ملخص المقال
وقفات في بداية العام الهجري مقال بقلم الشيخ ماهر محمد مليجي، يضع بعض الوقفات المهمة حتى نحسن استقبال العام الهجري الجديد.. فما وقفات بداية العام الهجري؟
إن من فضل الله علينا أن أمهلنا لعام آخر، وأملى لنا كي نرجع إليه، فنحن نودع اليوم عامًا، ونستقبل آخر، نودع عامًا بحسناته وسيئاته، بتقصيرنا وتفريطنا، بخيرنا وشرنا، ونستقبل عامًا ينادينا.. يا ابن آدم، أنا عام جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
إن التاجر الناصح هو الذي يُعِدُّ دراسة شاملة في بداية صفقته، ويعد كشف حساب في نهايتها؛ ليرى أين مواطن قوته وربحه، وأين مواطن ضعفه وخسارته، هذا في أمر الدنيا.. أما في أمر الآخرة فإننا نحتاج إلى محاسبة للنفس قبل الحساب...
في ذلك اليوم العصيب الذي {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2].
في ذلك اليوم الذي يشيب فيه الوليد، ويصيح فيه أطهر الناس، وهم الرسل والأنبياء (يا رب سلِّم، يا رب سلم).
في ذلك اليوم الذي تنطق فيه الأرض {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4].
في ذلك اليوم الذي يحشر الناس فيه عراة حفاة غرلًا على صعيد واحد، في ذلك اليوم تتنزل فيه الشمس على قدر ميل من الرءوس، حتى يعرق الناس فيبلغ عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم.
في ذلك اليوم يحاسب الناس على ما قدموه في الدنيا، وما طبقوا من الهدف الذي خلقوا من أجله، يحاسبون حسابًا دقيقًا لا يخطر على بال الإنسان، فيقول عندما يرى كتابه مُلئ بما لا يتوقع {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، حتى الذرة يسأل عنها {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
مما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة سؤاله عن أربع، كما روى الترمذي -وصححه الألباني- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه".
وإنَّ أوَّل ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، كما روى أبو داود في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّلَاة، يَقُولُ رَبُّنَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا فِي صَلَاةِ عَبْدِي، أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّة، وَإِنْ كَانَ انْتُقِصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعْ؟ء فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّع، أَتِمُّوا لِعَبْدِيِ فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ. ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالَ عَلَى ذَلِكَ".
وتشهد الجوارح والجلود على صاحبها وهي تعلن قائلة: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
فمن أراد أن ينجو من هذا الخزي والسؤال يوم القيامة، فليحاسب نفسه في الدنيا قبل حسابها في الآخرة، ذلك ما ذكرنا به الله -سبحانه وتعالى- عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
وها هو ذا الفاروق -رضي الله عنه- يفهم هذه الآية فهمًا دقيقًا ويقول لرعيته: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر).
هكذا كان دأب الصحابة جميعًا -رضي الله عنهم- لشدة خوفهم من السؤال يوم القيامة، يقول عامر بن عبد الله رضي الله عنه: (رأيت نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتهم، فحدثونا أن أحسن الناس إيمانًا يوم القيامة أكثرهم محاسبة لنفسه).
وجاء جيل التابعين ليكرر ما فعله الرعيل الأول...
فهذا الحسن البصري: يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه، فيأتي أحدهم إليه في الغداة يقول له: لقد أبكيت الليلة أهلنا. فيقول له: (إني قلتُ: يا حسن، لعلَّ الله نظر إلى بعض هنَّاتك فقال: اعمل ما شئت فلست أقبل منك شيئًا).
بهذا الحس كانوا يعيشون، وبهذا العمق الإيماني كانوا يهنئون، عرفوا ما يريد منهم ربهم، فكانوا مصاحف متحركة، وكان الواحد منهم ألفًا منا ويزيد، فإذا أردنا أن يُعاد لنا المجد والسؤدد، فلا مناص من اقتفاء آثارهم، فهل نحن فاعلون؟!.. هذه هي الوقفة الأولى.
الوقفة الثانية: إلى متى الغفلة؟!
حتى متى نظل في غفلة.. حتى متى تظل القلوب بالدنيا متعلقة.. أما آن لكِ يا نفس من عودة.. لا بد أيها الأحبة من توبة وأوبة وعودة.
