الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
يقول تعالى في سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)، فما معنى إرم ذات العماد؟
يقول تعالى في سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 – 8]، وقد ورد لفظ "عاد" 23 مرة في القرآن الكريم، وفيها مرات فُصِّلت فيها القصة، ومرات ذُكِرَت إجمالًا، ولكن مرة وحيدة وُصِفَت فيها عاد بهذا الوصف.
أولًا: لنفهم المقصود لابد من أخذ الآية في إطار السياق القرآني: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 - 14].
1- ذُكِرَت عاد بهذه الصفة هنا في إطار جمع ثلاث حضارات كبرى: عاد، وثمود، وفرعون، مع ذكر خاصية تعظيمية لكل حضارة: ففي ثمود قال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}، وفي فرعون قال: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ}.
2- وفي البداية قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} للدلالة على قهر الله للجبارين.
3- يُفْهَم إذن من السياق أن إرم ذات العماد صفة تعظيمية لقوة عاد، ويؤكِّد على ذلك وصف الله لها في الآية الثانية بقوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}.
ثانيًا: معنى إِرَم:
- قال البعض هي اسم مدينة بناها قوم عاد، أو بناها إرم جدُّ عاد، وابن سام بن نوح، والواقع أن عادًا قريبة جدًّا من نوح، ولا يبعد هذا النسب؛ لقول الله تعالى على لسان هود عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69].
- وقال آخرون اسم قبيلة؛ إما القبيلة الأم التي تفرَّع منها عاد وثمود، وإما قبيلة من عاد كما يرجِّح الطبري نقلًا عن قتادة.
- وقال فريق ثالث أنها صفة لعاد بمعنى القديمة أو الهالكة، وهذا لا يستقيم لغويًّا؛ لأنها لو كانت صفة لكانت مكسورة بالتنوين تبعًا لعاد في الآية التي قبلها، ولكنها مبنية على الفتح لكونها اسم قبيلة، أو لكونها علمًا.
وأميل إلى اعتقاد أنها قبيلة وقد وجدتُ أمرين يدعمان هذا:
1- في ابن إسحاق ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: "وَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ"، فجَمْعُها مع عاد يؤكِّد أنها قبيلة، سواء كانت قبل أو بعد عاد، ولكن ينتمي أحدهما للآخر، والأرجح أنها قبل عاد، وتنتمي عاد إليها:
2- قال ابن قيس الرُّقيَّات[1]: مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلُهُ ... أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا
ثالثًا: ذات العماد: وفيها أيضًا أقوال كثيرة:
زعم البعض أن العماد تعني الطول، وذكروا في ذلك أطوالًا مبالغًا فيها لأهل عاد، بلغوا بهم أكثر من 250 متر في بعض الروايات، وهذا وهم بلا جدال، ففي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ"[2].
ورجَّح البعض أن العماد هي أعمدة الخيام، أو أنها من العَمْد أي القصد، فهم يعمدون إلى مكان الكلأ فيذهبون إليه للرعي، وجمع قتادة ذلك بقوله: كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم.
ولا أعتقد هذ التفسير لكونه يدلُّ على سذاجتهم وهوانهم، وهذا ليس مقصود الآية.
ومن أفضل الأقوال قول الضحاك الذي قال: ذات العماد أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة، بدليل قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]. يعني العماد هي الأعمدة القوية.
ويرفض الطبري هذا التأويل بحجة أنهم غير معروفين بالبناء، وهذا غريب من الطبري لأن الله تعالى يقول في حقِّ عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128، 129]، فهم بهذا التصوير بارعون في البناء إلى درجة بناء آيات معمارية في كلِّ ريع (المكان المرتفع)، ويتَّخذون المصانع التي يُظَنُّ الخلود بها: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَصَانِعُ: الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ، وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ.
هذا كلُّه يتناسب مع أن العماد هي أعمدة ضخمة، كما يشير إلى أن قوتهم البدنية الكبيرة كانت تسمح لهم بهذا البناء في هذا التوقيت الذي لا توجد فيه رافعات ميكانيكية. وهذا في رأيي أنسب جدًّا لملاحظة ما جاء في صفة القومين الآخرين اللذين ذُكِرا مع عاد في هذه الآيات، فثمود جابوا الصخر للبناء، وفرعون ذو الأوتاد، وهذا أيضًا بناءٌ ضخم على الأغلب، فكان من المناسب أن يذكر اللهُ صفة الأقوام الثلاثة موضحًا شدَّة بنيانهم، وبالتالي موضِّحًا قدرته عليهم.
رابعًا: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}:
الهاء عائدة على عاد. وجائز أن تكون عائدة على إرم، وإنما عُنِيَ بقوله: لم يُخْلق مثلها في العِظَم والبطش والأيد. يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]، ولهم قوة بدنية خارقة، ويمكن أن نلحظ هذا في خطاب هود لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69]. وليس المقصود به مدينة أو أعمدة، لأنه لم يكن ليستخدم حينئذ لفظ "يُخْلَق" بل كان يعدل إلى "يُبْنَى" أو "يُنْشَأ"، فخلاصة الأمر أن إرم على الأغلب قبيلة: أصل أو تابعة لعاد، وكانت قوية ذات بنيان عظيم، وقد خُلِقَت على هيئة شديدة من ناحية قوة الرجال والقبيلة، وقد أهلكها الله تعالى، وجعلها عبرة لمن أتى من الأقوام من بعدهم[3].
[1] شاعر قريش في العصر الأموي اسمه عبيد الله بن قيس، مات عام 85 هجرية، وسُمِّي الرقيات لأنه كان يتغزَّل في ثلاث نساء اسمهن رقية!
[2] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى (3148)
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك