الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن من الأساليب التي أمدتنا بها التجربة الإنسانية في سياق رحلة التعارف والتواصل بين الشعوب أسلوب التكتلات والاتحادات، وهي خطوة أقوى من الحوار ومن
التكتلات
إنَّ من الأساليب التي أمدَّتنا بها التجربة الإنسانيَّة في سياق رحلة التعارف والتواصل بين الشعوب أسلوب التكتُّلات والاتحادات، وهي خطوةٌ أقوى من الحوار ومن المعاهدات؛ ففي التحالفات والتكتُّلات تبلغ عمليَّة التعاون حدًّا أعلى وبشكلٍ أعمق وأكثر تأثيرًا.
ولهذا؛ فإنَّ التكتلات -من حيث العمليَّة نفسها، وبصرف النظر عن اعتباراتٍ أخرى خاصَّة- دليلٌ على إمكانيَّة وجود أعلى علاقات التعاون بين كيانين مختلفين في الكثير من الأمور، بناء على المصلحة المشتركة، وهي بالتالي تأكيدٌ على قدرة البشر على تجاوز ما بينهم من خلافات، إذا نظروا من زاوية التعاون المتبادل الذي يعود بالنفع على كلا الطرفين.
وفي مسار التاريخ وواقعنا المعاصر تُوجد الكثير من النماذج الناجحة للتكتلات، وبلغ بعضها من النجاح أن بُني اتحادٌ قويٌّ على الرغم ممَّا بين الأطراف من اختلاف في اللغة والثقافة، وعلى الرغم من قرونٍ طويلةٍ من التاريخ العدائي المرير. وأوضح مثالٍ على هذا تجربة الاتحاد الأوربِّي في واقعنا المعاصر.
الاتحاد الأوربي
تسعى الدول -الناجحة- دائمًا إلى القوَّة، وتبحث عن أسبابها، ومن أجل ذلك تُقَدِّم هذه الدول بعض التضحيَّات التي تُضطرُّ إليها؛ كي تصل إلى ذلك الهدف: القوَّة. ولمـَّا كانت القوَّة مرادفة للوحدة -غالبًا- فإنَّ القادة العقلاء الذين يبحثون عن القوَّة يُحاولون دائمًا سلوك سبيل الوحدة والتعايش مع الدول التي توجد بينها وبين بلادهم عوامل مشتركة؛ كالدين، واللغة، والحوار، والتاريخ المشترك.. وغير ذلك من المشتركات الإنسانيَّة.
وقد استطاعت الدول الأوربيَّة أن تضرب مثلًا رائعًا في القدرة على التعايش المشترك والوحدة، وذلك بعدما عاشت تاريخًا طويلًا حافلًا بالصراعات والانقسامات؛ ممَّا جعلها تربةً خصبةً للجهل والتخلُّف، وقضى على أفكار التقدُّم التي حملها عددٌ من المصلحين في بعض عصورهم، وفي الوقت ذاته عاصرت أوربَّا أزهى عصور الوحدة الإسلاميَّة، ورأت في الأقطار الإسلاميَّة المتحدة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ خير نموذجٍ لأثر الاتحاد على قوَّة الدول؛ إذ ظلَّت أوربَّا -في ظلِّ عداوتها للإسلام- تحت وقع الهزائم المستمرَّة من الخلافة الإسلاميَّة، وبينما كان العالم الإسلامي يعيش ذروة المجد والعلم والثقافة، كانت أوربَّا ترزح تحت وطأة الجهل والخرافة.
أدركت أوربَّا أثر الوحدة في انتصارات المسلمين، وأثر التمزُّق والتشتُّت في ضعفها هي؛ لذا بدأت في محاولات حثيثة لتحقيق الوحدة والترابط بين أقطارها[1]، وها نحن الآن نرى نتاج تلك المحاولات الجادَّة وقد تكلَّلت بالنجاح، وأصبحت أهلًا للدراسة واستخلاص العبر والدروس؛ إذ أثمرت عن ولادة أوَّل قوَّةٍ عظمى اقتصاديَّة، وهي في طريقها لتصبح أكبر قوَّةٍ سياسيَّةٍ في عالمنا المعاصر[2]، إلى الدرجة التي يصف فيها ثعلب السياسة الأميركيَّة هنري كيسنجر تجربة الاتحاد الأوربِّي قائلًا: "يُعتبر ظهور الاتحاد الأوربِّي مُوَحَّدًا واحدًا من أهمِّ الأحداث الثوريَّة في عصرنا"[3].
وسوف نتحدَّث فيما يلي بشيءٍ من التفصيل عن هذه التجربة الثريَّة..
الدول الأوربيَّة قبل الاندماج:
إذا أردنا أن نُلَخِّص التاريخ الأوربِّي في عنوانٍ واحدٍ فلن نجد أفضل من (تاريخ من العداء)؛ حيث لم تتمتَّع دول أوربَّا على مرِّ تاريخها بالوحدة والعيش في ظلِّ حكومةٍ واحدةٍ إلَّا في حقبةٍ واحدةٍ عاشتها تحت سيطرة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، التي استطاعت أن تُحكم قبضتها الحديديَّة على غالب دول أوربَّا لمدَّة ثلاثة قرون كاملة من الزمان، ثُمَّ انهارت وهلكت مخلِّفةً انقساماتٍ حادَّةً وخلافاتٍ عميقة[4].
ولقد مرَّت أوربَّا بأحداث وحروب كثيرة؛ أهمها الحروب الدينيَّة التي انتهت بعقد صلح (وستفاليا) في عام 1648م، الذي أرسى مبدأ الدول القوميَّة في القارَّة الأوربيَّة، ونصَّ على اعتماد التفاوض والحوار في حلِّ المشاكل والقضايا الناشبة بين الدول الأوربيَّة، وحلِّ الأزمات بالطرق السلميَّة، والحفاظ على سيادة الدولة القوميَّة باعتبارها كيانًا مقدَّسًا لا يجوز المساس به. ولكن الدول الأوربيَّة لم تأخذ من هذه المبادئ غير مفهوم تعزيز قوَّتها ونفوذها؛ وهذا ما أدَّى إلى عودة الحروب الطاحنة[5].
وقد صبت نتائج هذه الحروب بين القوى الكبرى في هذه الفترة -مثل: هولندا، وفرنسا، وإسبانيا في صالح بريطانيا، التي انتقلت إليها التجارة عبر البحار بالتدريج، حتى إذا ما حطَّمت فرنسا قوَّة هولندا نهائيًّا في أواخر القرن الثامن عشر، كانت بريطانيا قد ورثت بالفعل معظم دور هولندا التجاري[6].
ثُمَّ اندلعت الثورة الفرنسيَّة ولم يكتفِ نابليون بالسيطرة على فرنسا بكاملها، بل قادته أطماعه إلى التوسُّع وتكوين إمبراطوريَّة فرنسيَّة -تُضاهي المارد البريطاني- عن طريق الحروب، ومضى نابليون في طريقه حتى أوقفته الهزيمة في معركة (واترلو) عام 1814م[7].
ولم تقتصر الأطماع الأوربيَّة الحديثة في التوسُّع على الفرنسيِّين والبريطانيِّين؛ إذ أخذت تَجِيش في صدور الألمان مطامع السيطرة على العالم، وأثار تقسيم القارة الإفريقيَّة وانهيار الخلافة العثمانيَّة الأطماع وأسال اللعاب.
كما ساعدت الدعوات القوميَّة طوال القرن التاسع عشر على تفكيك أوصال القارَّة الأوربيَّة، واستعر لهب التمرُّد والثورة بين الأيرلنديِّين، والبولنديِّين، والرومانيِّين، والكرواتيِّين، والصربيِّين، وازدادت حِدَّة الفُرقة بين الأوربيِّين، وتقاطعت أطماعهم؛ ممَّا دفع بالأوضاع إلى حافَّة الانفجار، وكان هذا الانفجار متمثِّلًا في نشوب الحرب العالميَّة الأولى، التي اندلعت شرارتها من القارَّة الأوربيَّة على إثر قيام إمبراطوريَّة النمسا والمجر بغزو مملكة صربيا؛ إثر حادثة اغتيال وليِّ عهد النمسا وزوجته من قِبَل طالب صربيٍّ أثناء زيارتهما لسراييفو في 28 يونيو 1914م، وسرعان ما امتدَّت إلى أوربَّا كلِّها، ومنها إلى العالم أجمع[8].
وقد شَهِد العالم في هذه الحرب الدمويَّة أسلحةً لم يعهدها من قَبْلُ؛ فاستُعْمِلَت الأسلحة الكيميائيَّة، وقُصِفَ المدنيون من السماء لأوَّل مرَّةٍ في التاريخ؛ فعلى الرغم من أنَّ الحرب الجويَّة كانت في مهد طفولتها، فإنَّ الحرب العالميَّة الأولى شهدت مباراةً كريهةً بين الدول المتحاربة في ضرب المدن ودكِّها بالقنابل والفتك بالمدنيِّين؛ فقنابل الطائرات تتساقط على أيِّ مكان، لا تُفَرِّق بين الأطفال والنساء، ولا تستثني مدرسةً أو مستشفى أو دورًا للعبادة، وبعدما كانت الحروب تُخاض بتقابل جيشين متنازعين في ساحة المعركة بعيدًا عن المدينة، أصبحت المدن المأهولة بالسكَّان ساحاتٍ للمعركة؛ ممَّا نتج عنه سقوط ملايين الضحايا، وكلُّ هذا كان يصبُّ في اتجاه تعميق الكراهية بين أبناء القارَّة الأوربيَّة[9].
كانت كلُّ دولةٍ تهدف إلى تحقيق السيطرة الكاملة على منافسيها، وكان فهمهم -في هذه المرحلة السوداء من التاريخ الأوربي- أنّض هذه السيطرة والحسم السريع لن تحدث إلَّا عن طريق العنف والدمار، ودَفْعِ الشعوب المحاربة إلى الإذعان والاستسلام بتهديد حاجاتهم الأساسيَّة، من طعامٍ وشرابٍ ومسكن، وقبل ذلك العمل على سلبهم أدنى شعورٍ بالأمن والأمان في بلادهم.
ولكن بمرور الأيَّام كانت هذه السياسة الإجراميَّة -التي تنكَّرت لأبسط المبادئ الخُلُقيَّة التي تعارف عليها البشر كبشرٍ وليسوا قطعانًا من البهائم- تتسبَّب في تأجيج نيران الحرب وزيادة اشتعالها.
انتهت الحرب العالميَّة الأولى في 11 نوفمبر 1918م على واقعٍ أوربِّيٍّ أليم؛ فقد انهار الاقتصاد في القارَّة الأوربيَّة؛ إذ أودت الحرب بحياة ثمانية ملايين ونصف ممَّن تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عامًا، أي ممَّن يُمَثِّلون القوَّة العاملة الأساسيَّة، وكانت معظم الخسائر الماديَّة والبشريَّة تتركَّز في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا[10].
كذلك تُعَدُّ الحرب العالميَّة الأولى البذرة لنشأة الحركات والأفكار الهدَّامة؛ مثل: الشيوعيَّة الروسيَّة، والنازيَّة الألمانيَّة، والفاشيَّة الإيطاليَّة، هذه الأفكار التي مهَّدت الطريق أمام الحرب العالميَّة الثانية.
وقد بدأت الحرب العالميَّة الثانية في أول سبتمبر 1939م، عندما غزا جيش ألمانيا النازيَّة العملاق -الذي بناه هتلر- بولندا، هذه الدولة الأوربيَّة الضعيفة، فسحقها تمامًا في أسبوعين مروِّعَيْن، لم تَرَ لهما مدن بولندا مثيلًا في الخراب والدمار والرعب، وكانت بولندا هي البداية التي انفرط بعدها عقد الدول الأوربيَّة؛ فتوالى سقوطها الواحدة تلو الأخرى في قبضة الجيوش الألمانيَّة، فتبع سقوط بولندا الدنمارك، ثُمَّ النرويج فهولندا ولوكسمبرج وبلجيكا، وحينئذٍ دخلت بريطانيا وفرنسا الحرب واشتعلت القارَّة الأوربيَّة[11].
كانت الغلبة في البداية للقوَّات الألمانيَّة، التي كانت سرعة تقدُّمها خارقة، ممَّا شجَّع الزعيم الإيطالي موسوليني على الدخول في الحرب بجانب هتلر، وبالفعل سقطت العاصمة الفرنسيَّة في أيدي الألمان في مايو 1940م.
ويصرِّح المؤرِّخ الإنجليزي هربرت فشر بأنَّ هتلر في هذا الوقت تحديدًا وعقب انهيار فرنسا كان قادرًا على غزو بريطانيا والسيطرة على أوربَّا بكاملها، إلَّا إنَّه فضَّل إكمال غزو فرنسا وتثبيت أقدامه فيها؛ ممَّا أتاح الفرصة الذهبيَّة للبريطانيِّين لالتقاط أنفاسهم وتعويض ما خسروه من عتاد وسلاح[12].
وكما هو معلوم بعد ذلك فقد دخلت الولايات المتحدة الأميركيَّة الحرب واستعادت بريطانيا الكرَّة، وبدأت القوَّات الألمانيَّة تذوق مرارة الهزائم، التي لم تتوقَّف حتى أعلنت ألمانيا استسلامها دون قيدٍ أو شرط في مايو 1945م، وانتحر هتلر، وقُسِّمت ألمانيا[13].
وقبل أن نختم حديثنا عن هذه الحقبة الدامية في التاريخ الأوربِّي نودُّ أن نلفت الانتباه إلى حجم العنف والدمار الذي خلَّفته الحرب في كامل المدن الأوربيَّة، ونستشعر حجم الكراهية والشقاق الذي أحدثته هذه الحروب المتتالية في النفسيَّة الأوربيَّة؛ وسوف نستدلُّ على ذلك ببعض الأرقام التي أوردها هربرت فشر في تأريخه لإحدى مراحل الحرب العالميَّة الثانية؛ لنكشف عن ضخامتها سواءٌ من ناحية العتاد أو من ناحية حجم الدمار:
فقد أرسلت القوتان البريطانية والأميركية إلى أراضي المعارك خلال الحرب 1,4 مليون طلعة من قاذفات القنابل، و2,7 مليون طلعة أخرى للطائرات المقاتلة، وألقت هذه القاذفات 2,7 مليون طنٍّ من القنابل والمتفجرات على الأراضي الألمانيَّة والأقطار التي احتلَّتْها، مع العلم أنَّ أكثر من نصف هذه الكميَّة أُلقي على ألمانيا، ونحو السُبع على مراكز الألمان بفرنسا، وسُبع آخر أُلقي على المدن الإيطاليَّة.
في حين بلغ مجموع الرجال من الطيَّارين والمهندسين والفنيِّين في هذه الطلعات الجويَّة قرابة المليون والنصف مليون رجل، فقدت دول الحلفاء منهم 158 ألف طيار، وأكثر من أربعين ألف طائرة.
كما خسِر الألمان خلال الحرب 57 ألف طائرة، وقُتل منهم نحو 300 ألف جندي، بالإضافة إلى قتل وإصابة قرابة المليون شخص من المدنيين الألمان، ودُمِّر 3,6 مليون منزل ومبنى تدميرًا كاملًا، وعمَّ الخراب في كلِّ المدن الألمانيَّة الكبرى بشكلٍ شبه كامل[14].
ولعلَّنا في ثنايا حديثنا عن حجم الدمار والخراب الذي حلَّ بالمدن الأوربية، وقَدْر الخسائر البشريَّة والماديَّة- نرى -أيضًا- مدى التطوُّر الصناعي والقدرات الإنتاجيَّة العالية التي وظِّفت لخدمة الآلة الحربيَّة.
كان من الممكن أن تُخَلِّف هذه الحروب مزيدًا من الكراهية والرغبة في الثأر لدى الشعوب الأوربيَّة، بما يتَّجه بالقارَّة الأوربيَّة إلى الفناء المحقَّق، ولكنَّها -وهذا هو المعجِز والمثير للإعجاب- فكَّرت في عكس هذا الاتجاه بالكليَّة؛ لقد فكَّرت أوربَّا في استثمار طاقاتها الصناعيَّة الجبَّارة ومواردها البشريَّة الماهرة والمتميِّزة في الاتجاه الصحيح -ولو مرَّة واحدة على مدار التاريخ الأوربِّي- في اتجاه الوحدة والتكامل بعد عصورٍ من الفُرقة والتنازع، في اتجاه تحقيق الرفاهية والحياة الكريمة للجميع.
ولكن كيف ستستطيع الدول الأوربيَّة التغلُّب على جراح الماضي، والخروج من البرك والمستنقعات المليئة بالدماء والأحقاد إلى آفاق المحبَّة والتعاون الرحبة، إلى العيش المشترك؟
وكيف ستستطيع التغلُّب على مشكلة اختلاف العرق واللغة والدين؛ إذ يتحدث الأوربيُّون بالعديد من اللغات المختلفة؛ كمجموعة اللغات السلافيَّة، واللغات الأوراليَّة، واللغات الألطيَّة، واللغات البلطيَّة، واللغات الكلتيَّة، واللغة اليونانيَّة، واللغة الألبانيَّة، واللغة الأرمينيَّة، وكلُّ مجموعةٍ من هذه اللغات تتوزَّع في مناطق عديدةٍ من القارَّة[15].
كذلك لا تدين أوربَّا بدينٍ واحد؛ بل تتنوَّع فيها الأديان، وتتنوع المذاهب داخل الدين الواحد؛ فهناك مثلًا المسيحيَّة الكاثوليكيَّة، التي تنتشر في العديد من الدول والمناطق؛ مثل: البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب ألمانيا وجنوب سويسرا وإيطاليا. وهناك -أيضًا- المسيحيَّة البروتستانتيَّة، التي تنتشر في بريطانيا والدنمارك وألمانيا وهولندا وسويسرا. كما تُوجد الأرثوذكسيَّة المسيحيَّة في ألبانيا وأرمينيا وروسيا البيضاء والبوسنة والهرسك وبلغاريا ورومانيا.
وذلك بالإضافة إلى الدين الإسلامي الذي يدين به نحو 5%[16] من سكَّان أوربَّا، واليهوديَّة التي يتركَّز أتباعها في روسيا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، والهندوسيَّة في المملكة المتحدة وهولندا[17].
لا شكَّ أنَّ هذا التاريخ بالإضافة إلى هذا القدر من التنوُّع يدعم الاتجاه الانفصالي بين دول أوربا؛ إذ تكاد لا تتَّفق في شيءٍ من عوامل الوحدة، وليس بينها عاملٌ مشتركٌ واحدٌ إلَّا الموقع الجغرافي، ولكن العقول المنفتحة التي تنشد القوَّة لشعوبها ودولها، والقادة الساعين للتقدُّم والازدهار لبلادهم لا يتوقَّفُون عند الحواجز مهما صعُبَت، ولا يستكثرون الجهد مهما شقَّ عليهم؛ لذا بدأ حكَّام أوربَّا سعيهم نحو الاتحاد.
الاندماج:
خرجت أوربَّا من الحرب العالميَّة الثانية في حالة ضعفٍ شديدٍ من الناحية الاقتصاديَّة والعسكريَّة، كما أدركت أنَّها فقدت مكانتها كمركزٍ للعالم بعد تصاعد مكانة كلٍّ من الولايات المتحدة الأميركيَّة والاتحاد السوفيتي، وقد أسهمت هذه العوامل في شحذ همم عقلاء القارَّة الأوربيَّة للعمل الجادِّ في سبيل تحقيق حُلم الوحدة الأوربيَّة، ومحاولة الاستفادة من الأصوات التي نادت بالوحدة، وخاصَّةً بعدما تَيَقَّن الجميع من عُقم نتائج الاقتتال بين الدول الأوربيَّة.
وهذا الحلم الصعب، حلم الوحدة الأوربيَّة، قدَّمه قبل ذلك المفكِّر فيكتور هوجو في عام 1851م، كأُولى أفكار التوحيد السلمي للقارَّة الأوربيَّة من خلال التعاون والمساواة في العضويَّة، ولكنَّها خفتت -في ظلِّ حالة الحرب الدائمة بين الدول الأوربيَّة- ولم تحظَ بفرصةٍ جادَّة في التطبيق.
ثمَّ جاءت كارثة الحرب العالميَّة الأولى وما خلَّفته من ضحايا ودمار عمَّ الدول الأوربيَّة، لتُمَثِّل محفِّزًا لجهود ودعوات التقارب الأوربي، والتخلِّي عن عوامل الفُرقة والتنابُذ، وكان من أهمِّ هذه الجهود دعوة الكونت النمساوي (كودينهوف كاليرجي) عام 1923م إلى إنشاء الولايات المتحدة الأوربيَّة على غرار النموذج الأميركي، وكذلك دعوة وزير الخارجيَّة الفرنسي (بريان) في خطابه أمام عصبة الأمم في 29 ديسمبر 1929م إلى قيام اتحاد أوربِّي في إطار عصبة الأمم من أجل تشجيع التعاون بين الدول الأوربيَّة مع احتفاظها بكامل سيادتها الإقليمية[18].
ويبدو أنَّ الدول الأوربيَّة لم تكن قد وصلت بعدُ إلى النضج الكافي لتبنِّي هذه الدعوات؛ ممَّا أدَّى إلى انجرافها إلى أَتُون الحرب العالميَّة الثانية، وكان للخراب الشامل الذي خلَّفته هذه الحرب أعظم الأثر في تهيئة الأجواء أمام دعوات الوحدة، وتحوُّل الأمر من مجرَّد آمال وأمنيَّات في تحقُّق الوحدة إلى خطط عمليَّة ومرحليَّة ومسارات فعليَّة تدفع في اتجاهها.
وبعد خطوة الاندماج هذه بدأت أوربا في وضع حجر الأساس الذي قامت عليه الجماعة الأوربيَّة بعد ذلك، ومِنْ ثَمَّ وُقِّعت معاهدة إنشاء الجماعة الأوربيَّة للفحم والصلب في باريس، التي كانت النواة الحقيقية لــ تأسيس الاتحاد الأوربي فيما بعد..
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] راغب السرجاني: بين التاريخ والواقع، 1/165.
[2] محمد مصطفي كمال، وفؤاد نهرا: صنع القرار في الاتحاد الأوربي، ص9.
[3] هنري كيسنجر: هل تحتاج أميركا إلى سياسة خارجية؟ ص38.
[4] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص635، 636.
[5] صدام مرير الجميلي: الاتحاد الأوربي ودوره في النظام العالمي الجديد، ص13، 14.
[6] عبد العظيم رمضان: تاريخ أوربا والعالم في العصر الحديث، 1/259.
[7] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص105-108.
[8] عبد العظيم رمضان: تاريخ أوربا والعالم في العصر الحديث، 2/204.
[9] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص542، 543.
[10] عبد العظيم رمضان: تاريخ أوربا والعالم في العصر الحديث، 2/310.
[11] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص664-671.
[12] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص673، 674.
[13] عبد العظيم رمضان: تاريخ أوربا والعالم في العصر الحديث، 2/164-167.
[14] هـ. أ. ل. فِشر: تاريخ أوربا في العصر الحديث، ص703، 704.
[15] الموقع الرئيس للاتحاد الأوربي على الشبكة العالميَّة، الرابط: http://europa.eu/index_en.htm.
[16] وصلت النسبة في 2014 إلى 7,6 http://www.muslimpopulation.com/Europe/
[17] راغب السرجاني: بين التاريخ والواقع، 1/165.
[18] محمد مصطفي كمال، وفؤاد نهرا: صنع القرار في الاتحاد الأوربي، ص22.
التعليقات
إرسال تعليقك