- لا تقنط من رحمة الله، فأنت لست أسوأ من قاتل التسعة والتسعين نفسًا.
- لا تقنط فلست أسوأ من الزاني، لست أسوأ من المتكبرين، لست من المشركين الذين يدعون مع الله إلهًا آخر.
- الحبيب يقسم برحمة الله بك أيها العاصي.. عن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ثم لجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم"[1].
- والمراد بهذا: أنَّ لله تعالى حكمةً في إلقاء الغفلة على قلوب عِباده أحيانًا، حتى تقع منهم بعض الذنوب، فإنه لو استمرت لهم اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع الذكر لما وقع منهم ذنب، وفي إيقاعهم في الذنوب أحيانًا فائدتان عظيمتان:
إحداهما: اعتراف المذنبين بذنوبهم، وتقصيرهم في حق مولاهم، وتنكيس رءوس عجبهم، وهذا أحب إلى الله من فعل كثير من الطاعات، فإن دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العجب، وفي الحديث الذي حسنه البيهقي، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم تذنبوا لخشيتُ عليكم ما هو أشد من ذلك العجب".
- قال الحسن: لو أن ابن آدم كلما قال أصاب، وكلما عمل أحسن، أوشك أن يجنَّ من العجب.
- وقال بعضهم: ذنب أفتقر به إليه أحب إليَّ من طاعة أدل بها عليه، أنين المذنبين أحبُّ إليه من زجل المسبحين؛ لأن زجل المسبحين ربما شابه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار والافتقار.
- وقال الحسن: إن العبد ليعمل الذنب فلا ينساه، ولا يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة.
الفائدة الثانية: حصول المغفرة والعفو من الله لعبده، فإن الله يحب أن يعفو ويغفر، ومن أسمائه الغفار والعفو والتواب، فلو عصم الخلق فلمن كان العفو والمغفرة.
- قال بعض السلف: أول ما خلق الله القلم كتب إني أنا التواب، أتوب على من تاب.
- قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه.
يا ربي أنت رجائي *** وفيك حسنت ظنـي
يا رب فاغفر ذنوبي *** وعافني واعف عنـي
العفو منك إلهـي *** والذنب قد جاء منـي
والظن فيك جميـل *** حقـق بحقك ظنـي
اسرق نفسك من الذنوب والمعاصي:
جاء لص ليسرق دار مالك بن دينار، فدخل البيت في جوف الليل، وكان مالك يصلي، وتسلل يبحث عن شيء يسرقه، فلم يجد شيئًا يسرقه، فأراد أن يخرج كما دخل، فناداه مالك: تخرج هكذا كما دخلت؟ أتحسن الوضوء؟ فقال: نعم. ووضع له ليتوضأ، ووقف الرجل يصلي حتى أُذِّن لصلاة الفجر، وخرج وقد تاب، فسُئِل عن سر ذلك، فقال: جئت لأسرقه فسرقني.
الوقفة الثالثة: مع شهر الله المحرم
هو خير الأشهر.. عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ وأي الأشهر أفضل؟ فقال: "خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم"[2].
ومن فضله رغَّب النبي في صيامه، فقال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم".
- وعن قتادة: أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر، هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
- ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقًا، وكان صيامها كلها مندوبًا إليه كما دلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم ختام السنة الهلالية، وبعضهم مفتاحًا لها، فمن صام شهر ذي الحجة -سوى الأيام المحرم صيامها منه- وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة.. فيُرجى أن تكتب له السنة كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة، وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
- قال ابن المبارك: (من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرًا). يشير هذا القول إلى أنَّ الأعمال بالخواتيم، فإن كان البداءة والختام ذكرًا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملاً للجميع، ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
شهر الحرام مبارك ميمـون *** والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجـه إلهه *** في الخلد عنه مليكـه مخزون
فاللهم اختم لنا عامًا مضى بالقبول والغفران، واجعل عامنا هذا عام فتح ونصر وطاعة.. يا رب العالمين.
المصدر: موقع منارات.
[1] رواه مسلم.
[2] رواه النسائي.
التعليقات
إرسال تعليقك