التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
جاءت النجدة الصليبية الهائلة من أوربا للمشاركة في الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، فماذا فعلت الجيوش الإسلامية المتحدة؟
تكلمنا فيما سبق عن الوضع في مملكة بيت المقدس وإمارتي أنطاكية والرها بعد تأسيس مملكة بيت المقدس، ثم انقضاض الصليبيين على باقي المدن الإسلامية، ووقوعها في أيديهم، فماذا فعل ريمون الرابع؟! لقد فشل ريمون الرابع في رفع حصار تانكرد من حول اللاذقية، وكنا قد علمنا قبل ذلك أن ريمون يسيطر على اللاذقية لصالح الدولة البيزنطية، ومن ثَمَّ فقد ترك ريمون المدينة وانطلق إلى القسطنطينية ليتباحث مع ألكسيوس كومنين كيفية تخليص اللاذقية[1]، غير أنهم فوجئوا بحدث مهم ضخم غيَّر من حساباتهم، وأوشك أن يغيِّر من خطط الجميع!!
مفاجأة غير متوقعة
لقد وصلت جموع هائلة من الغرب الأوربي تسعى للمشاركة في الحملة الصليبية! لقد سمع الأوربيون بأخبار تأسيس ثلاث إمارات في داخل أراضي المسلمين، وسمعوا بأخبار الغنائم والأموال والأسلاب، وسمعوا بأخبار الموانئ الإسلامية التي تتساقط في أيدي الصليبيين، وسمعوا عن العقود التجارية التي فازت بها أساطيل الجمهوريات الإيطالية، وسمعوا عن استكانة المسلمين غير المتوقعة وفرقتهم وتشرذمهم، لقد دفعتهم كل هذه المعلومات إلى تجميع الأعداد الكبيرة للاستفادة من هذا الموروث السهل[2]!
ولقد وصلت هذه الجموع الهائلة إلى القسطنطينية في 494هـ/ مارس سنة 1101م[3]، وكان أول المجموعات وصولاً هي مجموعة اللمبارديين، وهم أهل شمال إيطاليا، وكان على رأسهم (أنسلم) رئيس أساقفة ميلانو، وكان بصحبتهم أيضًا مجموعة من الأمراء الإيطاليين مثل ألبرت وجيوبرت وهيومن وغيرهم[4]، غير أن عموم الحملة كانوا من الفلاحين والعوام، وأيضًا من النساء والأطفال، وكانت هذه الحملة أشبه ما تكون بحملة بطرس الناسك ووالتر المفلس[5].
ولعلنا نلاحظ أن الحملة العسكرية الأولى كانت بقيادة أدهمار المندوب البابوي (أسقف بوي)، ثم كانت النجدة الثانية بقيادة دايمبرت رئيس أساقفة بيزا، وها هو أنسلم رئيس أساقفة ميلانو يقود النجدة الحالية، ليبرز لنا بوضوح دور الكنيسة في تحريك الجموع بغزو البلاد الإسلامية.
وعندما وصلت هذه الجموع إلى القسطنطينية قاموا بالإفساد الذي تعوَّد عليه شعب أوربا في ذلك الوقت؛ مما دفع ألكسيوس كومنين أن يعجل بنقلهم عبر مضيق البسفور إلى أرض آسيا الصغرى، حيث توجهوا إلى مدينة نيقية، ليكونوا في انتظار بقية الجموع[6]، ثم اتفق ألكسيوس كومنين مع ريمون الرابع على أن يرأس ريمون الرابع هذه الجموع لخبرته في المنطقة[7]، ولدرايته بحروب المسلمين، وليضمن كذلك أن توجه الحملة إلى أطماع ألكسيوس كومنين، لا إلى أطماع تانكرد أو بلدوين الأول أو غيرهما!!
ثم مرَّ شهر أو يزيد ووصلت جموع أخرى من الصليبيين، وخاصة من فرنسا وألمانيا[8]، وانضمت إلى القوات الأولى في نيقية، ليصل مجموع الحملة الصليبية إلى مائتي ألف في أقل تقدير! بينما يصل بهم ابن الأثير إلى ثلاثمائة ألف[9]!!
