ملخص المقال
انتشرت مقولة بدل أن نلعن الظلام لنشعل شمعة، فما حقيقة هذه المقولة التي راجت بيننا؟ وهل جاءت كما أراد لها الله ورسوله؟
كنت أتحدث إلى مجموعة من الأصدقاء عن الانحراف العقدي لدى بعض الفرق التي تدعي الإسلام، والإسلام بريء منها، وكيف أن الناس بالرغم من كل هذا تجدنا نواليهم ونمدحهم، ونحبهم وننظر إليهم كمخلصين لنا في هذا الزمان الإسلامي الحزين، فرد عليَّ أحدهم قائلاً: بدل أن نلعن الظلام لنشعل شمعة! فأجبته: يا صديقي، إن بيان الحال وذكر الانحراف ومن ثَم تصويبه هو بداية إشعال الشمعة!! وإلاَّ كيف يمكن أن يكون للشمعة أي أثر إذا لم نقم بهذا!! فما حقيقة هذه المقولة التي راجت بيننا؟! وهل جاءت كما أراد لها الله ورسوله؟! وهل إشعال الشمعة كما يطرحها هؤلاء؛ كافية حتى تؤدي الغرض المناط بها؟!
نقول: جاءت الآيات القرآنية في أغلبها وعلى لسان رسل الله -عليهم السلام- تهاجم الضلال وتنتقد الباطل وتفند الانحراف الذي سار عليه قومهم، والذي ابتعدوا به عما طلبه الله منهم، وتحولوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة أوثان تضر ولا تنفع شيئًا، فقال U على لسان نوح u: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]. ولكن قومه سخروا منه ورفضوا دعوته، وأصروا على ضلالهم، وبقائهم على أصنامهم، بل وطلبوا منه أن يطرد أراذلهم وضعفاءهم الذين اتبعوه، ولكن رسول الله u أبى أن يطردهم، واتهمهم بالجهل وقال لهم: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31]. وأصروا على ضلالهم وسخروا من نوح وهو يبني سفينة في أرض فلاة، وما دروا إلا والماء يأخذهم من كل الجهات، فأغرقوا جميعًا، وأنجى الله نوحًا u ومن معه.
وهكذا كان الحال مع قوم هود وقوم صالح، والذين ساروا على ما سار عليه قوم نوح، فأخذهم الله بذنوبهم، واختار لكل قوم نوعًا خاصًّا من العذاب.
وفي قصة إبراهيم u يذكر الله لنا أن إبراهيم قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 16، 17]. وبعد أن أعلن لهم أن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تغني عنهم من الله شيئًا، ولا تملك لهم رزقًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، دعاهم إلى التأمل في هذا الخلق العظيم، والنظر في كيفية بدء الخلق وإعادته، والتي هي من خلق الله العظيم الذي يستحق منا أن نطيعه، ونذل رقابنا له، ونسير وفق ما أراد لنا. ولكن جواب قومه ما كان مختلفًا عمّن سبقهم من الأمم الضالة، فهددوه بالقتل أو الحرق، فنجّاه الله من النار، وتوعدهم نبي الله بالعذاب، وأن نتيجة عنادهم النار {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].
وكذلك لوط u فقد قصَّ الله علينا قصته وهو ينصح قومه، ويبين لهم سوء ما ذهبوا إليه، فيقول U: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 28، 29]. ولكن جواب قومه كان أن طلبوا منه أن يأتيهم بعذاب الله؛ ليتأكدوا من صدقه أم عدمه!! وبقوا على ضلالهم إلى أن جعل الله عاليها سافلها، ودمرهم تدميرًا.
وعلى لسان شعيب يقول الله U: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 181- 184]. وما كان جواب قومه إلا أن اتهموه بالسحر، وطلبوا منه أن يسقط عليهم قطعًا من السماء، حتى يصدقوه!! وبقوا على تكذيبهم له، إلى أن أرسل الله عليهم سحابة أمطرت عليهم نارًا، فاحترقوا بها.
وفي قصة قارون عندما خرج على قومه بزينته، ومالت قلوب الذين يريدون الحياة الدنيا إلى قارون وحاله، وتمنوا لو أن لهم مثل ما أوتي قارون، بينما كان موقف أهل العلم صارمًا أمام هذه الفتنة، فما غرهم مال قارون، وما خدعهم انحرافه، ودعوا الفريق الأول إلى خيرٍ من هذا، فقالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]. ولكنهم لم يستيقظوا على الحقيقة إلا عندما خسف الله به وبداره الأرض، وحينها قالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].
وهكذا كان طريق هؤلاء الصالحين في كل زمان ومكان، أنهم بلغوا عن الله رسالته، ولسان حالهم كما وصفهم الله U: {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18]. فبلغوا عن الله، وعلموا علم اليقين أن الهدى بيد الله يمنُّ به على من يشاء ويمنعه عمن يشاء، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
وكان للحديث عن أهل الكتاب حيز كبير من الآيات القرآنية، والتي جاءت لتحذر المسلمين أن لا ينحرفوا كما انحرف هؤلاء من قبلهم خصوصًا، والذين أشركوا مع الله U شركاء، وجعلوا له أبناء، فذكرت انحرافهم، وبينت ابتعادهم عن الحق، والذي أودى بهم إلى الكفر، فقال U: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73]. وقال عن يهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156].
وبعدها عمد الله سبحانه إلى مجادلتهم عبر رسوله (عليه الصلاة والسلام)، وبيَّن فساد ما ذهبوا إليه، وأقام عليهم الحجة البالغة بأدلة قاطعة وعقلية ومنطقية، فيقول الله U لهؤلاء الذين ادعوا أن المسيح ابن لله: إن الله قد خلق من قبل عيسى u أبوه آدم u من دون أب ولا أم، فهل سيعجزه هذا على خلق المسيح من أم؟! {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60].
وبعد هذه الدعوة إلى أن يرجعوا عن انحرافهم وضلالهم، فأبوا، فطلب الله من رسوله r أن يدعوهم إلى المباهلة ليُعلم من هو على الحق المبين، قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 61- 63]. فأبوا، ودعاهم إلى كلمة سواء، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]؛ فأبوا.
ومن بعد هذا جاءت المفاصلة بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشرك والنفاق، فنهانا الله تعالى عن موالاتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. ويقول U: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
وهذا ما فعلته رسل الله ومن تبعهم من عباده الصالحين، فلم يشعلوا شمعة فقط، وإنما بدءوا بتوضيح الطريق الخطأ أولاً، ومن ثَمَّ دعوا الناس إلى الطريق الصواب، ومن هنا يكون للشمعة فاعلية، ويكون لنورها الفائدة التي أراد الله منها، {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
وأما أصحاب هذه المقولة فكأني بهم كشخص أرسلناه إلى مدينة مجاورة، وبين مدينته والمدينة الأخرى غابة كثيفة، وفي هذه الغابة وحوش كاسرة وزواحف مميتة، وأشجار متشابكة، وحفر عميقة، وقلنا له لينطلق متسلحًا بشجاعته وإيمانه، والله ولي أمره، وأشعلنا له شمعة وتركناه يذهب، بدون أن نبين له ما ينتظره في الطريق.. ولذا، فإنه ما كاد يتوغل بشمعته قليلاً عن أضواء مدينته، حتى أحاطت به الوحوش الضارية وتنهاشته زواحفها، فهرب على وجهه، لا يلوي على شيء، وما درى إلا هو داخل إحدى حفرها، وبيده شمعته تلك التي لم تغنِ عنه شيئًا، ولم يستطع أن يصل إلى مقصده أبدًا. ولكن لو أننا قلنا له: احذر يا فلان؛ فإن في طريقك غابة، وفي هذه الغابة وحوش كاسرة، فإنه لا شك سيدرك عندها أن هناك خطرًا سيواجهه، ومؤكد أنه سيأخذ حذره، ويتسلح بسلاح إضافةً إلى الشمعة، وبهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى المدينة الأخرى بسلام.
وبالتالي، فإن ما بينه الله تعالى لنا ليس لعنًا للظلام كما يدعي هؤلاء وأمثالهم، إنما هو بيان للحال والانحراف والفساد الذي عليه أصحاب الضلال، وتوضيح لصحة فكرة ما من خطئها، ومعرفة صواب وضع من خطئه؛ حتى نكون على بينة من أصحابها لكي لا نقع بحبائلهم، وما هذه الأفكار إلا تلبيس إبليسيّ على أهل الأهواء وضعاف النفوس، من الذين وهنت قواهم وخارت وجبنت عن إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فزين لهم الشيطان هذه الفكرة، والتي تتنافى مع الشرع والعقل والمعرفة الإنسانية!!
وبوضع اليد على الخلل، يكون إشعال الشمعة قد بدأ بالفعل، الذي يبدأ من بيان انحراف أهل الضلال، ومن ثَم بعد إقامة الحجة عليهم دعوتهم إلى كلمة سواء بيننا وبيننا، فإن تولوا بعدها أعلنا البراءة منهم واتخذناهم أعداء لنا؛ لأنهم جاهروا الله بالعداء {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
إذا كنا ندعي أننا من أتباع الرسل، فهذا هو النهج الرباني في التعامل مع أهل الزيغ والضلال، وليشهد العالم أجمع بأننا مسلمون.
التعليقات
إرسال تعليقك