أهم أوصاف الرسول هو أنه رسول من عند الله، ولهذا استخدم الله أسلوب الحصر عندما عرفه فقال: ﴿ومَا مُحَمدٌ إِلَا رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلهِ الرسُلُ﴾
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
كان تأكيد الله على وصف الرسول محمد بالبشرية في القرآن الكريم مهمًّا جدًّا في التعريف به. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
لا شَكَّ أنَّ أعظم وأدقَّ وَصْفٍ وُصِف به رسول الله ﷺ هو ذلك الوصف الذي وصفه الله تعالى به في كتابه الكريم؛ فالله أعلم بخلقه، وهو -سبحانه- الذي يعلم الظاهر والباطن، ويُدرك الخفيَّ من الأخبار، وهو المطَّلِع على خبايا الصدور، ونوازع النفس، وهو الذي اختار نبيَّه للرسالة، وأنزل عليه الوحي، وأَمَرَه بالبلاغ، وهو -سبحانه- يعلم أين يجعل رسالته؛ قال تعالى: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]. لذا تُعتبر هذه الشهادة من الله هي أكبر شهادة في حقِّ الرسول ﷺ؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾[الأنعام: 19].
ولقد وصف اللهُ نبيَّه بأعظم الصفات في قرآنه الكريم، وأنبأ رسولُ الله ﷺ عن بعضها في أحاديثه النبويَّة، ولكنِّي في هذا المقال سأكتفي بوصف الله لرسوله ﷺ بأنه بشر:
وصفه بأنه بشر ﷺ:
كان تأكيد الله على وصف الرسول محمد ﷺ «بالبشريَّة» في القرآن الكريم مهمًّا جدًّا في التعريف به. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 110]. وقد وضَّح لنا مدى التأكيد الذي أراده الله في هذا التعريف؛ فلم يكتفِ بوصف الرسول «بالبشريَّة» إنَّما أضاف وصفَ «مِثْلَكُمْ»، وذلك ليؤكِّد أنَّها البشرية نفسها التي ينتمي إليها عامَّة البشر، دون تمييزٍ أو تفرقة.
إنَّ هذا التأكيد جاء بهذه الصورة القاطعة لكي يمنع الأتباع من المغالاة في نبيِّهم، فينقلونه من دائرة البشريَّة إلى دائرة الألوهيَّة، فيقعون في الشرك بالله. هذا ليس أمرًا بعيدًا عن سلوك الناس؛ فهم عادةً يُبالغون في التكريم فيقعون في الخطأ، وأوضح الأمثلة على ذلك ما حدث من النصارى مع نبيِّهم عيسى؛ حيث زادوا في تكريمه وتعظيمه فجعلوه ابنًا لله، ثم غالَوا بصورةٍ أكبر فجعلوه اللهَ ذاته! قال تعالى في القرآن يلوم عليهم هذا السلوك المنحرف: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 171].
ولقد أثبت الله البشريَّة لعيسى u بقوله: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75]، ونفى عن عيسى أن يكون قد دفع النصارى إلى هذه المغالاة التي قادتهم إلى الشرك، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ` مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 116، 117].
من أجل عدم الدخول في هذا المنعرج الخطر أكَّد الله تعالى في وصفه لمحمد ﷺ أنَّه بشر، وله كلُّ صفات البشر وفطرتهم، غير أنَّه أفضلهم قدرًا، وأقربهم منه سبحانه. لم يكن هذا الوصف في آيةٍ أو آيتين؛ إنَّما جاء متكرِّرًا بشكلٍ لافت. قال تعالى آمرًا رسوله بالتعريف الصريح لنفسه بأنَّه رسولٌ من البشر: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93]، وقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 34]، وقال أيضًا: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [فصلت: 6]، ولم يرد على المشركين اعتراضهم على بشريَّة الرسول، فهذه هي الحقيقة. قال تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الأنبياء: 3]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 7].
أمَّا الحكمة من كون رسول الله إلى الناس بشرًا مثلهم فهي تيسير عمليَّة الاتِّباع عليهم؛ فلو كان الرسول مَلَكًا لاعتذر الناس بعدم قدرتهم على اتِّباعه لكونه ذا خصائص مختلفةٍ عنهم تؤهِّله لما يعمل. قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا ` قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 94، 95]. كان محمد الرسول -ﷺ- يفعل كلَّ ما يفعله البشر، ويشعر بكلِّ ما يشعرون به. كان يأكل ويشرب وينام، وكان يفرح ويحزن، وكان يُصاب ويمرض، وكان يكتسب قوَّته، ويرعى الأغنام، ويتاجر بالمال، وكان يجاهد في المعارك، ولم يكن يحقِّق النصر في كلِّ معاركه. إنَّه بشرٌ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ.
ومع هذه البشريَّة الكاملة إلَّا أنَّه كان يقوم بكلِّ تبِعات الشريعة على الوجه الأكمل؛ فلا يأمر الناس بأمرٍ لا يفعله، ولا يمنعهم من شيءٍ يأتيه، ولا يُكلِّفهم بما هو فوق طاقة البشر، وكان قدوة المسلمين في كلِّ خير، ولهذا أَمَرَ اللهُ باتِّباعه دون تردُّد. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]. كان هذا الرسول البشري يصلِّي ويصوم ويزكِّي، ويقوم بسائر العبادات، وكان يجاهد في المعارك ويضحِّي بنفسه وماله، وكان يرحم ويعفو ويصدق ويعدل، وكان يُحسِن إلى أهله ورَحِمِه وأصحابه وجيرانه، وكان يكرم ضيوفه ومن يعرف ومن لا يعرف، وكان يتسامح مع أعدائه، ويحسن معاملة أسراه، ويقبل بالصلح مع من تعدَّى عليه. إنَّه يقوم بكلِّ التكاليف التي يعتذر بعض الناس عن فعلها بدعوى أنَّها شاقَّة، فإذا تحقَّق الجميع من أنَّه فعلها مع كونه بشرًا «مثلهم» سَهُلَ عليهم الاتِّباع مهما كان التكليف صعبًا.
هذه في الواقع رحمة من الله تعالى، لذلك امتنَّ الله على عباده بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]؛ فكون الرسول من طبيعة الناس نفسها مِنَّةً من الله تعالى على البشر، وتيسيرًا لهم في الاتباع، وغلقًا لأبواب الشيطان في تثبيط الناس عن العمل بدعوى مشقَّة التكليف، أو استحالة التطبيق.
نفى صفات الألوهيَّة عنه ﷺ:
استكمالًا للمعنى الذي ذكرناه في النقطة السابقة فإنَّ الله -لخطورة الأمر- لم يكتفِ بإثبات «البشريَّة» لمحمد الرسول ﷺ؛ إنَّما نَفَى عنه «الألوهيَّة» بوضوح، لكي يُغْلِق كلَّ أبواب الاجتهاد الخاطئ في هذا المجال، وليحفظ عقيدة الناس من الزيغ والتخبُّط.
كان نفي اللهِ لألوهيَّة محمد ﷺ عن طريق نفي الصفات التي يتَّصفُ بها الإله ولا يتَّصف بها البشر ولا يستطيعونها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
فالله تعالى معبودٌ يعبده الخلق جميعًا طوعًا أو كرهًا. قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 83]، أمَّا الرسول فهو «عابدٌ» لله تعالى مأمورٌ بشكلٍ مباشرٍ أن يعبده سبحانه. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ [الرعد: 36].
والله تعالى «يأمرُ» ولا «يُؤْمَر». قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]، بينما أكَّد الله في القرآن على أنَّ الرسول ﷺ «مأمورٌ» كغيره من البشر بأوامر من الله تعالى، فقال على سبيل المثال: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ [الأنعام: 14]، وقال: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 104]، وقال كذلك: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾ [هود: 112]، وقال أيضًا: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ` وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ [النمل: 91، 92]، وهذه مجرَّد أمثلة، والأمر أوسع من ذلك.
والله تعالى «يَسْأَلُ» البشرَ وكلَّ المخلوقات، بينما لا «يُسْألُ» هو -سبحانه- عن شيء. قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ` لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 22، 23]، أمَّا الرسول ﷺ فقد تكرُّر سؤاله من قِبَل الله تعالى في القرآن كثيرًا، فكان هذا في الواقع جانبًا من التعريف به. إنَّه بشرٌ عظيمٌ لا شَكَّ، لكنَّه -كبقيَّة البشر- مسئولٌ ومحَاسَبٌ، والأمثلة على هذه الأسئلة كثيرةٌ في القرآن؛ ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ [التحريم: 1]، وقوله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، ومثال ذلك كثير.
