التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يناقش الدكتور سليم طقوش في هذا المقال العلاقة بين الدولة الفارسية والإمبراطورية البيزنطية عشية الفتوح الإسلامية، التي اتسمت بالعداء المستمر الذي
علاقات عسكرية موروثة
إنَّ نظرة سريعة إلى تاريخ العلاقات بين فارس وبيزنطة خلال القرون السبعة الأولى للنصرانية، تبيِّن أنَّها اتَّسمت بالطابع العسكريِّ المرير مع بعض الهدوء النسبي على مراحل متعدِّدة، وقد فرضه انقسامٌ داخليٌّ إلى درجة الإعياء تُعجز هذا الطرف أو ذاك عن القيام بالحرب، أو حين كان الحرص على السلام يدفع بأحد الطرفين أن يذهب في التساهل إلى أيِّ مدى يقتضيه تحقيق السلام.
لقد ورث الساسانيُّون العداوة القديمة بين فارس واليونان مع اختلاف الخصم بعد أن حلَّ الرومان في ربوع الشرق الأدنى، وكان التنازع على مناطق الأطراف وأهميَّة أرمينيَّة لكلا الطرفين، بالإضافة إلى السيطرة على طرق القوافل التجاريَّة بين الشرق والغرب من أهم أسباب النزاع.
الواقع أنَّ الإقليم الجبلي الذي يمتدُّ بين أقاصي شرق البحر الأسود والمجرى الأوسط لنهر دجلة، لا يُشكِّل حدًّا طبيعيًّا فاصلًا بين الإمبراطوريتين، ولو أنَّ أرمينيَّة كانت قويَّة لدرجة تكفي للحفاظ على استقلالها من اعتداء الدولتين لاستطاعت أن تُشكِّل حاجزًا بينهما.
صراعٌ مستمرٌّ بين الدولتين
لقد توالى على حكم أرمينيَّة ملوكٌ يمتُّون بصلة النَّسب البعيد إلى الأشكانيين، والنفوذ الروماني فيها متفوقٌ على النفوذ الفارسي، لكنَّ أردشير الأول لم يُحقِّق نصرًا حاسمًا في حروبه مع الرومان.
تجدَّد الصراع بين الدولتين في عهد خلفائه؛ فقد اصطدم سابور الأول (241- 272م) بالرومان مرَّتين وأسر الإمبراطور الروماني فالريان[1]، إلَّا إنَّه تعرَّض لهزيمةٍ قاسيةٍ على يد أُذينة الحاكم العربي لمملكة تدمر في الصحراء السوريَّة وحليف الرومان، واستعاد الحاكم العربيُّ الأراضي التي كان الفرس قد استولوا عليها في إقليم الجزيرة، وطارد القوَّات الفارسيَّة إلى ما وراء نهر الفرات، ووصل إلى أسوار المدائن[2].
استؤنفت الحرب بين الدولتين في عهد بهرام الثاني (276- 293م)، فتقدَّمت القوَّات الرومانيَّة بقيادة الإمبراطور كاروس باتجاه المدائن، لكنَّ الجيش الروماني تراجع فجأة إثر وفاة الإمبراطور، ثُمَّ عُقد الصلح بين الدولتين في عام 283م، وكان من أهمِّ بنوده إعادة أرمينيَّة وإقليم الجزيرة إلى الحكم الروماني، يبدو أنَّ ثورة هرمزد أخي بهرام الثاني في خراسان أجبرته على القبول بهذا التنازل[3].
تواصلت الحرب في عهد نرسي بن بهرام الثاني (293- 302م)، وقد أثارها طرد الفرس تِردات ملك أرمينيَّة وحليف الرومان، وهَزَم القائدُ الروماني غاليريوس الجيشَ الفارسي، ووقعت أرسان زوجة نرسي أسيرة، واضطر الإمبراطور الفارسي أن يتنازل للرومان عن مقاطعة أرمينيَّة الصغرى، وعاد تِردات ملكًا على أرمينيَّة، واستمرَّت حالة السلم بين الدولتين مدَّة أربعين عامًا قبل أن تُستأنف حالة العداء في عهد سابور الثاني (309- 379م)[4].
شهدت الإمبراطورية الرومانية في غضون ذلك تحوُّلًا نوعيًّا في سياستها الدينيَّة تمثَّل باعتراف الإمبراطور قسطنطين الأوَّل بالديانة النصرانيَّة في عام 313م بموجب مرسوم ميلان[5]، واعتناقه النصرانيَّة فيما بعد، وانتشرت هذه الديانة في الربوع الأرمينيَّة، كما اعتنقها الفرس في بابل وجنديسابور[6] وآشور وغيرها من المدن، فتوثَّقت الصلات بذلك بين بيزنطة وأرمينيَّة، ومن بين الأسباب التي دفعت الإمبراطور قسطنطين الأوَّل إلى نقل عاصمته من روما إلى بيزنطة التي أسَّسها على ضفاف البوسفور في عام 330م، اعتزامه أن يُقاوم الخطر الفارسي من مكانٍ قريب.
انقسمت أرمينيَّة آنذاك على نفسها بفعل الصراع الحزبي والطبقي، فأخذت الطبقة الغنيَّة تسعى وراء مصالحها الذاتية، وسعى الحزب المحافظ إلى إقامة علاقاتٍ وثيقةٍ مع فارس بوصفها جارةً قويَّة، بينما سعى حزبٌ آخر نتيجةً لاعتناق أفراده الديانة النصرانيَّة إلى إنشاء اتِّحادٍ بينه وبين إخوته النصاري في الغرب، وهناك حقيقةٌ كانت تعمل على إذكاء العداء بشكلٍ عام؛ هي أنَّ الإمبراطوريَّة الفارسيَّة الساسانيَّة كانت وثنية، وأنَّ الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة كانت نصرانيَّة[7]. وحيكت المؤامرت، ونُفِّذت عمليات اغتيال ممَّا أدَّى إلى حدوث اضطرابات.
تذرَّع سابور الثاني بتردِّي الأوضاع الداخليَّة في أرمينيَّة لشنِّ الحرب واسترجاع الأراضي التي فقدتها الإمبراطورية في عهد نرسي، فاجتاح أرمينيَّة واصطدم بالجيش البيزنطيِّ في منطقة الجزيرة، وتُوفِّي قسطنطين الأوَّل أثناء ذلك فتولى خليفته قنسطانز إدارة الحرب، فتحالف مع إرشاك الثالث ملك أرمينيَّة ممَّا أثار سابور الثاني فاجتاح إقليم الجزيرة، واستولى على آمد[8]، واحتلَّ سنجار[9] وجزيرة ابن عمر في عام 359م[10]، وأضحى للفرس اليد العليا والنفوذ الأقوى في هذا الإقليم[11].
تُوفِّي الإمبراطور قنسطانز في عام 361م فخلفه الإمبراطور يوليان، وقد قاد بنفسه الجيوش البيزنطيَّة لحرب الساسانيين، فعَبَرَ الفرات في عام 363م على رأس جيشٍ ضخم، ثُمَّ اتجه شرقًا نحو دجلة فاستولى على سلوقية[12] بعد أن هزم خصمه، ثُمَّ زحف نحو المدائن غير أنَّه تعرَّض لمقاومةٍ شديدة، وأصابه سهمٌ في ذراعه أودى بحياته[13].
ترتَّب على مصرع يوليان تحوُّلٌ في السياسة البيزنطيَّة جاء لمصلحة فارس؛ إذ إنَّ خليفته الإمبراطور جوفيان عقد صلحًا مع الفرس حصل هؤلاء بموجبه على أقاليم عديدة على الضفَّة الشرقيَّة لنهر دجلة، وتخلَّى جوفيان عن مزاعمه في امتلاك أرمينيَّة، وتنازل عن نصيبين[14] وسنجار.
انقسمت الإمبراطورية الرومانية بعد وفاة جوفيان في عام 364م إلى قسمين، شرقي وغربي، فحكم فالنز القسم الشرقي فَوَرِثَ بذلك الصراعَ مع الساسانيين، في حين حكم القسم الغربي أخوه فالنتيان، وحاول فالينز مرَّتين التدخُّل في شئون أرمينيَّة وتنصيب حاكمٍ موالٍ له لكنَّه فشل في ذلك، واضطر إلى عقد صلحٍ مع سابور الثاني تنازل بموجبه عن حقِّ التدخل في الشئون الأرمينية[15].
استمرَّ النزاع بين الدولتين الساسانيَّة والبيزنطيَّة حول أرمينيَّة في عهد خلفاء سابور الثاني، وبخاصَّةٍ بهرام الرابع (388- 399م)، وفي عام 527م اعتلى الإمبراطور جستنيان عرش بيزنطة، فبدأ عهده باسترداد تدمر[16]، وفي مطلع عام 528م -فيما كان الجيش البيزنطي يجتاز الصحراء للاستيلاء على مدينة نصيبين من الخلف- داهمه جيش الفرس وألحق به خسارةً كبيرة، وجدَّد الفرس بمساعدة عرب الحيرة بقيادة المنذر مهاجمة البيزنطيين في ربيع عام 529م وهزموا الجيش البيزنطي، وارتأى قباذ الأوَّل أن يُهاجم أرمينيَّة، لكنَّه استمع إلى نصائح المنذر وتوجَّه بقوَّاته إلى أنطاكيَّة فهاجمها ودخلها دون مقاومةٍ تُذكر، فسبى وغنم وتراجع دون أن يلقى الجيش البيزنطي، وعرض قباذ الأوَّل على البيزنطيين عقد هدنة لكنَّ عمق الخلافات حال دون تحقيقها.
جدَّد الفرس هجماتهم على الأراضي البيزنطيَّة في ربيع عام 531م، وبلغوا موقعًا متوسِّطًا بين قنسرين[17] ونهر الفرات، وهزموا القائد البيزنطي بلزاريوس الذي تراجع إلى الرقَّة[18]، ثُمَّ اجتاحوا منطقة الرها[19] ودخلوا إلى المدينة ونهبوها.
سلامٌ مؤقَّت
خشي جستنيان من انهيار الجبهة الشرقية، فأثار مملكة أكسوم الحبشية على شنِّ هجماتٍ على مناطق النفوذ الفارسي في جنوب الجزيرة العربية انطلاقًا من اليمن التي احتلَّها الأحباش قبل بضع سنوات، وعمد في الوقت نفسه إلى مسالمة الفرس، فأرسل إليه قباذ الأوَّل مقترحات السلام التي تقوم على المبادئ التالية:
- تدفع بيزنطة تعويضات الحرب للفرس.
- تسحب بيزنطة قيادة قوَّاتها من بلاد ما بين النهرين وبالتحديد من دارا[20].
- تُموِّل بيزنطة حماية الفرس لممرَّات القوقاز.
قَبِل جستنيان هذه المقترحات، ولم يُغيِّر موت قباذ الأوَّل الوضع، وجرى التوقيع على اتفاقيَّة السلام من قبل كسرى الأوَّل أنوشروان-الذي خلف قباذ- وسُمِّيت هذه المعاهدة بالسلام الأبدي[21].
يُعدُّ ارتقاء كسرى الأوَّل عرش فارس فاتحة عهدٍ جديدٍ في التاريخ الفارسي بما أجرى من إصلاحات مدنيَّة وعسكريَّة، وكان السلم مستتبًا بين فارس وبيزنطة في عام 532م، وهي السنة الثانية من حكمه، ولكن كانت تبرز بين الحين والآخر إشارات إلى عودة الصدام.
تجدُّد الصراع
كانت بيزنطة لا تزال تنظر إلى فارس على أنَّها العدوُّ الأكبر التي أحدثت على الدوام أوضاعًا مقلقة على امتداد الحدود الطويلة بينهما، فكان لا بُدَّ من إضعافها، وبرزت في القرن السادس ظاهرة السيطرة على طرق القوافل التجاريَّة بين الشرق والغرب، كما أنَّ النزاع بين الغساسنة التابعين لبيزنطة ومملكة الحيرة التابعة لفارس شَغَل حيِّزًا كبيرًا من هذا القرن، فكان الاصطدام ضرورةً سياسيَّةً واقتصاديَّة، وأدَّت الحروب شبه المستمرة بينهما إلى فقدان الأمن على الطريق التجاري الذي يربط الخليج العربي بصحراء بلاد الشام عبر الفرات، وفقدت المنطقة أهميَّتها التجاريَّة ممَّا أدَّى إلى ضرورة تحويل الطريق إلى غرب الجزيرة العربية أو البحر الأحمر، لكنَّ بيزنطة لم تيأس من احتمال تعزيز موقعها التجاريِّ باستعادة بلاد ما بين النهرين، كما أنَّ تحويل طريق التجارة إلى غرب الجزيرة العربية أفقد الفرس عنصرًا مهمًّا من قوَّتهم، لذلك تطلَّعوا إلى السيطرة على بلاد الشام ومصر ملتقى جميع الطرق الشماليَّة والجنوبيَّة آنذاك[22].
كان الحرير في ذلك الوقت قد أضحى أحد أهمِّ عناصر التجارة الشرقيَّة وأثمنها، وأدَّى احتكار الفرس لهذه التجارة إلى إثارة قلق بيزنطة ورغبتها في البحث عن حل؛ لأنَّها كانت تستورد الحرير وتستعمله في الصناعة، كما كانت معظم مكاسب الفرس من هذه التجارة تُنفق على القوى المسلَّحة الساسانيَّة، لذلك حاول جستنيان أن يُقلِّص هذه المكاسب، فخفَّض أسعار الحرير، وردَّ عليه الفرس بتقليص المبيعات[23].
لهذه الأسباب كان الصراع بين الدولتين تجاريًّا في جانبٍ مهمٍّ منه، وعمدت الدولتان إلى تقوية حلفائهما من البدو أو إنصاف البدو واتِّخاذهم رأس حربةٍ في هذا الصراع، فكان الغساسنة والمناذرة حلفاء البيزنطيين وحلفاء الفرس.
إذ أدرك الإمبراطور الفارسي كسرى الأوَّل ما للإمبراطور البيزنطي جستنيان من أطماعٍ في الغرب وبأهميَّة مصالحه على الحدود الشرقية، استغلَّ الموقف وانتهز فرصة استنجاد القوط الشرقيين به فنقض الصلح، وهكذا لم يستمر السلام الأبديِّ سوى بضع سنين، وبدأ من جديد العداء السافر بين الطرفين.
استُؤنفت العمليَّات العسكريَّة في عام 539م كان النصر فيها حليف الفرس؛ فتقدَّم كسرى الأوَّل باتجاه بلاد الشام واستولى على دارا، والرها، ومنبج[24]، وقنسرين، وحلب، وأنطاكية التي نقل سكانها إلى أرض السواد، وسيطر في العام التالي على حمص، وأفامية[25]، ومدن كثيرة مجاورة، وبلغ في تقدُّمه ساحل البحر المتوسط، ولمـَّا حاول أن يشقَّ طريقه شمالًا إلى البحر الأسود اعترضته قبائل اللازيين والقوقازيين الذين يدينون بالطاعة لبيزنطة، فهزمهم واستولى على معاقلهم[26].
نتيجة هذا التوسُّع الفارسي على الأرض خشي جستنيان مغبَّة الأمر وعمد إلى الحصول على هدنة، فطلب كسرى الأوَّل مبلغًا كبيرًا من المال، وأتاوةً سنويَّة، وأجرة حراسة ممرَّات القوقاز من هجمات البرابرة.
في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور البيزنطي يدرس هذه المقترحات شدَّد كسرى الأوَّل من ضغطه العسكري، ووصل إلى البحر المتوسط مرَّةً أخرى عند سلوقية، واجتاح قلعة المضيق الواقعة شمال غرب حماة وقنسرين ومنطقة الرها، واجتاز الفرات غير مرَّة، وهدَّد مدينة الرها فدفعت له الجزية، ثُمَّ استدار إلى حرَّان[27]، لكنَّه فشل في اقتحام دارا مرَّة أخرى، واضطر جستنيان إلى قبول شروط الصلح.
في هذه الأثناء انتهى القائد بلزاريوس من حربه في إيطاليا، وظنَّ جستنيان أنَّ باستطاعته استرداد ما انتزعه كسرى الأوَّل فحشد جيوشه -وكان من بينهم الفرقة العسكريَّة العربيَّة في بلاد الشام بقيادة الحارث بن جبلة- ووضع خطةً لاجتياح بادية الشام فهاجم مناطق الفرات في عام 542م، وما إن علم كسرى الأوَّل بذلك حتى تخلَّى عن جبهة أرمينيَّة،فاجتاز الفرات وهاجم الرقة، وتجدَّد القتال في العام التالي على جبهة أرمينية، فاجتاز كسرى الأوَّل في عام 544م نهر الفرات مرَّةً أخرى، وضرب حصارًا فاشلًا على الرها، ثُمَّ انسحب من المنطقة، ثُمَّ تبادل الطرفان السفراء بعد ذلك بهدف تهدئة الوضع، واتَّفقا في عام 545م على عقد صلحٍ لمدَّة خمسة أعوام، وذكر الطبري شروط هذا الصلح بقوله: "أمَّا سائر مدن الشام ومصر فإن يخطيانوس (جستنيان) ابتاعها من كسرى بأموالٍ عظيمة حملها إليه، وضمن له فديةً يحملها إليه في كلِّ سنة على أن لا يغزو بلاده، وكتب لكسرى بذلك كتابًا وختم هو وعظماء الروم عليه، فكانوا يحملونها إليه في كلِّ عام"[28].
الواقع أن هذا الصلح لم يستمر طويلًا؛ إذ إنَّ نشوب الاضطرابات في أرمينيَّة كان السبب المباشر في نقضه فاستُؤنفت العمليَّات العسكريَّة، واجتاحت القوَّات البيزنطيَّة بقيادة الإمبراطور جستنيان بلاد ما بين النهرين وأراضي ملطية[29] في عام 572م، وردَّ كسرى الأوَّل باجتياز الفرات في الاتجاه الآخر مستفيدًا من ضعف وسائل الدفاع البيزنطي وفتور العلاقات البيزنطيَّة مع الغساسنة، فوصل إلى أفامية فأحرقها وعاد أدراجه دون أن يُصادف مقاومة، فيما كان الجيش البيزنطيُّ يُحاول عبثًا محاصرة نصيبين، ثُمَّ انسحب إلى ماردين[30] متخليًّا عن دارا، واجتاح الفرس وادي الخابور الأعلى واتجهوا إلى كبادوكيا، ثُمَّ انسحبوا من المنطقة[31].
تجدَّد القتال بعد ذلك حين اضطهد كسرى الأوَّل النصارى البلازيين في القوقاز، وعُقد الصلح في عام 561 أو 562م لمدَّة خمسين عامًا، وتضمَّن البنود التالية:
1- تعهد الإمبراطور البيزنطي بأن يدفع سنويًّا مبلغًا كبيرًا من المال لفارس.
2- وعد ملك الفرس بالمضي في سياسة التسامح الديني مع النصارى بشرط أن يمتنعوا عن تحويل الناس عن عقائدهم إلى النصرانيَّة.
3- يتحتَّم على التجار من كلا الطرفين ألا يُباشروا تبادل تجاراتهم إلَّا في أماكن معيَّنة حيث يجري تحصيل المكوس.
4- يتخلَّى الفرس للبيزنطيين عن لاذيق، وهو الإقليم الواقع جنوب شرقي البحر الأسود، وبذلك لم يعد للفرس موضعٌ على ساحل هذا البحر.
لهذه الحقيقة أهميَّتها من الناحيتين السياسيَّة والاقتصادية، مع ذلك فإنَّ قوَّة الدولة الفارسيَّة ازداد شأنها في الشرق الأدنى حين أخذ نجم بيزنطة في الأفول في هذه الجهات[32].
استمرَّ النشاط الحربي ناشطًا على الرغم من توقيع معاهدة الصلح؛ فقد اغتنم الفرس القطيعة التي حصلت بين البيزنطيين والغساسنة في عام 575م لشنِّ هجماتٍ على بلاد الشام، وردَّ البيزنطيون بقيادة موريس بمهاجمة بلاد ما بين النهرين وطارد الفرس حتى سنجار، واستُؤنفت مفاوضات السلام مرَّةً أخرى. وفيما كانت معاهدة جديدة قيد الإعداد مات جستنيان في شهر أكتوبر عام 578م، ثُمَّ مات بعده كسرى الأوَّل في شهر مارس عام 579م، تلا ذلك سلسلةٌ من المعارك غير الحاسمة حتى عام 591م حيث عُقد الصلح من جديد.
بفضل ما اشتهر به موريس من المهارة السياسيَّة استغلَّ لجوء كسرى الثاني أبرويز إلى القسطنطينية لطلب المساعدة ضدَّ حركة التمرُّد الداخلي التي قامت ضدَّ حكمه، ونتيجةً لهذا التعاون نجح كسرى الثاني في استعادة عرشه وتنازل لبيزنطة مقابل هذه المساعدة عن أرمينيَّة الفارسيَّة والجزء الشرقي من إقليم الجزيرة بما في ذلك مدينة دارا، ولم تنطو المعاهدة على شرط دفع الجزية السنويَّة الذي كان يُعدُّ بمثابة إهانة للدولة البيزنطيَّة[33].
تراجع الدولة البيزنطيَّة
لا شَكَّ بأنَّ كسرى الثاني كان مسرورًا بنقضها حين قُتل موريس على يد فوقاس في عام 602م، والواقع أنَّ الإطاحة بهذا الإمبراطور وإعدامه قد مزَّق الإمبراطورية، فتراجعت قوَّتها العسكريَّة ولم تستعدها خلال العقود الثلاثة التي تلت ذلك، وقد شكَّلت مرحلةً جديدةً وقاسيةً في القرن السابع الذي برزت فيه خطوة التبدُّل المتسارعة في بلاد الشام إنْ على يد الفرس أو على يد المسلمين بعد ذلك، ومن الخطأ الاعتقاد أنَّ موريس كان الإمبراطور القادر على إعادة تنظيم الولايات الشرقية وتطوير علاقاتٍ سياسيَّةٍ مع فارس والقبائل العربية، على الرغم من مهارته السياسيَّة فثمَّة فجواتٍ متعدِّدةٍ في سياسته مع العرب تُشير إلى أنَّ قراراته كانت غير فاعلة.
لكنَّ بيزنطة لم تكن قد وصلت آنذاك إلى مراحل شيخوختها، مع أنَّ التبدُّل التنظيمي كان يسير في خطى بطيئة في الإمبراطورية، واستمرَّ على هذه الحال حتى أوائل القرن السابع عندما أخذت خطوات التبدُّل في التسارع بفضل إصلاحات الإمبراطور هرقل.
غزوات فارسيَّة
كشفت الغزوات الفارسيَّة التي تلت ذلك في أيَّام كسرى الثاني أبرويز عن مواطن الضعف في الإمبراطورية، فالانهيار الواقعي للجيوش البيزنطيَّة بين عامي 610 و 618م والحملة الفارسية التي أدَّت إلى احتلال بلاد الشام ومصر، والحملات السلافيَّة في البلقان والسلب الذي رافقها، كلُّ هذا أظهر للعيان الوضع المنذر بالخطر على كيان الإمبراطورية التي استطاعت أن تتحمَّله ولكن على وهن، والذي لم يُتح لهرقل فرصةً للرَّاحة بعد أن أطاح بالإمبراطور فوقاس وأعدمه في عام 610م، فقد واجه ثورةً قام بها كومنتيولوس أخو فوقاس في شهر أكتوبر عام 610م، وقد أتاحت هذه الأوضاع القلقة للفرس أن يقوموا باختراقاتٍ على الجبهة الشرقيَّة في عام 611م، فقد أرسل كسرى الثاني أبرويز ثلاث حملاتٍ عسكريَّةٍ لغزو بلاد الروم والشام ومصر:
الأولى: بقيادة رميوزان؛ توجهت إلى بلاد الشام فاستولت على أنطاكيَّة في عام 611م وعلى دمشق في العام التالي، أمَّا في الجنوب فقد سقطت بيت المقدس في يدها في عام 614م فأحرقتها واستولت على الصليب المقدَّس من كنيسة القيامة ونقلته إلى المدائن، وساقت بطريركها زكريا وقسيسيها ومن بها من النصارى أسرى ونقلتهم إلى العاصمة، والواقع أنَّ ما ساد بلاد الشام وفلسطين من النزاع الديني مع بيزنطة يسَّر على الفرس الاستيلاء على البلاد.
الثانية: بقيادة شهربراز؛ توغَّلت في أراضي آسيا الصغرى وبلغت البوسفور، وعسكرت فرقها العسكرية في خلقدونية القريبة من القسطنطينية ذلك في عام 617م.
الثالثة: بقيادة شاهين؛ توجهت إلى مصر والنوبة فاستولت على بيلوز في عام 617م وعلى الإسكندرية في العام التالي، فترتَّب على ذلك انقطاع القمح عن العاصمة القسطنطينيَّة ممَّا أسهم في تدهور الأوضاع الاقتصاديَّة، وأضحى الفرس يُسيطرون على معظم أجزاء الشرق الأدنى[34].
عودة الروح لبيزنطة
أخلَّ هذا الانتشار الواسع للقوَّات الفارسيَّة بموازين القوى، وتبيَّن أنَّ البيزنطيين أخطأوا تقدير الموقف العسكري، وكان ذلك عاملًا على بعث الهمم داخل بيزنطة فظهر زعيمٌ قادرٌ على مواجهة الموقف العصيب تمثَّل بهرقل؛ وإذ أدرك هذا الإمبراطور مدى فداحة خسارة بلاد الشام ومصر وحرمان الإمبراطورية من دعائمها الروحيَّة والاقتصاديَّة والحضاريَّة، نهض لمحاربة الفرس واستعادة البلدان التي احتلَّها هؤلاء، وذلك في عام 622م بعد أن أجرى إصلاحاتٍ عسكريَّةٍ واقتصاديَّةٍ كفلت له تقوية موقفه.
بعد أن طرد الفرس من مناطق البحر الأسود وكبادوكيا، توغَّل هرقل في أرمينيَّة في عام 623م، وتخلَّى الفرس عن مواقعهم في دروب آسيا الصغرى، وقد استدعى كسرى الثاني قوَّاته من بلاد الشام في عام 624م لصدِّ الزحف البيزنطي، لكنَّه مُني بهزيمة قاسية، وحقق هرقل أوَّل أهدافه وهو تخليص أرمينيَّة من قبضة عدوه[35].
رفض كسرى الثاني أن يعترف بالهزيمة فوجَّه في عام 626م جيشين لمهاجمة القسطنطينيَّة، واتَّفق مع الآفار في الغرب على أن يُهاجموا المدينة في الوقت نفسه وذلك في شهر يونيو، وبعد حصارٍ دام شهرًا باء الهجوم النهائي بالفشل.
وكان هرقل -خلال حصار عاصمته- قد أعدَّ خطةً عسكريَّةً لاجتياح فارس انطلاقًا من شمال القوقاز بمعاونة الأرمن والجورجيين والخزر، فاستولى أوَّلًا على تفليس ودوين في أرمينيَّة، ودخل مدينة جانزاك عاصمة أردشير الأوَّل، وأشعل النار في معبد زرادشت انتقامًا لما أنزله الفرس بكنيسة القيامة، وفرَّ كسرى الثاني من المدينة، غير أنَّ ما تعرضت له القسطنطينية من جانب الآفار في الغرب حمل هرقل على نقل قواته إلى الجبهة الغربية، وأتاح لكسرى الثاني أن يقوم من جانبه بمهاجمة القسطنطينية من الشرق، فانطلق جيشٌ فارسيٌّ ضخم بقيادة شهربراز باتجاه العاصمة البيزنطيَّة فاجتاز آسيا الصغرى واحتلَّ خلقدونية، وأقام معسكره على شاطئ البوسفور، غير أنَّ فشل هجوم الآقار حمله على الانسحاب وارتدَّ إلى بلاد الشام.
أتاحت هذه الظروف الفرصة لهرقل ليستكمل خطَّته الهجوميَّة التي كان قد أعدَّها، فشرع في خريف عام 627م بالزحف نحو الأراضي الفارسية، وظهر أمام نينوى[36] وهناك نشبت المعركة الحاسمة التي قرَّرت مصير النزاع بين فارس وبيزنطة، فأحرز هرقل نصرًا واضحًا، وحلَّت بالجيش الفارسي هزيمةً ساحقة، ثُمَّ واصل زحفه باتجاه المدائن فاستولى عليها في عام 628م، وكان كسرى الثاني قد هرب منها عند اقتراب الجيش البيزنطي.
ما حدث آنذاك من انقلاب في فارس -إذ جرى عزل كسرى الثاني وقتله وتولية ابنه قباذ الثاني شيرويه العرش- جعل من استمرار الحرب أمرًا لا داعي له، فعقدت الدولتان اتفاقيَّة صلحٍ استردَّت بيزنطة بموجبها ما كان لها من أملاكٍ في أرمينيَّة والجزيرة وبلاد الشام وفلسطين.
حطَّمت معركة نينوى القوى الميدانيَّة للجيش الفارسي ولم يعد لفارس ما كان لها من أهميَّةٍ سياسيَّةٍ وعسكريَّة في الوقت الذي كانت فيه تُعاني من الإفراط في الثقة بالنفس جعلها تقف عاجزةً أمام زحف المسلمين، كما أنَّ الحملات الإسلاميَّة التي جاءت بسرعة في أعقاب انتصار هرقل لم تسمح باستعادة التوازن الإمبراطوري، وقد أدَّى توالي الأزمات الداخليَّة والخارجيَّة السريعة إلى عدم الاستقرار والتناقضات والتقلُّب، وهي الأمور التي فُرضت على هرقل أن يظلَّ في حالةٍ مضطربة. صحيحٌ أنَّ هرقل حافظ على وحدة الإمبراطورية البيزنطيَّة وحال دون تفكُّكها، فإنهَّ لم يُذلِّل الصعاب الاقتصاديَّة التي تفاقمت من جرَّاء ست سنوات من الحملات العسكريَّة التي أدَّت إلى الإفلاس، ولم يتخلَّص من المصاعب الدينيَّة التي أذكاها الاحتلال الفارسي.
ولا شَكَّ بأنَّ هذه الحروب بين فارس وبيزنطة أنهكت الدولتين واستنفدت طاقتهما دون أن تُحقِّق لأحدهما ما كانت تهدف إليه من زعامةٍ في الشرق الأدنى.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] خُلِّدت هذه الأحداث في صورةٍ يظهر فيها سابور الأوَّل فارسًا والإمبراطور جات أمامه، وهي النقوش التي تُعرف في إيران اليوم باسم نقش رستم.
[2] الفردوسي: 2/57، وعلي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 3/97.
[3] كريستنسن: ص217، 218.
[4] كريستنسن: ص223.
[5] انظر فيما يتعلق بمرسوم ميلان: العريني، السيد الباز: تاريخ أوربا: ص50، 51.
[6] جنديسابور: مدينة بخوزستان بناها سابور بن أردشير، فنُسبت إليه وأسكنها سبي الروم وطائفةٌ من جنده. الحموي: 2/170.
[7] أربري: الفصل الثاني، فارس وبيزنطية، بقلم تالبوت رايس: ص63-64.
[8] آمد: أعظم مدن ديار بكر وأجلها قدرًا وأشهرها ذكرًا على نشز دجلة. الحموي: 1/56.
[9] سنجار: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة بينها وبين الموصل ثلاثة أيام وهي في لحف جبل عال، المصدر نفسه: 3/262.
[10] جزيرة ابن عمر: بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة أيام، ولها رستاق خصب واسع الخيرات، المصدر نفسه: 2/138.
[11] Ostrogorsky, Georgiji: A History of byzantine p. 117.
[12] سلوقية: مدينة بالشام تنسب إليها الدروع والكلاب السلوقية قريبة من أنطاكية "السويدية الحالية". الحموي: 3/242.
[13] رستم، أسد، الروم: 1/84، 85. Vasiliev, A.A: A History of Byzantine Empire: p 67.
[14] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام بينها وبين سنجار تسعة فراسخ. الحموي: ج5 ص288.
[15] كريستنسن: ص228، 229.
[16] تدمر: مدينة قديمة مشهورة في برية الشام بينها وبين حلب خمسة أيام. الحموي: 2/17.
[17] قنسرين: كورة بالشام بينها وبين حلب مرحلة من جهة حمص بقرب العواصم، وبعضهم يدخل قنسرين في العواصم. المصدر نفسه: 4/404.
[18] الرقة: مدينة مشهورة على الفرات بينها وبين حرَّان ثلاثة أيام معدودة في بلاد الجزيرة لأنَّها من جانب الفرات الشرقي. المصدر نفسه: 3/59
[19] الرها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما ستة فراسخ. المصدر نفسه: ص106.
[20] دارا: بلدة من لحف جبل بين نصيبين وماردين. المصدر نفسه: 2/418.
[21] Deveeresse, Rebert: Arabes-Perses Arabes-Roman, Lakhmides et Ghassanides, pp 263-307.
[22] Miller, J. Innes: The Spice Trade of the Roman Empire: p 32-120.
[23] سحاب، فكتور: إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف: ص100.
[24] منبج: مدينة كبيرة واسعة ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة في فضاء من الأرض،
بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ، وبينها وبين حلب عشرة فراسخ. الحموي: 5/206.
[25] أفامية: مدينة حصينة من سواحل الشام وكورة من كور حمص. المصدر نفسه: 1/227.
[26] Bury, J, B: A History of Later Roman Empire II pp 79-123.
[27] حرَّان: مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة ديار مضر بينها وبين الرها
يوم وبين الرقة يومان، وهي على طريقة الموصل والشام والروم. الحموي: 2/235.
[28] تاريخ الرسل والملوك: 2/122.
[29] ملطية: بلدة من بلاد الروم ومشهورة مذكورة تتاخم الشام. الحموي: 5/192
[30] ماردين: قلعة مشهورة على قنة جبل الجزيرة مشرفة على دنيس ودارا ونصيبين.
المصدر نفسه: ص39.
[31].Deveeresse: pp 295-297
[32] Bury: II pp 120-123. Vasiliev: p 139. Ostrogorsky: p
66.
[33] العريني، السيد الباز: الدولة البيزنطية: ص104، 105.
[34] العريني ص118، 119. vasiliev: pp 195, 196.
[35] نينوى: قرية يونس بن متى بالموصل. الحموي: 5/339.
[36] Ostogorsky: p91.
التعليقات
إرسال تعليقك