الاتجاه لغزو مناطق الدانشمند
لقد كان جيشًا هائلاً تولى قيادته ريمون الرابع، وسار بهم في اتجاه دوريليوم ليلحق ببقية الصليبيين في الشام، وكانت هذه هي رغبة ألكسيوس كومنين أيضًا، حيث كان يريد إعادة السيطرة على المدن التي ضاعت منه هناك[10]، وكان ريمون يريد لهذه الجموع أن تساعده في إسقاط طرابلس لينشأ له إمارة هناك، إلا أن جموع اللمبارديين رفضت هذا التوجُّه، وأرادت أن تنحرف بالحملة إلى الاتجاه الشمالي الشرقي لتغزو مناطق بني الدانشمند، وذلك بغية فك الزعيم النورماني الكبير بوهيموند من أسره[11].
ولا ننسى أن جموع اللمبارديين من إيطاليا بلد الزعيم المأسور، وعندما أشار ريمون الرابع إلى صعوبة تحرير بوهيموند المحبوس في قلعة نكسار الحصينة في مناطق جبلية وعرة على ساحل البحر الأسود[12] رفض اللمبارديون إشارته، وقالوا: إنهم إن فشلوا في تحريره فإنهم على الأقل سيدمرون أهم مدينتين في أقاليم بني الدانشمند، وهما مديتنا أماسية وسيواس[13]، وأمام إصرار القوة الرئيسية في الجيش رضخ ريمون الرابع، وانحرف بالجيش في الاتجاه الشمالي الشرقي، فوصلوا إلى أنقرة في (494هـ) أواخر يونية 1101م واستولوا عليها في سهولة بالغة، ثم أكملوا طريقهم في اتجاه قسطموني شمالاً[14]!
اتحاد المسلمين
إنهم يتجهون الآن إلى عمق بلاد الأتراك المسلمين، فماذا كان ردُّ فعل الملك غازي كمشتكين؟ وماذا فعل قلج أرسلان الذي كان يتخذ من قونية قاعدة له؟
لقد قام الملك غازي بالفعل الصائب إذ أرسل إلى قلج أرسلان السلجوقي ليستعين به في حروب الصليبيين، ولم يخيِّب قلج أرسلان ظنَّه، وجمع جيشه وانضم إليه، بل وانضم إليهما بعد ذلك بعض جنود رضوان بن تتش زعيم حلب[15]!
لقد كان خليطًا عجيبًا من زعماء تناحروا قبل ذلك كثيرًا، ولكنهم رأوا أن الدائرة ستدور عليهم قريبًا، وخاصةً أن هذه الجموع تجاوزت المائتي ألف؛ ولذلك توحدوا!!
ومع كون التاريخ غير مبشِّر، ومع كون القلوب غير صافية إلا أن الوَحْدة -مهما كانت- تؤتي ثمارًا ونتائج، نعم قد تكون ثمارًا مؤقتة إن لم تكن هذه الوحدة لله، ولكنها تظل أفضل من الفرقة والتشتت. وهكذا على الرغم من عدم قناعتنا الكاملة بهذه الشخصيات فإنهم استطاعوا أن يفعلوا شيئًا، وشيئًا كبيرًا، لتبقى القاعدة الذهبية الأصيلة: "يد الله مع الجماعة"[16].
ماذا فعلت الجيوش الإسلامية المتحدة؟!
لقد تقدمت فرقة قلج أرسلان أمام الجيش الصليبي، ثم بدأت تظهر الانسحاب أمامه لتشجعه على الاستمرار في التقدم، وفي أثناء هذا الانسحاب كان السلاجقة يقومون بحرق المزروعات في الحقول، وبردم الآبار، وتدمير المؤن والأغذية حتى لا يتركوا فرصة للجيش الصليبي للتزود بأي تموين، وطال الطريق على الجيش الصليبي، وبدأ يشعر بالتعب والإنهاك[17]، وخاصةً أن هذه الأحداث كانت تدور في شهر يوليو من سنة 1101م، والحرارة عالية، وطبيعة الطريق الجبلية والصخرية مرهقة، وأكثر من ذلك أن السلاجقة كانوا يمارسون مع الجيش حروب استنزاف سريعة أثناء حركة الجيش جعلت الحالة النفسية للصليبيين مضطربة، وحاول ريمون أن يثني الجيش الصليبي عن عزمه باقتحام أرض الدانشمنديين، إلا أن الجيش أصرَّ على تخليص بوهيموند ليكون قائدًا لهم في غزو بلاد الشام!
واجتاز الصليبيون نهر هاليس ليدخلوا بذلك إلى أرض بني الدانشمند، وواصلوا تقدمهم شرقًا حتى وصلوا إلى مدينة مرسيفان في منتصف الطريق تقريبًا بين نهر هاليس ومدينة أماسية[18]، وأدركت عيون الأتراك في ذلك الوقت أن الصليبيين قد بلغوا درجة كبيرة من الإعياء، فنصبوا كمينًا خطيرًا للجيش الصليبي، وبدأ الصدام المروّع!!
ومع كثرة أعداد الصليبيين فإنَّ اللقاء لم يكن متكافئًا، فالصليبيون في حالة مزرية من الجوع والعطش والإرهاق وارتفاع درجة الحرارة، إضافةً إلى وجود أعداد كبيرة من الفلاحين غير المحترفين للقتال، مع جهل الجميع بطبيعة الأراضي ومسالكها.
لقد كان قتالاً من جانب واحد، استطاع فيه المسلمون أن يحققوا نصرًا ساحقًا، حيث هلك أربعة أخماس الجيش الصليبي، وأُسر معظم الباقين، ولم ينجُ من الجيش إلا مجموعة من الأمراء على رأسهم ريمون الرابع، والذين نجوا بأنفسهم عندما رأوا الدائرة تدور على جيشهم، ووصلوا في فرارهم إلى القسطنطينية[19]!
فَقَد الجيش الصليبي في هذه المعركة أكثر من مائة وستين ألف مقاتل، وفقدوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم وسلاحهم[20]، وفقدوا سمعتهم وهيبتهم، وكانت هذه الأحداث في (494هـ) أوائل أغسطس سنة 1101م.
معركة هرقلة الأولى
ولم تكن هذه هي الكارثة الأخيرة للصليبيين في هذه الظروف، إذ إنه في هذه الأثناء وصلت مجموعة أخرى من الصليبيين للقسطنطينية، وكانت هذه المجموعة مكونة من خمسة عشر ألفًا من الفرسان والمشاة الفرنسيين، على رأسهم وليم الثاني كونت نيفرز Nevers[21]، وكان وصول هذه المجموعة في أثناء القتال الدائر في مرسيفان، وانطلق وليم الثاني في أراضي آسيا الصغرى، ووصل إلى أنقرة ودخلها بسهولة، غير أنه لم يدرك أي الطرق سلك الجيش الصليبي الأول، وحيث إن الجيش الصليبي الأول قد هلك بكامله تقريبًا، ومن فرَّ منه فرَّ في اتجاه الشمال؛ فإن الكونت وليم لم يعرف إلى أي الاتجاهات يسير[22].
ثم إنه في النهاية توجه بجيشه جنوبًا إلى هرقلة، وهناك كانت الأنباء قد وصلت إلى القوات الإسلامية المتحالفة بوصول هذا الجيش الصليبي الجديد، فنزلوا مسرعين في اتجاه هرقلة، وهم في حالة معنوية مرتفعة جدًّا لانتصارهم الباهر في المعركة السابقة، وكان اللقاء حاميًا في هرقلة في أواخر أغسطس سنة 1101م، وكان بالنسبة للمسلمين نزهة عسكرية بالقياس إلى اللقاء السابق! وما هي إلا ساعات قليلة وفَنِي الجيش الصليبي بكامله، ولم ينجُ منه إلا زعيمه الكونت وليم الثاني كونت نيفرز، ومعه ستة من خاصَّته وأتباعه[23]! وتُعرف هذه المعركة في التاريخ بمعركة هرقلة الأولى؛ تمييزًا لها عن معركة هرقلة الثانية التي دارت بعدها بأقل من أسبوعين.
[1] Raoul de Caen, pp. 706-707.
[2] انظر: محمد سهيل طقوش: تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ص96.
[3] setton, vol. pp. 343-367.
[4] Albert d`Aix: p. 559.
[5] زابوروف: الصليبيون في الشرق ص127-129؛
Anna Comnena, pp. 355-356.
[6] Albert d`Aix: pp. 561-562.
[7] رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 2/39، 40.
[8] Albrt d`Aix pp. 562-563.
[9] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/29.
[10] Albrt d`Aix pp.560- 562.
[11] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/29.
[12] Setton: op. cit., 1, p. 35.
[13] Grousset: Hist. des Croisades, 1, pp. 324-325.
[14] Runciman: op. cit., ll, p. 22.
التعليقات
إرسال تعليقك