوى، فكان يعزل من استحقَّ العزل، ويُبقي من ثبُتت براءته، وكانت الشكوى كيدية في حقِّه، حيث جاء في "قضاة قرطبة" أنه "كان للأمير الحَكَمِ قَاضٍ بكورة جيان، فتظلَّم أهل الكورة منه، فعهد الأميرُ الحَكَمُ إلى سعيد بن محمد بن بشير -قاضي الجماعة في قرطبة- أن ينظر على قاضي جيان، فإن ظهر بريئًا أقرَّه على قضائه، وإن ظهر عليه ما رُفع إلى الأمير فيه، عزله عن الكورة، فنظر قاضي الجماعة، فألفاه بريئًا، فقال له: انصرف إلى قضائك..."[4].
بل أصبح هناك قضاء مختصٌّ يُشبه إلى حدٍّ كبير محكمة النقض في زماننا الآن، سُمِّيَ هذا القضاء بـ"خُطَّة[5] الردِّ"، وهو بمنزلة محكمة للنقض في زماننا الحاضر، ويتمثَّل اختصاص صاحب الردِّ في النظر في أحكام القضاة، فيحكمُ فيما استرابه الحُكَّام، وردُّوه عن أنفسهم، وكان يقوم -كذلك- بمنزلة التفتيش على الأحكام والقضاة، ويُطالعُ رعايا الكور، ويقف على أحوال الناس والقضاة.
وممن تولَّى هذا المنصب محمد بن تمليخ التميمي في عهد الحكم المستنصر (ت 366هـ)، وعبد الملك بن منذر بن سعيد... وأُطْلِق على من تقلَّد هذه الخطة اسم صاحب الردِّ؛ لأن الأحكام تُرَدُّ إليه، وكان أدنى منزلة من قاضي الجماعة، أي أقرب للقُضاة من قاضي القضاة[6].
د. راغب السرجاني
[1] عريف القوم: عالمهم ورئيسهم. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عرف 9/236.
[2] أي كان تحت وصايته ورعايته.
[3] الكندي: الولاة والقضاة ص341.
[4] الخشني: قضاة قرطبة ص15.
[5] الخُطَّة: الأمر، وهي أيضًا: الانتصاف. انظر: الزبيدي: تاج العروس، باب الطاء فصل الخاء مع الطاء 19/257.
[6] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس ص5.
التعليقات
إرسال تعليقك