د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
أشد الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون، وهذا لكونهم أشدَّ الناس ضررًا على المؤمنين لتستُّرهم خلف ستار الإيمان.
أشد الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون، وهذا لكونهم أشدَّ الناس ضررًا على المؤمنين لتستُّرهم خلف ستار الإيمان، ذكرنا في مقال سابق بعنوان: " ماذا تعرف عن خدعة الله؟" عملية خداع الله لهم، والتي مرَّت بمراحل شملت أمرهم بالسجود وفشلهم في ذلك، ثم إعطاءهم النور وسلبه منهم على الصراط، ثم أمرهم بالعودة للبحث عن النور، ثم ضرب السور بينهم والمؤمنين، وحديثنا اليوم عن هذا السور الذي ضرب بينهم والمؤمنين، والباب الذي فيه.
قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا[1]نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، قِيلَ[2] ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 13 - 15].
وردت صفة هذا السور وبابه في شرح جميل لأبي أمامة الباهلي رضي الله عنه:
روى الحاكم وقال صحيح ووافقه الذهبي، وكذا البيهقي وابن أبي الدنيا عن سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: خَرَجْنَا عَلَى جَنَازَةٍ فِي بَابِ دِمَشْقَ مَعَنَا أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ وَأَخَذُوا فِي دَفْنِهَا، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ وَأَمْسَيْتُمْ فِي مَنْزِلٍ تَقْتَسِمُونَ فِيهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَتُوشِكُونَ أَنْ تَظْعَنُوا مِنْهُ إِلَى الْمَنْزِلِ الْآخَرِ وَهُوَ هَذَا -يُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ- بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الظُّلْمَةِ، وَبَيْتُ الدُّودِ، وَبَيْتُ الضِّيقِ إِلَّا مَا وَسَّعَ اللَّهُ، ثُمَّ تَنْتَقِلُونَ مِنْهُ إِلَى مَوَاطِنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ[3]، فَإِنَّكُمْ لَفِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ حَتَّى يَغْشَى النَّاسَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَتَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، ثُمَّ تَنْتَقِلُونَ مِنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ فَيَغْشَى النَّاسَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ يُقْسَمُ النُّورُ فَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ نُورًا وَيُتْرَكُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَلَا يُعْطَيَانِ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]،
وَلَا يَسْتَضِيءُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِنُورِ الْمُؤْمِنِ كَمَا لَا يَسْتَضِيءُ الْأَعْمَى بِبَصَرِ الْبَصِيرِ؛ يَقُولُ الْمُنَافِقُ لِلَّذِينَ آمَنُوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] وَهِيَ خُدْعَةُ اللهِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْمُنَافِقُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِمَ فِيهِ النُّورُ، فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ ضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُوَرٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ نُصَلِّي بِصَلَاتِكُمْ وَنَغْزُو بِمَغَازِيكُمْ؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] تَلَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15]»[4].
لم يحدِّد أبو أمامة مكان السور، لكنه ضُرِب بين المؤمنين والمنافقين، وظاهر كلامه أنه في يوم القيامة، وقبل دخول الجنة أو النار.
هل بين الجنة والنار؟ عند ابن أبي شيبة: عَنِ الْحَسَنِ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] قَالَ: الْجَنَّةُ: {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] قَالَ: النَّارُ».
وقال قتادة مثل ذلك: هُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ النَّارِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الْأَعْرَافِ: 46]. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، قال ابن كثير: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} وَهُوَ "السُّورُ"، وهو "الأعراف". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَعْرَافُ: حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، سُورٌ لَهُ بَابٌ، والأعراف هو المكان المرتفع، وقيل لعرف الديك ذلك لأنه مرتفع، وأنكر البعض -كابن عاشور- كونه الأعراف.
هل هذا السور في بيت المقدس؟ ورد مثل هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الحاكم، وصححه الذهبي، وذكر ابن كثير أن هذا تقريب للصورة، وليس أمرًا حقيقيًّا، وهذا أوقع.
والذي أراه أن هذا السور يضرب على الصراط في نهايته، وله باب يدخله المؤمنون فيجدون الرحمة وراءه، بينما لا يتمكن المنافقون من ولوجه فيبقون على الصراط، ثم يُدْفَعون من فوق الصراط إلى الجحيم. (ذكر مثل هذه الرؤية البيهقي في شعب الإيمان)[5].
[1] (تريَّثوا)
[2] (الملائكة خداعًا وتهكُّمًا)
[3] (لم يحدِّد صفة الموقف ولا المكان، لكنه تحدَّث بشكل عام)
[4] الحاكم (3511) ووافقه الذهبي، والأسماء والصفات للبيهقي (ص: 655). والأهوال لابن أبي الدنيا (ص 78) (99).
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك