الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كان لسوق صُحَار في عُمان آثار ضخمة على التجارة العالمية، كما كان سببًا في نشر الدعوة الإسلامية.
مدينة صُحَار مدينة عمانية جميلة أنيقة، ولها تاريخ عظيم، وإذا أردت أنْ تعرف أناقتها فانظر إلى قلعتها، فمن المعتاد أن تكون القلاع حجرية وقاسية، لكن الاهتمام بالبعد الجمالي يبدو بارزًا في هذه القلعة، وهو كذلك بارز في كل مناحي المدينة.
ويوجد بعمان عدد من الموانئ المهمة؛ كمسقط، وصور، وقلهات، وصلالة، ولذا كانت لهم هيمنة على الطرق البحرية في المحيط الهندي، ولهم تواجد ملموس في حياة الشعوب والحكومات في المناطق الموجودة جنوب آسيا، وكذا جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى شرق إفريقيا.
من هذه المدن مدينة صُحَار، وهي تطل على بحر عمان مدخل المحيط الهندي، ومدخل الخليج العربي، وهي مركز محافظة شمال الباطنة، وتبعد عن العاصمة مسقط 234 كم شمالا، وهي العاصمة القديمة لعمان، ومن المدن التي سبقت الميلاد بأكثر من ألف عام.
يقول المقدسي في أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (380هـ): «صحار قصبة عمان، ليس على بحر الصين اليوم بلد أجلَّ منه، عامرٌ، آهلٌ، حسنٌ، طيّبٌ، نَزِهٌ، ذو يسارٍ وتجارٍ، وفواكهٍ وخيرات.. والجامع على البحر له منارة حسنة طويلة.. وهم في سعة من كلّ شيء.. دهليز الصين، وخزانة الشرق والعراق».
يقول الحموي في معجم البلدان (626هـ): «مدينة طيبة الهواء والخيرات والفواكه، مبنية بالآجر والساج (نوع من الأخشاب الثمينة)، كبيرة ليس في تلك النواحي مثلها، وقيل: سمّيت بصحار بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام.
ويقول الإصطخري في المسالك والممالك (346هـ): «هي أعمر مدينة بعمان، وأكثرها مالًا، ولا تكاد تعرف على شاطئ بحر فارس بجميع بلاد الاسلام مدينة أكثر عمارة ومالًا من صحار».
ويقول العزيزي في المسالك والممالك (380هـ): «وعمان مدينة جليلة بها مرسى السفن من السند والهند والصين والزنج، والقصبة اسمها صحار وليس على بحر فارس مدينة أجلّ منها».
ويقول الإدريسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (560ه): «ويقصدها في كل سنة من تجار البلاد ما لا يحصى عددهم وإليها يجلب جميع بضائع اليمن ويتجهز منها بأنواع التجارات وأحوال أهلها واسعة ومتاجرهم مربحة».
أما اللقطة الحضارية هي سوق صحار، والسوق ما زال موجودًا إلى الآن، وكانت له آثار ضخمة على التجارة العالمية، ومع ذلك فاللقطة الحضارية ليست خاصة بالعمليات التجارية به، ولكن بالدعوة الإسلامية التي كان هذا السوق سببًا فيها.
وسائل نشر الدعوة:
أولًا: من خلال مزاولة التجارة العادية، وعن طريق تعاملاتهم مع أهل تلك الأماكن، ومن خلال التحلّي بالقيم الفاضلة خاصة الأمانة. ويقول المستشرق الإنجليزي د. جون ويليكنسون (John Wilkinson): ارتبط هذا الميناء بالعديد من الموانئ في العالم منها موانئ الصين وجنوب آسيا وموانئ ساحل إفريقيا الشرقية وموانئ شبه الجزيرة العربية المطلة على المحيط الهندي وموانئ الهند ومكران وموانئ الخليج العربي.
ثانيًا: استغلال رجال الدين للسوق للدعوة؛ مثلما فعل محمد بن محبوب الرحيلي الصحاري (ت260هـ) الذي نشر الإسلام في أوساط تجار الشرق ومنهم تجار الملايو، وقد أسلم الكثير منهم، وقام الشيخ بتلقينهم الشهادتين، وتعليمهم فرائض الإسلام، وأطلق عليهم أسماء عربية إسلامية".
ثالثًا: بناء المراكز الدعوية في شرق آسيا: ومثاله ما رأيناه في ملقا بشبه جزيرة الملايو، حيث بنى الداعية والتاجر العماني عبد العزيز الملكاوي (نسبة إلى ملقا) العماني جامعًا ومركزًا للدعوة الإسلامية، وكان قد استقر بها عام 1414م، وفي الملايو إلى يومنا هذا يوجد المسجد العماني ويقع في ملقا بماليزيا حاليا، وله أثر كبير في نشر الإسلام في مناطق شاسعة. وقد ظهرت مراكز إسلامية على سواحل جوجرات ومليبار وإندونيسيا وماليزيا وفيتنام.
رابعًا: الوصول إلى أماكن سياسية واقتصادية كبيرة في الشرق:
الشيخ أبو عبيدة بن القاسم البهلوي (ق 2ه): وصل إلى مكانة مرموقة عند الإمبراطور الصيني من أسرة تانج (618- 907م)، وتشير بعض الوثائق إلى أنه كان مندوبًا رسميًّا عن صُحار.
الشيخ عبد الله الصُحاري: (ق 5ه) منحه الإمبراطور الصيني لقب «جنرال الأخلاق الطيبة».وكتب الأديب الصيني سوزاي (من عهد أسرة سون)، أن الشيخ عبد الله قضى في مدينة (قوانتشوا) عشرات السنين، وكانت له ممتلكات وافرة بلغت قيمتها عدة ملايين مين، وهو ما يتجاوز الدخل السنوي للأسرة الحاكمة! والآن هذه المناطق هي أكثر مناطق العالم كثافة للمسلمين!
هذا السلوك العماني الراقي جعلني أفهم بشكل أوسع وأعمق حديث رسول الله r الذي رواه الترمذي، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم، بسند حسن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ r، قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ»[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك