التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
شبهة محاولة تردي النبي من شواهق الجبال، ما حقيقة محاولة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الانتحار والتردي من شواهق الجبال في فترة انقطاع الوحي؟ وما هو رد
هناك الكثير من الأخطاء التي وقع فيها الكثير من طلاب العلم نتيجة لسوء قراءتهم لكتب السيرة النبوية أو لقصر معرفتهم برجال الحديث الشريف، وقد ترتب على هذا الكثير من التصورات الخاطئة، وفي هذه السطور نعرض لواحدة من الأخطاء التاريخية المندرجة في كتب الحديث والسيرة النبوية، وهي محاولة رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتحار والتردي من شواهق الجبال في فترة انقطاع الوحي وفتوره بعد اللقاء الأول بينه وبين جبريل عليه السلام.
ولمزيد من الجلاء عن هذه المسألة ينبغي أن نورد الروايات التي تناولت هذا الخبر ويبان موقف علماء السيرة والحديث مناه، على هذا النحو.
الطبقات الكبرى لابن سعد
روى ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: "أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما نزل عليه الوحي بحراء، مكث أيامًا لا يرى جبريل عليه السلام، فحزن حزنًا شديدًا، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء مرةً؛ يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدًا لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتًا من السماء، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقًا للصوت، ثم رفع رأسه: فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعًا عليه، يقول: "يا محمد، أنت رسول الله حقًّا، وأنا جبريل، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه، وربط جأشه، ثم تتابع الوحي بعد وحمي"[1].
تاريخ الرسل والملوك للطبري
روى الإمام الطبري في تاريخه قال: "حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدِّثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة؟ فذكر الحديث إلى قوله: "حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلى بمثل ما صنع بي، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:15]، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتابًا.
قال: ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلىّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو، لا تحدث بها عني قريش أبدًا! لأعمدنّ إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه أقتلها فلأستريح. قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.. "[2].
صحيح البخاري
وقد روى البخاري رحمه الله هذه القصة أيضًا مدرجةً في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر، قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت.. فذكر الحديث إلى قولها: ".. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغن حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه، تبدّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل، تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك"[3].
رأي علماء الحديث والسيرة في بلاغ الزهري
بيّنت الأحاديث السابقة أن ورقة مات قبل تتابع الوحي، وقد انقطع الوحي مدة، ويوضح بلاغ الزهري الأزمة التي تعرض لها الرسول –صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي، وأنه كان يتردى من شواهق الجبال، وأن جبريل كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله؛ ولكن بلاغ الزهري لا يصلح لإثبات الحادث لتعارضه مع عصمة النبي –صلى الله عليه وسلم، ثم إنه مرسل ضعيف[4].
على أن هناك مؤشرات تدل على ضعف هذه القصة، فمن تلك المؤشرات:
1 أن البخاري ساق الخبر بعد عبارة "فيما بلغنا"، متخللة حديث بدء الوحي، الذي رواه بسنده من طريق "معمر، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة"، ولولا عبارة "فيما بلغنا"، لصار خبر محاولة التردي من الشواهق صحيحًا؛ ولكن ابن حجر في فتح الباري قال: "إن القائل "فيما بلغنا" هو الزهري، وعنه حكى البخاري هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرماني: وهذا هو الظاهر"[5]. فحكم هذه الزيادة الإرسال، ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند أهل الحديث، يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان: "مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، كلما قدر أن يسمّي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه".
2 ومما يبيّن ضعف القصة، أن الرواية ذكرت أن سبب حزن النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولته للانتحار؛ إنما كان خوفًا من انقطاع الوحي والرسالة، ولو كان هذا صحيحًا، لكان ظهور جبريل عليه السلام مرة واحدة وقوله: "إنك لرسول الله حقًّا" كافيًا في تأكيد أنه مبعوث إلى العباد وتحقّق الاصطفاء له، فلا معنى لأن يدخل الحزن في قلبه وأن يحاول الانتحار مرات ومرات كما في رواية الزهري.
فالحادثة المذكورة قد اجتمع فيها الشذوذ في السند، والنكارة في المتن.
3 أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقد جاء من طريق محمد بن عمر الواقدي، ومعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن الواقدي متروك الحديث، فقد قال الإمام البخاري عنه في كتاب الضعفاء: "متروك الحديث"، وكذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب وغيرهم.
ومن المعلوم أن وجود راوٍ متروك في حديث، يجعله مردودًا غير قابل للتصحيح بالشواهد الأخرى.
أما رواية الإمام الطبري فهي مردودة سندًا ومتنًا؛ فإن المتن فيه نكارة ظاهرة، حيث جعل الرؤيا الأولى لجبريل عليه السلام رؤيا منامية، وهذا مخالف لبقية النصوص التي تُثبت أنها رؤية حقيقية، ثم كان من جواب النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا أقرأ؟"، وهذا لم يحصل؛ فإن الثابت في صحيح البخاري وغيره أنه كان يقول: "ما أنا بقاري"، دعك من إغفال هذه الرواية لذكر ذهاب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى خديجة وورقة بن نوفل رضي الله عنهما، وما ذُكر في الروايات الصحيحة أن الرؤية الثانية لجبريل عليه السلام كانت بعد فتور الوحي وانقطاعه.
وإذا نظرنا إلى سند هذه الرواية وجدنا فيه عدة علل: الإرسال، فإن عبيد بن عمير ليس صحابيًّا، إنما هو من كبار التابعين، كما أنّ في السند راويان متكلم فيهما: سلمة وهو ابن فضل الأبرش قال عنه الحافظ ابن حجر: "صدوق كثير الخطأ"، وابن حميد الرازي كذّبه جماعة من العلماء كأبي زرعة وغيره.
ونأتي إلى رواية الإمام الزهري في حديث عائشة رضي الله عنها، فقد وردت القصة على كيفيات مختلفة في البخاري ومسند الإمام أحمد ومصنف الإمام عبد الرزاق وغيرهم؛ لكن الناظر إلى رواية الإمام الزهري يجد أنها باطلة، ووجه ذلك أن معظم روايات هذا الحديث لم تذكر ذلك الحدث، وقد روى الإمام البخاري حديث نزول الوحي أكثر من مرة في صحيحه دون أن يشير إلى هذه القصة[6].
4 ذكر الألباني أن لهذه الزيادة علتين:
الأولى: تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة.
الأخرى: أنها مرسلة معضلة فإن القائل: (فيما بلغنا) إنما هو الزهري كما هو ظاهر من السياق وبذلك جزم الحافظ في الفتح، وقال: (وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً). واعلم أن هذه الزيادة لم تأت من طريق موصولة يحتج بها[7].
[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى، 1968م، 1/ 196.
[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، دار التراث – بيروت، الطبعة الثانية 1387هـ، 2/ 300 301.
[3] البخاري: صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصالحة (3)، الناشر: دار ابن كثير، اليمامة – بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 – 1987م، جـ6/ 2561.
[4] أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة، 1/126 127.
[5] ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، الناشر: دار المعرفة بيروت، 1379هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، 12/ 359.
[6] قصة محاولة التردي من الجبال – شبهات وردود. موقع الشبكة الإسلامية.
[7] الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة، 1/ 41. وانظر السلسلة الضعيفة (1052، 4858).
التعليقات
إرسال تعليقك