أصالة التجربة التربوية في التراث الإسلامي مقال بقلم د. بركات محمد مراد، يبين أن الفكر التربوي الإسلامي استلهم أصوله من ينابيع القرآن الكريم والسنة النبوية
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
حاصر رسول الله ﷺ الطائف بضع عشرة ليلة، وقصف أسوارها بالمنجنيق، ورماها بالسهام، ولكنَّها كانت منيعةً للغاية، فلم يتمكَّن من فتحها.
غزوة الطائف:
حاصر رسول الله ﷺ الطائف بضع عشرة ليلة، وقصف أسوارها بالمنجنيق، ورماها بالسهام، ولكنَّها كانت منيعةً للغاية، فلم يتمكَّن من فتحها، وأدرك الرسول ﷺ أنَّ الأمر سيتطلب شهورًا متتالية من الحصار، ولم يكن هذا عمليًّا لكون الوضع غير مستقرٍّ في مكة حديثة الإسلام، كما أنَّه ﷺ لا يستطيع ترك المدينة بلا حمايةٍ هذه الفترة الطويلة؛ لهذا عَرَضَ رسولُ الله ﷺ رفع الحصار والعودة دون فتح الطائف. لم يقبل كلُّ الصحابة هذا الطرح وصَعُب عليهم ترك البلد دون فتحٍ، فوافق الرسول ﷺ على رأيهم واستمر الحصار يومًا إضافيًّا، وقد تعرَّض المسلمون في هذا اليوم لإصاباتٍ بالغةٍ من سهام المشركين، فعرضوا على الرسول ﷺ المغادرة، فضحك رسول الله ﷺ وأمر برفع الحصار!
كان هذا في مصلحة الدعوة؛ إذ صارت هناك فرصةٌ لأهل الطائف للتفكير في الإسلام، وسيأتون مسلمين بعد ذلك بعام، ولو فُتِحَت بلادهم عنوةً فلعلَّهم ماتوا على الكفر في حربهم مع رسول الله ﷺ، فخسروا أنفسهم، وخسرهم الإسلام، والله يفعل ما يشاء!
إسلام هوازن، وتوزيع غنائم حنين:
عاد رسول الله ﷺ إلى وادي الجعرانة القريب من مكة لتوزيع غنائم حنين على الجيش، ففوجئ بعودة رجال قبيلة هوازن الذين فرَّوا إلى الطائف، دون أهل الطائف، مسلمين! سَعِد رسول الله ﷺ بإسلامهم؛ ولكنَّهم طلبوا منه ردَّ سبيهم وأموالهم، ولمـَّا كان هذا سيُحْدِث بلبلةً في الجيش المسلم المنتصر؛ لأنَّ الغنائم والسبي أُخِذُوا وهوازن مشركة، فهي حقٌّ للمقاتلين، فأراد الرسول ﷺ أن يصل إلى حلِّ وسطٍ يرضي كلَّ الأطراف، فخيَّر هوازن بين المال والسبي، فاختاروا السبي، فأعاد الرسول ﷺ سبيه وسبي بني هاشم، واستأذن المسلمين في إعادة سبيهم فوافق البعض ورفض آخرون، فعرض على الرافضين التعويض مستقبلًا بزيادة فوافقوا، وبذلك عاد سبي هوازن كلُّه لأهله.
قام الرسول ﷺ بعد ذلك بتوزيع الغنائم الكثيرة للغاية على المسلمين، فقسم للجيش أربعة أخماس الغنيمة، واحتفظ للدولة بخمسها، ثم قام بتقسيم هذا الخمس الأخير على المسلمين حديثًا من أهل مكة، وعلى مَن يخشى ردَّتهم من قادة القبائل الغطفانيَّة وغيرهم. عُرِف هؤلاء «بالمؤلَّفة قلوبهم»، وقد أعطاهم الرسول ﷺ المال الكثير ليتألَّف قلوبهم على الإسلام، وقد حسن إسلام جلِّهم بعد ذلك وصاروا من حماة الإسلام. كان العطاء سخيًّا جدًّا، وكان الرجل يُعْطَى مائة ناقة دفعةً واحدة، وأحيانًا أكثر، وهذه أرقامٌ لم يسمع بها العرب قط في مثل هذه المواقف. كان من أولئك الذين أُعْطوا مائةً من الإبل أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والعباس بن مرداس، وأبو سفيان بن الحارث، وصفوان بن أمية.
يُلاحظ في هذه الأسماء الأخيرة بعضًا من قادة القبائل العربيَّة ممَّن لم يُعْرَف إسلامه على وجه اليقين قبل الفتح؛ مثل عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني، والأقرع بن حابس التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، ويبدو أنَّهم حضروا فتح مكة ليرقبوا الموقف، وليكونوا مع الفائز حين ينتصر، فلمَّا صارت الغلبة للمسلمين أسلموا، وهذا يُفَسِّر العطاء الكبير من رسول الله ﷺ لهم لكيلا يرتدُّوا.
حزن الأنصار لأنَّ الرسول ﷺ أعطى هؤلاء المؤلَّفة قلوبهم، ولم يُعْطِهم على الرغم من أنَّهم هم الذين ثبتوا معه في حنين، وكانوا من أسرع الناس عودةً إليه، وهم جميعًا من أهل بيعة الرضوان، فضلًا عن تاريخهم الطويل في نصرة الإسلام. جمع رسول الله ﷺ الأنصار وخطب فيهم خطبةً رقيقةً طيَّب بها خاطرهم، وكان ممَّا قاله فيها: «.. أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ، الْأَنْصارُ شِعَارٌ[1] وَالنَّاسُ دِثَارٌ[2]، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ»[3]. كانت هذه الكلمات كافية لتسكين قلوب الأنصار العظماء، فقبلوا ترك الدنيا التي أخذها حديثو الإسلام، وعادوا إلى المدينة برسول الله ﷺ، وكان هذا في الواقع فوزًا عظيمًا!
اهتمام الرسول ﷺ باليمن بعد فتح مكة:
كان من الواضح أنَّ اليمن أحد الأهداف الكبرى لرسول الله ﷺ، ولقد ذكر الرسول ﷺ أهل اليمن بشكلٍ عامٍّ بكلِّ خير؛ فقال في حقِّهم: «.. وَالإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ»[4]، بالإضافة إلى أنَّ الرسول ﷺ تعامل مع الأنصار أصحاب الجذور اليمنيَّة، وعرف أصالة معدنهم، وقوَّة إيمانهم، فأراد أن يستزيد خيرًا من أهل اليمن.
ويبدو أنَّ وجود مكة في أيدي المشركين كان عائقًا للحركة بين المدينة واليمن، فلمَّا سيطر المسلمون على مكة صار الطريق إلى اليمن مفتوحًا، فتوالت البعثات إلى هناك، لدرجة أنَّ الرسول ﷺ لم ينتظر إنهاء ملفِّ هوازن وثقيف، ولم ينتظر عودته إلى المدينة؛ إنَّما بدأ في التفكير العملي الخاص باليمن عقب فتح مكة مباشرة، فكانت سريتا الطفيل بن عمرو الدوسي، وقيس بن سعد بن عبادة، وكذلك كان بعث عمرو بن العاص برسالةٍ مهمَّةٍ إلى هناك.
سريَّة الطفيل بن عمرو الدوسي إلى اليمن:
بعث رسول الله ﷺ هذه السريَّة إلى اليمن في شوال من العام الثامن الهجري بعد انتصار حنين وقبل ذهابه ﷺ إلى الطائف، وكانت بقيادة الطفيل بن عمرو الدوسي t، وكان الغرض منها هدم أحد أصنام العرب المشهورة، وهو صنم ذي الكفَّين، وكان خشبيًّا، وقد أحرقه الطفيل، وأسلم الكثيرون عندما رأوا ذا الكفَّين يُحْرَق، فكان نصرًا كبيرًا للإسلام.
سريَّة قيس بن سعد بن عبادة ب إلى صُدَاء باليمن:
كانت هذه السريَّة بعد توزيع غنائم حنين في الجعرانة، وكانت مكوَّنة من أربعمائة جندي، وكانت إلى بطن صُداء، وهم فرعٌ من فروع قبيلة مَذْحِج اليمنيَّة السبئيَّة الشهيرة، وقد رأى أحدُ أهلِ صُداء جيشَ المسلمين يقترب من بلده فانطلق إلى رسول الله ﷺ، وطلب منه أن يَرُدَّ جيشه على أن يأتي الرجلُ بعد ذلك بقومه مؤمنين، وقد وافق الرسول ﷺ، وأرسل في طلب الجيش، ووفَّى الرجل بعهده، وأتى بقومه مسلمين.
رسالة إلى مملكة عُمَان مع عمرو بن العاص:
أرسل رسول الله ﷺ في ذي القعدة من العام الثامن من الهجرة بعد انتهاء غزوة حنين عمرو بنَ العاص إلى مملكة عُمَان في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة، وكان عليها أخوان هما جيفر وعباد (أو عمرو)، وهما من قبيلة الأزد اليمنيَّة، وكانت الرسالة تدعوهم إلى الإسلام، والدخول في الدولة المسلمة، وبعد تفكيرٍ وافق الرجلان، واعتنقا وقومهما الإسلام، وبقي عمرو بن العاص واليًا على عُمَان، وظلَّ بها إلى وفاة الرسول ﷺ.
عودة الرسول ﷺ إلى المدينة، وبعض الأحداث في بيته:
بعد أن اعتمر رسول الله ﷺ عاد إلى المدينة، ولم ينتظر للحجِّ، بل حجَّ بالمسلمين عتَّاب بن أسيد، ووصل رسول الله ﷺ إلى المدينة في آخر ذي القعدة على الأغلب.
في السنة الثامنة من الهجرة -ودون معرفة الشهر- وُلِدَت أُمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها، وهي حفيدة رسول الله ﷺ من ابنته زينب، ولكن في السنة نفسها ماتت أمُّها زينب رضي الله عنها، وهذا أحزن الرسول ﷺ كثيرًا، فهذا هو مصابه الثاني في بناته، وذلك بعد وفاة رقيَّة رضي الله عنها في العام الثاني من الهجرة، وكان قد مات له قبل ذلك القاسم وعبد الله قبل البعثة.
كذلك سيموت عليُّ بن أبي العاص رضي الله عنه، وهو ابن زينب رضي الله عنها، -أيضًا- في حياة الرسول ﷺ، وليس معلومًا في أيِّ وقت، وإن كان من الثابت أنَّه كان مع رسول الله ﷺ في فتح مكة، فهذا يعني أنَّه مات في العام التاسع، أو العاشر، أو الحادي عشر، من الهجرة. كان عليُّ بن أبي العاص قد ناهز الحلم حين وفاته.
على الجانب الآخر، وفي ذي الحجة من العام الثامن من الهجرة، وفور عودة رسول الله ﷺ من فتح مكة، وُلِدَ لرسول الله ﷺ ابنه إبراهيم، وهو من مارية القبطيَّة رضي الله عنها.
ردود الفعل المتباينة لفتح مكة:
انقسمت القبائل العربيَّة بعد فتح مكة إلى فريقين؛ الأوَّل أدرك أنَّ الذي حدث مع رسول الله ﷺ من سيطرة على المدينة ومكة، ورضوخ القبائل الشريفة له، وازدياد أعداد المسلمين بهذا الاضطراد العجيب، كل ذلك يؤكِّد نبوَّة الرسول ﷺ، وهذا أعطاهم فرصةً لسماع القرآن الكريم، وفقه المعجزة الكبرى. هذه القناعة دفعت هذا الفريق للقدوم إلى المدينة لمبايعة رسول الله ﷺ على الإسلام، وذلك في صورة وفودٍ رسميَّةٍ تُمثِّل قبائلها، وتُعْلِن ولاءها للدولة الإسلاميَّة. يلحق بهذا الفريق قبائل أخرى وجدت أنَّ المستقبل للمسلمين، فأتت تُبايع على الإسلام، لا عن قناعةٍ به؛ ولكن شراءً لودِّ الدولة القويَّة التي ثبَّتت أقدامها في الجزيرة العربيَّة. أمَّا الفريق الثاني فقد تمسَّك بوثنيَّته، وعَدَّ الدولة الإسلاميَّة الجديدة تهديدًا مباشرًا له، وبالتالي استعدَّ عسكريًّا لحرب المسلمين، وهذا تطلَّب من رسول الله ﷺ إخراج سرايا من المدينة تهدف إلى قمع هذه القبائل، وتوطيد الأمر لدولة الإسلام.
هكذا سنجد أواخر العام الهجري الثامن، ومعظم التاسع، يشمل هذين النوعين من الممارسات؛ وفودٌ جاءت لتُبايع على الإسلام، وسرايا مسلمة تخرج لقتال المناوئين من القبائل المختلفة.
من الوفود التي أتت تُبايع على الإسلام في آخر العام الثامن الهجري وفود قبائل بني ثعلبة، وثمالة، والحُدَّان. أمَّا النصف الأوَّل من العام التاسع الهجري فقد شهد قدوم وفدَي عُذرة، وبلي، وهما من قبائل قضاعة القحطانيَّة، القاطنة في شمال الجزيرة العربيَّة. -أيضًا- شهدت هذه الفترة قدوم وفد بني أسد بن خزيمة. -أيضًا- من المحتمل أن يكون جرير بن عبد الله البجلي قد أتى إلى المدينة مؤمنًا في هذه المرحلة مع وفدٍ من قبيلته الكبيرة بجيلة، وهي من قبائل اليمن.
يُذْكَر -أيضًا- في أحداث هذه الفترة تشدُّد قبيلة ثقيف في رفض الإسلام، ومع ذلك فقد أتى منها عروة بن مسعود الثقفي إلى المدينة مسلمًا، وكان شخصيَّةً عظيمةً ذا مكانةٍ في قومه، ثم عاد إلى قومه في الطائف يدعوهم إلى الله فقتلوه! شقَّ ذلك على رسول الله ﷺ لكن لم يكن يملك له شيئًا في ذلك الوقت؛ إذ كانت الطائف محصَّنةً على أهلها.
ومن السرايا المهمَّة التي خرجت في هذه الفترة سريَّة عيينة بن حصن إلى قبيلة تميم في المحرم من العام التاسع الهجري، وقد سَبَتْ عددًا من نسائهم وأولادهم، وكانت سببًا في قدوم وفدٍ كبيرٍ من تميم إلى المدينة ليُعلنوا إسلامهم بين يدي رسول الله ﷺ، وفيهم نزل صدر سورة الحجرات.
وفي صفر بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن عوسجة إلى بني حارثة بن عمرو برسالة يدعوهم فيها إلى الإسلام فأبَوا؛ بل استهزءوا برسالة الرسول ﷺ، فدعا عليهم.
وفي الشهر نفسه كانت سريَّة قطبة بن عامر إلى قبيلة خثعم الكبيرة باليمن، فحقَّقت النصر على بعض بطونها، ولكن استشهد قطبة. وقد أتبع رسول الله ﷺ هذه السريَّة سريَّةً أخرى بقيادة خالد بن الوليد في السنة نفسها، ودون معرفة الشهر، ومن جديد فقد حقَّقت النصر؛ لكنَّها لم تحسم أمر قبيلة خثعم التي ما زالت تحظى بمكانةٍ كبيرةٍ عند المشركين في اليمن.
وفي ربيع الأوَّل كانت سريَّة الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب بالقرطاء بنجد، وتحقَّق فيها النصر للمسلمين، وكان الرسول ﷺ قد أرسل لهم سريَّةً سابقةً في العام السادس من الهجرة -كما مرَّ بنا- بقيادة محمد بن مسلمة للردِّ على كارثة بئر معونة، وكانت هذه السريَّة الأخيرة تأكيديةً لتفوُّق المسلمين.
وشهد شهر ربيع الآخر نشاطًا عسكريًّا إسلاميًّا ملحوظًا؛ إذ خرجت أوَّلًا سريَّةٌ لهدفٍ عجيب؛ وهو ردُّ هجومٍ لبعض الأحباش (الأفارقة) على ميناء جدَّة! كانت السريَّة بقيادة علقمة بن مُجَزِّر المدلجي t، ونجحت في دفع الأحباش عن البلدة، وكانت تأكيدًا لسيادة المسلمين على منطقة مكة وضواحيها والموانئ القريبة منها.
وفي الشهر نفسه خرجت سريَّةٌ ثانيةٌ مهمَّة بقيادة عليِّ بن أبي طالب لهدم صنم الفُلْس لقبيلة طيئ، وقد نجحت السريَّة في تحقيق هدفها، بل أسرت عددًا كبيرًا من القبيلة، ومع ذلك استطاع زعيمها عديُّ بن حاتم الطائي أن يفرَّ إلى الشام.
وفي الشهر نفسه -أيضًا- خرجت سريَّةٌ ثالثة بقيادة عكاشة بن محصن إلى أرض الجناب (أو الجباب)، وهي أرض قبيلتي عُذرة وبلي، هذا على الرغم من قدوم وفود مبايعة على الإسلام من هاتين القبيلتين، ولكن يبدو أنَّ أهل القبيلتين لم يكونوا متَّفقين جميعًا على الإسلام، وكان بعض أفرادها يترصَّدون لقوافل المسلمين منذ فترة.
هدأت الأمور نسبيًّا في المدينة بعد هذا النشاط، ومع ذلك فقد شهدت المدينة حدثين حزينين في هذه الفترة؛ الأوَّل هو إيلاء الرسول ﷺ من زوجاته جميعًا لمدَّة شهر، والإيلاء هو الحلف ألَّا يدخل عليهن، وآلم ذلك المجتمع المسلم كلَّه، وكان السبب هو حدوث خلافٍ مع حفصة وعائشة رضي الله عنهما. أمَّا الحدث الثاني فهو موت النجاشي العظيم في الحبشة، وصلاة الرسول ﷺ عليه صلاة الغائب في المدينة مع الصحابة.
ثم جاءت الأخبار المقلِقة بتجهُّز قبائل غسَّان الكبرى، القاطنة في الشام، والموالية للإمبراطوريَّة الرومانيَّة، لغزو المدينة، والقضاء على المسلمين، ممَّا دفع رسول الله ﷺ إلى تجهيز جيشٍ كبير، فكانت غزوة تبوك في رجب من العام الهجري التاسع[5].
[1] الشِّعَار: الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجِلْدَ مِنَ الْجَسَدِ.
[2] الدِّثَارُ: ما فَوْقَ الشعار، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لَطِيفَةٌ لِفَرْطِ قُرْبِ الأنصار مِنْهُ وَأَرَادَ أَيْضًا أَنَّهُمْ بِطَانَتُهُ وَخَاصَّتُهُ وَأَنَّهُمْ أَلْصَقُ بِهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ.
[3] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4075)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (1061) عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، واللفظ له.
[4] البخاري: كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] (3308)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه (52).
[5] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص400- 406.
التعليقات
إرسال تعليقك