الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الإبداع عند المؤرخين المسلمين، دراسة للدكتور عبد المنعم ماجد، حول منهجية علم التاريخ عند المسلمين وإبداع ابن خلدون في البحث التاريخي
منهجية علم التاريخ عند المسلمين
أوجد المسلمون علوما، والعلوم لا تقوم إلا على المنهجية؛ فهم لم يكونوا مجرد نقلة. ولا شك أن علم التاريخ، وهو من مظاهر تقدم حضارة المسلمين في العصور الوسطى، قد ألفوا فيه كتبا عديدة، وزاد عدد المؤرخين عندهم زيادة كبيرة؛ حتى أنها لا تقارن بما كان يوجد قبلهم، أو لدى غيرهم؛ بحيث أن علم التاريخ في عصرنا يدين لهم بالكثير.
والواقع؛ كان للمؤرخين المسلمين قدم راسخة في إبراز منهجية علم التاريخ؛ لتعنى ما يتمثل من قواعد ومعايير ضرورية يلتزم بها القائمون به؛ إذ الحقيقة التاريخية ليست شيئا جامدا، وإنما بالأولى هي مرحلة فاصلة في شيء تجريبي متصل بغيره؛ يعتبر جزءا من وعي المؤرخ؛ بقصد التوضيح والوصول إلى غاية محددة.
ومع أن معظم إدراكنا لمنهجية علم التاريخ في وقتنا وقد أتى من أوربا؛ إلا أن الواقع يبين أن المؤرخين المسلمين يعتبرون واضعي أسسها؛ نتيجة لتراث تاريخي إسلامي عريض، استمر عدة قرون، ومن قبل لم يكن يوجد عند العرب في الجاهلية غير الخبر، مصطلحا ليعي مضمون التاريخ، وله ميزة المعرفة الواسعة؛ بسبب أنه كانت لهم ذاكرة قوية تحفظه، لم تتوفر لأي شعب من الشعوب الأخرى.
ولقد وردت لفظة "المنهجية"، في كتب المؤرخين المسلمين الأوائل [1]، إلا أنها لم تظهر محددة المعنى؛ ربما على أساس أنها بديهية وضرورية للعلم، إضافة إلى أن العلوم الإسلامية كانت لا تزال متداخلة، وأن علم التاريخ في أول أمره لم يظهر في تقسيم العلوم كعلم مستقل، وإنما ارتبط مثل غيره بالعلوم الدينية، أو ما سمي أيضا بالعلوم الشرعية أو النقلية أو الوضعية أو الطبيعية؛ لأنها مستمدة من الدين، ومنقولة عنه.
يضاف إلى ذلك أن المسلمين استخدموا عبارة لم يستخدمها مؤرخون قبلهم، وهي عبارة: "فن التاريخ"؛ التي لم تظهر إلا في العصر الحديث؛ فهم ذكروا صراحة أن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، واعتبروا علم التاريخ صناعة؛ وله ملكته الخاصة؛ كما رتبوا القائمين به في درجات، ومنهم؛ "فحول المؤرخين" أو "المشاهير"؛ ويعنون بهؤلاء المبدعين، الذين لهم عبقرية الهضم، والقدرة على التفكير [2].
صحة السند التاريخي والنقل المتواتر
فكان أول مظهر لإبداعهم في علم التاريخ أن اهتموا بصحة مصادره، وكان الحفاظ هم الوسطاء الذين ينقلونه من الذاكرة، أو الشاهد العيان الذي يدرك الصورة والزمن؛ مما دعا إلى ظهور ما عرف بالسند أو الإسناد أو الأسانيد، أو العنعنة بمعنى رفع القول إلى قائله، أو ما سماه المؤرخون المسلمون بعد ذلك بالنقل المتواتر الذي لا شبهة فيه، وأصبحت الطريقة المثلى للإجماع على صحة الخبر التاريخي، وكانت هذه الطريقة عينها؛ قد اتبعت عند جمع الأحاديث النبوية، حتى يطمئن جامعو الأحاديث في اتصالها بالرسول صلى الله عليه وسلم، وللتأكيد من صحة السند التاريخ يطبقوا عليه ما طبق على سند الحديث من الجرح والتعديل، مما يبين أن التاريخ أخذ طريقة الحديث في أول تأليفه؛ حيث كان علم الحديث يسمى علم الرجال [3]؛ لارتباطه بعلوم كثيرة.
الإبداع في التوثيق التاريخي .. أسانيد الكتب
وقد استمر الإسناد أو السند وقتا طويلا من مصادر التاريخ؛ حتى لما كثرت الكتب المؤلفة فيه؛ فظهر لأول مرة ما عرف أيضا بأسانيد الكتب [4]، واكتسب هو الآخر قداسة مماثلة للإسناد الشفهي؛ بسبب أن المسلمين في أي وقت لم يكونوا يستطيعون أن يكتبوا تاريخهم دون أن يذكروا المصادر، التي استقوا منها أخبارهم. فكان حرص المؤرخين المسلمين على ذكر مصادرهم من الكتب إضافة جديدة لإبداعهم في هذا العلم، وهو تطوير واضح في اتجاه الموضوعية التاريخية؛ لا زلنا نقوم بها إلى الآن فيما يعرف بالتهميش أو الحواشي، وهو الإبداع في التوثيق التاريخي.
التدوين بالحوليات
كذلك ظهر إبداع آخر على أيديهم؛ يتمشى مع المناخ السياسي الإسلامي؛ فيما سمي بالتدوين بالحوليات؛ جمع حولية، وهي طريقة لجمع الأخبار تعتبر اتجاها عربيا إسلاميا لم يعرف قبل؛ عبارة عن تزامن أو معاصرة لمعلومات التاريخ، لفترة معينة تحدد بالسنة؛ وإن كان بعضها قد يستمر لمدة سنين، فمن قبل كانت شعوب مثل المصريين القدماء أو اليونان، أو حتى الفرس الذين أخذ العرب كثيرا من نظمهم في الإسلام لا يرتبون معلوماتهم على حسب السنين، وإنما على حسب الملوك والأسر الحاكمة، وكليهما سادة العالم القديم[5]. وإن أخذ الفرس المسلمون بعد ذلك في تدوين معلوماتهم بالترتيب التاريخي على حسب السنين.
وقد أخذت شعوب أخرى غير إسلامية عن المسلمين ترتيب المعلومات على حسب السنين، مثل: الإسبان الذين سموها: مدونات (Cronicas)، والفرنسيين الذين سموها الأنال (Anales)؛ بحيث ظهرت في فرنسا مدرسة خاصة بها(Ecole des Annales) [6].
فهذا الترتيب على السنين أو الحوليات؛ بقصد ألا تعرض الأخبار عشوائيا، ولترتبط بعضها ببعض، بجعلها في حيز واحد؛ مهما تعددت روافدها؛ باعتبار أن الزمن وعاء لتحرك الإنسان. ثم إن ترتيب الخبر في الإسلام بترتيب السنين، يتمشى مع الاتجاه الإسلامي، الذي أصبح يهتم بالإنسان؛ بصرف النظر عن أن يكون وارثا لعرش، أو من أسرة نبيلة؛ فيقتصر الخبر عليه. فهذا الترتيب على السنين، له إذن فلسفة؛ فالحوليات لا تشتمل على أبناء الصفوة من الناس، وإنما على أخبار كل الناس.
والواقع؛ فإن كبار المؤرخين المسلمين، قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر، ومن المؤكد أن المؤرخ ابن جرير الطبري (ت: 310هـ / 923م)، اعتبر العمدة في كتابة أخبار التاريخ، على ترتيب السنين أو الحوليات، وذاع صيت مؤلفه: تاريخ الرسل والملوك، الذي أصبح يعرف بتاريخ الطبري أيضا. كذلك حاول مؤرخون مسلمون آخرون أتوا بعد الطبري أن يقلدوه، مثل ابن الأثير (ت: 620هـ / 1233م)، الذي سار على نهجه في الأخذ بالترتيب الزمني على السنين، أو حتى بالشهر.
تعدد أنماط الكتابة التاريخية
وإذا ما قارنا تفاصيل الأخبار في كتب المؤرخين المسلمين بما كان يوجد في العصور السابقة؛ فإنه من الملاحظ أنها قد تعددت بشكل لم يسبق إليه، فكانت هذه الأخبار التاريخية شاملة لنواح متعددة؛ خاصة بطوائف المجتمع، وبالمدن، وبالأفراد، وبالحروب، وحتى بالخبر العلمي والفكري، بحيث وجدت أنماط من الكتابة التاريخية لم تعرف قبلهم، يكمل بعضها بعضا.
فمؤرخ مصري مثل السخاوي أورد أربعين نمطا من الكتابة التاريخية، كما بين أن التصنيف في التاريخ قد يصل إلى نحو من ألف تصنيف؛ تظهر في كتب مؤرخي الإسلام، وذكرت بعض عناوينها مختصرة، مثل: سير، وأخبار، ومغازي، وفتوح، وتاريخ، ومختصر، وذيل وشرح، وأنساب، وتراجم، وطبقات، ووفيات، ومعاجم، وغرائب، وتحفة، وعقود، ونزهة، وروضة، ودر، وحديقة، وحسن، وحقائق، وخريدة، وخطط، وغير ذلك. كذلك ربط المسلمون التاريخ بكل العلوم، مثل: الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفقه، والجغرافيا، وغير ذلك؛ فكان بحق علم العلوم [7].
فحص الخبر التاريخي
وفوق ذلك؛ فإن المؤرخين المسلمين لم يكتفوا باستيعاب الخبر فقط بشكل مذهل، والالتزام بنقله صحيحا؛ مما يؤكد إبداعهم في علم التاريخ، ولكنهم عمدوا إلى تحري صحة الخبر في ذاته، فكان هذا الاتجاه يعتبر مرحلة جديدة حاسمة في كتابة التاريخ؛ بحيث أن التاريخ لم يعد الخبر وحده، وإنما المؤرخ أيضا، الذي لم يعد همزة الوصل بين الخبر وناقله، وإنما أصبح يفحص الخبر في ذاته؛ بحيث خصص مؤرخون كبارا كتبا تناولت معظمها ضرورة فحص الخبر.
فألف ابن خلدون (ت: 808هـ / 1407م) المقدمة، والسخاوي (ت831ه / 1427م) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، والسيوطي (ت911هـ / 1505م): الشماريخ في علم التاريخ.
وبسبب هذا الاتجاه الجديد في المنهجية التاريخية برز دور المؤرخ على أساس ما يضيفه إلى المادة التاريخية من حيثيات، قائمة على الدراسة والقدرة على التفكير؛ فهو الذي ينتخبها من المادة الأرشيفية الهائلة، وهو الذي يعرضها، ويحللها، وينقدها؛ ليستنبط فيها، ويصل بها إلى نتائج. وبذلك أصبح للتاريخ نبض، وليس كالمومياء الهامدة في المتحف بدون حياة، أو اجترار للماضي فقط.
ابن خلدون وإبداعه في البحث التاريخي
ولا شك أن ابن خلدون، وهو الشيخ العلامة العالم، يعتبر أول من أشار بوضوح إلى ضرورة فحص الخبر التاريخي في ذاته في مقدمته المشهورة، التي ألفها وهو في القاهرة، واحتوت على معرفة تامة بعلم التاريخ. فتكلم ابن خلدون كثيرا عن أن التاريخ؛ وإن كان يبدو في ظاهره وقائع وأخبار؛ إلا أنه بالأولى سبب ومسبب؛ وأنه في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق؛ وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.
ولذلك هاجم ابن خلدون المؤرخين الأوائل لاعتمادهم على مجرد ما نقلوه أو سمعوه، وعدم تأمل حقيقة الخبر ومناقشتها؛ إذ في رأيه أن الفحص عن صحة الخبر قليل، والتنقيح في الغالب كليل، بل ينصح أن يكون التاريخ مفيدا للأجيال الناشئة، ويتساءل ما الفائدة منه إذا لم يكن كذلك.
فمعنى هذا أن رؤى ابن خلدون في علم التاريخ غير رؤى سابقيه، فيطالب المؤرخ بألا ينفصل عن روح العصر ومجتمعه؛ وألا يكون سلبيا أو محايدا، وإنما يتدخل في التاريخ بنظرته فيه، وذلك على عكس ما هو معروف من طلب الحيدة من المؤرخ [8].
وقد دعاه إبداعه في علم التاريخ أنه بحث في أغوار مجتمعاته؛ ليس فقط الإسلامية، وإنما الإنسانية بعامة؛ ويبدو ذلك بسبب اتساع رقعة الإسلام، والاتصال بالأمم المختلفة. وقد كان ابن خلدون يقدر قيمة هذه النظرة المتعمقة في التاريخ الإنساني؛ وحتى أنه رأى أن ملاحظاته عنها، وكأنها بداية لعلم جديد ألهم إليه إلهاما، ولم يجده من قبل في علوم الأوائل، مثل الفرس والفراعنة واليونان؛ وأطلق عليه: العمران الاجتماعي البشري أو الإنساني. ولعل علماء العصر الحديث؛ بسبب اكتشافه لمعايير اجتماعية، جعلوه مؤسسا لعلم الاجتماع.
ولكن من المؤكد أن ابن خلدون لم يقصد بعلمه الجديد أو بنظريته الجديدة عن العمران البشري أن يخرج بقوانين اجتماعية، وإنما بالأولى قصد تقصي الأسباب والأصول وحركات العوامل لمعرفة التاريخ، الذي هو أحد رجاله؛ معرفة سليمة. فالتاريخ في رأيه هو خبر عن الاجتماع الإنساني، الذي هو العمران؛ فيقول بلفظه: "أنشأت في التاريخ كتابا".
وعلى صعيد آخر سلط ابن خلدون الأضواء بشدة على الحضارة وتركيبها، وأطلق عليها أيضا: التمدين أو التمدن أو المدنية، وقصد بها رفاهية العيش، وكأنه طبيب يشرحها، حتى جعلها تمر بأطوار في الحياة مثل الإنسان. ثم هو وإن كان يرى أن الحضارة ترتبط أساسا بالحضر وما في نوعها؛ إلا أنه جعلها ترتبط بالعلوم والفنون، واعتبر ازدهار المدن يعني ازدهار العلوم والفنون، وتدهورها تدهور لها. ولذلك؛ فهو يأتي بعبارات لا توجد إلا عنده، ومنها: إن تفصيل الثياب من مذاهب الحضارة وفنونها [9].
والخلاصة أن هذا التوهج الإبداعي في علم التاريخي، ظهر بسبب أن الإسلام اهتم بالعقل، وأن البيئة الإسلامية قد ساعدت على ذلك؛ فظهر مؤرخون كبار يبحثون عن دوره ويطورونه؛ إلى أن هذا العلم قد يمتهن بالكذب والتزييف والتعصب والذهول عن المقاصد، ولا سيما بالتقرب به إلى الحكام؛ كما يقول ابن خلدون.
[1] يقول ابن خلدون إن أغلب التواريخ عامة المناهج. انظر: مقدمة ابن خلدون، القاهرة، 1322هـ/1904م، ص3، ص13؛ انظر: عبد المنعم ماجد: ذيل على مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي، القاهرة، 1979م، ص16.
[2] ابن خلدون: المقدمة، ص2، 3، 12، 22، 23, 452.
[3] حاجي خليفة: كشف عن أسامي الكتب والفنون، ط1، ج1، ص390، 422.
- مقدمة ابن خلدون، ص28. مسلم: صحيح، القاهرة 1329- 1331هـ، ص240.
[4] السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، دمشق 1349هـ - 1930م، ص13.
[5] روزنثال: علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة، مقدمة، ص16. هرنشو: علم التاريخ، ترجمته، ص67.
[6] مفرنس: التاريخ والمؤرخون، عالم الفكر، العدد الأول، 1974م، ص109.
[7] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، دمشق 1349/1930، ص84، 96.
[8] مقدمة ابن خلدون، ص2 - 3.
[9] مقدمة ابن خلدون، ص27، 97، 132، 326.
- عبد المنعم ماجد: العمران، نظرية لابن خلدون في تفسير التاريخ، بحيث ألقي في ندوة الحضارة الإسلامية بمناسبة مرور عام على وفاة المرحوم أحمد فكري، نشر في كتاب خاص عن جامعة الإسكندرية.
- عبد المنعم ماجد: منهجية جديدة لابن خلدون في علم التاريخ، مجلة المؤرخ العربي، تونس 1979م.
التعليقات
إرسال تعليقك