د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
عبادة الاعتكاف عبادة عظيمة غفل عنها كثير من الناس وهذه الغفلة منذ زمن التابعين.
عبادة الاعتكاف:
عبادة الاعتكاف عبادة عظيمة غفل عنها كثير من الناس وهذه الغفلة منذ زمن التابعين؛ حتى قال ابن شهاب الزهري: "عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ".
عبادة أجرها عظيم:
فقد روى الطبراني والبيهقي بسند جيد كما قال الهيثمي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ، كُلُّ خَنْدَقٍ أَبَعْدُ مِمَّا بَيْنَ الْخافِقَيْنِ»[1].
عبادة على المسلمين، والأمم السابقة:
ورد ذكرها في القرآن مرتبطة برمضان في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187].
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
زمان الاعتكاف:
يكون زمان الاعتكاف في رمضان، وخاصة العشر الأواخر، ويجوز في غيره روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»[2].
وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ «يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا»[3]، واعتكف الرسول ﷺ مرة في غير رمضان، ففي البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ، وَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ، فَضَرَبَتْ قُبَّةً، وَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا، فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ (واحد له وثلاثة لزوجاته)، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلاَ أَرَاهَا»، فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ العَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ»[4].
الاعتكاف سنة للرجال والنساء:
وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهية الأربعة، ولا يكون واجبًا إلا في حال النذر، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوْفِ نَذْرَكَ فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً»[5].
شروط الاعتكاف:
يشترط لصحة الاعتكاف عدة شروط وهي:
1- شروط عامة: الإسلام، والعقل، والتمييز
2- والنية، وتجديدها عند الخروج والعودة.
3- ويشترط لاعتكاف الزوجة أن يأذن لها زوجها.
4- ولا يصح ابتداء الاعتكاف إلا بطهارة المعتكف مما يوجب الغسل كجنابةٍ أو حيضٍ أو نفاس.
مكان الاعتكاف:
بالنسبة للرجال: أجمعوا على أن الاعتكاف مكانه المسجد، وإلا لا يسمى اعتكافًا شرعيًا، أما بالنسبة للنساء: لا يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، ويرى الحنفية أنه يجوز للمرأة أن تعتكف في بيتها.
متى يبدأ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؟ ومتى ينتهي؟
في البداية قولان:
القول الأول: يبدأ قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وقول عند الحنابلة.
القول الثاني: يبدأ الاعتكاف من بعد صلاة فجر اليوم الواحد والعشرين، وهي رواية عن أحمد، وقول الأوزاعي وابن المنذر، لما رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ[6]، وينتهي وقت الاعتكاف في أيام العشر الأواخر من بعد غروب شمس آخر يومٍ من رمضان، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ويرى البعض ومنهم الإمام مالك أنه يفضَّل له البقاء حتى الخروج لصلاة العيد.
مدة الاعتكاف:
أقل مدة:
القول الأول: أقلُّ زمانٍ للاعتكاف لحظةٌ وهو ما ذهب إليه الحنفية، والشافعية، وهو قولٌ للحنابلة، حيث لم يخص الشارع عددًا أو وقتًا، والبعض حدَّدها بساعة، لما روي عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: «انْطَلِقْ بِنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَعْتَكِفُ فِيهِ سَاعَةً».
القول الثاني: أقل الاعتكاف يومٌ وليلة، وهو مذهب المالكية، وذلك لأن المالكية يشترطون الصوم مع الاعتكاف، والصوم لا يكون إلا في يومٍ كامل.
أكثر مدة: ولا حد لأكثر زمان الاعتكاف.
الأعمال أثناء الاعتكاف:
1- يستحب للمعتكف أن يشتغل بقراءة القرآن، والذكر، والصلاة في غير وقت النهي، والدعاء، والتفكُّر.
2- تجنُّب الحديث قدر المستطاع في أمور الدنيا.
3- الالتزام بكل آداب المسجد
4- وكره بعض المالكية والحنابلة للمعتكف الاشتغال بتدريس العلم ومجالسة العلماء.
قطع الاعتكاف:
لا يكون إلا لضرورة؛ مثل قضاء الحاجة لو لم يكن بالمسجد دورة مياه، أو لشراء الطعام والشراب إذا لم يتوفَّر من يأتي به، أو لاضطرار عمل وعدم قدرته على الاعتذار، أو لعمل خاص بالأسرة لا يُقْضَى إلا به، وقد شدَّدت عَائِشَةُ في ذلك فقَالَتْ: "السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ: أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ".
ومع ذلك يجوز للمعتكف أن يقطع الاعتكاف لقضاء حاجة مسلم؛ ففي الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: ".. وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا"[7]. وهكذا فعل ابن عباس رضي الله عنهما ذات مرة[8].
[1] الطبراني في المعجم الأوسط (7326).
[2] البخاري: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها (1922).
[3] البخاري: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان (1939).
[4] البخاري: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (1936).
[5] البخاري: كتاب الاعتكاف، باب من لم ير عليه صوما إذا اعتكف (1937).
[6] مسلم: كتاب الاعتكاف باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1172).
[7] الطبراني في المعجم الكبير (13646).
[8] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك