قام المسلمون في العام السادس للهجرة بسبع عشرة عملية عسكرية، وهو رد فعلٍ طبيعي للانتهاكات التي حدثت للدولة الإسلامية.
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
خرج رسول الله إلى مكة للعمرة في ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ومعه ألف وأربعمائة مسلم، وساق الهَدْيَ، واستعدَّت قريشٌ لمنعه عسكريًّا من دخول مكة.
صلح الحديبية:
خرج رسول الله ﷺ إلى مكة للعمرة في ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ومعه ألف وأربعمائة مسلم، وساق الهَدْيَ، وحمل السلاح اتِّقاءً لقريش، وتخلَّف عنه المنافقون خوفًا من الصدام مع أهل مكة، واستعدَّت قريشٌ لمنعه عسكريًّا من دخول مكة. استشار الرسول ﷺ أصحابه في الأمر فأشاروا عليه بدخول مكة، ولو قاتله أهلها فليُقاتلهم، وبعد أن وافقهم الرسول ﷺ رفضت ناقته الحركة في اتِّجاه مكة، فأدرك أنَّ هذا إشارةٌ من الله لعدم دخول مكة عنوة. انحاز رسول الله ﷺ إلى بئر الحديبية على بعد عشرين كيلومترًا شمال غرب مكة، وأرسل عثمان بن عفان t ليُفاوض قريشًا في أمر العمرة.
أخَّر القرشيُّون عثمان بن عفان في مكة عدَّة أيَّامٍ كانوا يتباحثون فيها في أمرهم، وأُشيع عند المسلمين أنَّ عثمان قد قُتِلَ، فعقد الرسول ﷺ بيعةً تحت شجرةٍ في الحديبية؛ بايع فيها جميع الصحابة على القتال مع رسول الله ﷺ حتى الموت، وهي البيعة التي عُرِفَت ببيعة الرضوان؛ لأنَّ الله رضي عن كلِّ أهلها! قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18].
بعد البيعة تبيَّن أنَّ عثمان لم يُقْتَل، وأرسلت قريش الرسلَ تباعًا للتفاوض مع رسول الله ﷺ، وفي النهاية نجح الرسول الأخير لقريش سُهيل بن عمرو في عقد اتِّفاقٍ مع رسول الله ﷺ عُرِفَ بصلح الحديبية، وهو الصلح الذي سمَّاه الله تعالى «فتحًا مبينًا». قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1]؛ أي صلح الحديبية.
كان الصلح يقضي بألَّا يدخل الرسول ﷺ وأصحابه مكة هذا العام على أن يدخلوه بعد عامٍ معتمرين، بعد أن يخرج أهل مكة منها مدَّة ثلاثة أيَّام، وقضى الصلح كذلك بأن يردَّ المسلمون مَنْ جاء إليهم من أهل مكة مسلمًا بغير إذن وليه، ولا يردُّ أهل مكة مَنْ جاءهم من طرف المسلمين. غير أنَّ أهم بنود هذا الاتِّفاق كان في أمرين؛ الأوَّل هو وضع الحرب بين الفريقين مدَّة عشر سنين، والثاني هو السماح للقبائل العربيَّة في الدخول في حلف مَنْ أرادت من الفريقين؛ المسلمين وقريش.
لم يكن الصلح في ظاهره لصالح المسلمين، وهذا ما أحدث حزنًا عامًّا بين الصحابة، ولكنَّ الرسول ﷺ قَبِلَه باطمئنان؛ لأنَّ الله أمره بقبول خطَّة الصلح التي فيها تعظيمٌ لحرمات الله، ثم شاء الله أن يجعل في هذا الصلح خيرًا كثيرًا للمسلمين!
كان وضع الحرب بين الفريقين -أي الهدنة- سببًا في سهولة الدعوة الإسلاميَّة في الجزيرة العربيَّة بعد الصلح، بعد أن أمنت القبائل من غضب قريش، كما فتح الصلح الطريق إلى القطاعات الجنوبيَّة من الجزيرة العربيَّة، وأهمها اليمن، فصار إسلام أهلها وشيكًا؛ ممَّا سيُغَيِّر من المعادلة تمامًا لصالح المسلمين. لقد أسلم في السنتين التاليتين للصلح مثل الذي أسلم في السنوات التسع عشرة من الإسلام التي سبقت الصلح وأكثر! -أيضًا- لم يكن البند الذي يردُّ مَنْ أتى المدينة مسلمًا بضارٍّ على المستوى البعيد للدولة المسلمة؛ إذ صار هؤلاء المسلمون شوكةً في حَلْقِ المشركين، وصاروا يؤذونهم بشكلٍ دفع المشركين إلى رجاء المسلمين لاحقًا برفع هذا البند من المعاهدة! أمَّا البند الذي أَذِن للقبائل بالدخول في حِلف مَن شاءت من الفريقين فقد نتج عنه دخول بني بكر في حِلْف قريش، بينما دخلت خزاعة في حلف المسلمين، وسيكون لهذه التحالفات الجديدة آثارٌ كبيرةٌ في سير الأحداث في المرحلة المقبلة.
لهذا كلِّه عُدَّ صلح الحديبية فتحًا، ولقد نزلت في طريق عودة المسلمين للمدينة سورةُ الفتح تخليدًا له، وانتقل المسلمون بعده من نجاحٍ إلى نجاح؛ بل يمكن القول: إنَّ الدعوة الإسلاميَّة انتقلت إلى العالميَّة حقًّا بعد هذا الحدث!
تشريعاتٌ جديدة:
في هذه الفترة؛ أعني أيام صلح الحديبية، وبعده بقليل، نزلت عدَّة تشريعات، منها ما كان له علاقةٌ بالصلح، ومنها غير ذلك.
من هذه التشريعات -على الأغلب- صلاة الخوف، وإن كان بعض المؤرِّخين يضع زمن تشريعها في فتراتٍ مختلفة، قبل أو بعد الصلح.
ومنها تحريم زواج المسلمات بالمشركين، وبالتالي عدم إمكانيَّة ردِّ المسلمات اللاتي يأتين من مكة إلى أزواجهن الكفار، على اعتبار أنَّ اتِّفاق الحديبية بإرجاع المسلمين إلى مكة كان خاصًّا بالرجال فقط. كما صار لا يجوز للمسلم أن يُبْقِي على زواجه من كافرة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: 10].
ومن التشريعات الجديدة -أيضًا- في هذه الفترة فرض الحج.
ومنها -أيضًا على الأغلب- تحريم الظهار[1].
[1] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص380- 382.
التعليقات
إرسال تعليقك