والله تعالى هو الذي يُوحِي القرآن لنبيِّه ﷺ، والنبيُّ ﷺ لا يملك من أمر الوحي شيئًا، فهو لا يعرف متى ينزل، ولا بأيِّ شيءٍ سينزل، ولا يملك أن يُغَيِّر منه شيئًا. وقد أَمَرَ اللهُ رسولَه محمدًا ﷺ أن يذكر هذه الحقيقة واضحةً للناس، حتى لا يظنَّ أحدٌ أنَّ الرسول قد كتب القرآن، أو شيئًا منه، من تلقاء نفسه. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنبياء: 108]، وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15].
والآيات والمعجزات التي تحدث على يد الرسول ﷺ لا تحدث إلَّا بأمر الله تعالى، ولا يملك رسول الله ﷺ أن يفعلها، أو أن يقترحها، أو أن يقبل اقتراح الناس لها، إلَّا أن يشاء الله. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [الرعد: 38]، ولهذا عندما طلب الكفار من رسول الله ﷺ معجزاتٍ بعينها كان الردُّ الواضح على هذا الطلب هو أنَّه لا يملك هذا الأمر أصلًا؛ إنَّما هو بيد الله تعالى «وحده»، مع أنَّه كان من الممكن لرسول ﷺ أن يجادلهم في أنَّ المعجزة القرآنيَّة قويَّة وقاهرة، ولا تحتاج إلى معجزةٍ إلى جوارها، ولكن عندها قد يظنُّ بعضهم أنَّ القرآن من عنده، وأنَّه -ﷺ-لا يريد الإتيان بالمعجزات الأخرى مع قدرته على ذلك. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ` أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ` أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ` أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90 - 93]. هكذا جاء الردُّ على هذه الطلبات مختصرًا، وفي الوقت ذاته كاشفًا عن قصور البشر -ولو كانوا رسلًا- عن الإتيان بالمعجزات، إلَّا بإرادة الله القدير.
وعندما طلب المشركون وقوع العذاب عليهم إن كان الرسول صادقًا، أمره الله تعالى أن يقول لهم إنَّه لا يملك هذا الأمر؛ بل هو في يد الله وحده. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ` قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 57، 58].
والله تعالى يعرف غيب السماوات والأرض، ولا يملك أحدٌ من البشر، ولا الرسول ﷺ نفسه، أن يعلم الغيب، إلَّا إذا أوحى الله له بشيءٍ منه. قال تعالى قاصرًا علم الغيب عليه سبحانه، ونافيًا أن يعلمه غيرُه: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65]، وقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59]، أمَّا الرسول ﷺ فقد أمره الله تعالى أن لا يكتفي بالنفي العام الذي ذكره الله في حقِّ الخلق جميعًا؛ إنما وَجَبَ عليه -منعًا للالتباس- أن يبيِّن للناس صراحةً أنَّه -هو تحديدًا- لا يعلم الغيب. قال تعالى على لسان نبيه ﷺ: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188]، وقال: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9]، وقال أيضًا: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا﴾ [الجن: 25]، وقال كذلك: ﴿وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 109]، وقال: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأنبياء: 111]، وقال: ﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام: 50]، ونَبَّه الله تعالى إلى أنَّ الرسول ﷺ لا يعلم موعد النصر على الأعداء، فقال: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]. هذا كلُّه لإثبات بشريَّة الرسول ﷺ، وعبوديَّته الكاملة لله ربِّ العالمين.
وليس الأمر متعلِّقًا بالغيب فقط؛ فالله بشكلٍ عامٍّ يعلم كلَّ شيء، وعلمه مطلقٌ لا استثناء فيه. قال تعالى واصفًا علمه: ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 97]، ومثل هذه الآية كثيرٌ جدًّا في القرآن. في المقابل نفى الله العلمَ عن البشر، فقال: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، وهذه الآية بهذه الصياغة متكرِّرةٌ أربع مرَّاتٍ في القرآن؛ مرَّتان في البقرة، ومرَّة في كلٍّ من آل عمران والنور، ومع أنَّ البشر يعلمون بعض الأشياء إلَّا أنَّها لقلَّتها لا تُعَدُّ شيئًا، كما أنَّ الله هو الذي أَذِنَ لهم بهذا العلم وآتاهم إيَّاه، ولو شاء لحرمهم منه، فصار مردُّ العلم كلِّه له سبحانه. قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]. والرسول ﷺ ليس مُسْتثنًى في هذا المجال؛ لأنَّه من جملة البشر، فعلمه كلُّه من الله تعالى، ومع ذلك فقد لفت الله الانتباه إلى أنَّ الرسول ﷺ تحديدًا لم يكن يعلم ابتداءً، وأنَّ الله -بفضله- هو الذي علَّمه؛ فلا ينبغي أن يُفْتَن الناسُ بما يخرج منه من علمٍ عظيم. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: 113]، وقال أيضًا: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52]، وقال كذلك: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [هود: 49]، وأَمَرَ الله نبيَّه محمدًا أن يخبر الناس بعدم قدرته الذاتيَّة على العلم، وأنَّ علمه كلَّه من الله تعالى، فقال: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]، وأمَرَه أن يقول أيضًا: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ [يونس: 16]. ونبَّه الله تعالى أنَّه قادرٌ على إيقاف الوحي، وبالتالي منع هذا الفيض من العلوم عن رسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا﴾ [الإسراء: 86]. هذا كلُّه يؤكِّد من جانبٍ على ربَّانيَّة الوحي وإعجازه، وفي الوقت نفسه يمنع الناس من الفتنة بالرسول العظيم ﷺ؛ فلا يرفعونه فوق قدر النبوَّة والرسالة، وهو قدرٌ عظيمٌ بلا جدال.
وأثبت اللهُ لنفسه -وحده- القدرة على إحداث النفع والضُّرِّ، وأمر رسوله ﷺ أن يُبَلِّغ الناس أنَّه -أي رسول الله ﷺ- لا يملك هذه القدرة البتَّة. قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188]، وقال: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ` قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: 48، 49]، ولعلنا نلاحظ أنَّه -سبحانه- قَدَّم النفع على الضرِّ في آية الأعراف، وقدَّم الضرَّ على النفع في آية يونس، وهذا لإثبات عدم القدرة علي أيهما بكلِّ طريقة، فضلًا عن أنَّ الرسول ﷺ في آية الأعراف يتحدَّث عن الخير المرتقب فناسب ذلك أن يبدأ بالنفع، أمَّا في آية يونس فالكفار يسألون عن موعد العذاب المتوقَّع، فناسب أن تكون البداية بذكر الضرِّ. وإذا كان الرسول ﷺ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فإنَّه من باب أولى لا يملك للناس هذا الأمر، ولهذا أمره الله أن يذكر هذه الحقيقة للناس، فقال: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا﴾ [الجن: 21].
وفي آياتٍ أخرى ردَّ الله تعالى على دعاوى المنافقين الذين يتَّهمون الرسول ﷺ بالتسبُّب في الضرر لهم، وبيَّن -سبحانه- أنَّ كلَّ شيءٍ بيده هو U، وأنَّ الرسول ﷺ لا يملك في ذلك شيئًا، وبيَّن كذلك أن ما يقع على الناس من ضُرِّ أحيانًا فسببه أخطاء أو ذنوب يرتكبونها. قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ` مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 78، 79].
والله تعالى يُنَزَّه عن الضلال، وهو عدم الاهتداء للحقيقة، والجهل بشيءٍ ما، وهذا محالٌ في حقِّ الله تعالى، لكنَّه يحدث مع البشر، بل أثبته الله تعالى لنبيِّه محمدٍ ﷺ، فقال: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7]، فالرسول ﷺ لم يكن يعرف طريق الهدى، وإن كان يبحث عنه، فهداه اللهُ إليه بمنِّه وفضله. -أيضًا- يُنَزَّه اللهُ تعالى عن النسيان، بينما هو حادثٌ مع البشر جميعًا، ومنهم الرسول ﷺ، ولذا قال له تعالى في كتابه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: 24]. وقد نفى اللهُ عن نفسه الضلال والنسيان، فجمعهما في آيةٍ واحدةٍ فقال: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52].
والله تعالى لا ينام. قال تعالى واصفًا نفسه: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]، بينما أثبت النوم لرسول الله ﷺ، فقال: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا﴾ [الأنفال: 43].
والله هو الذي يهدي من يشاء من عباده، والنبيُّ ﷺ لا يملك ذلك. قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، وهذا في الواقع معنًى دقيق؛ لأنَّ المشاهد لجهد الرسول ﷺ الكبير في دعوة الناس، وفي التأثير عليهم، قد يظنُّ أن الهداية النهائيَّة كانت منه ﷺ، ولكنَّ الواقع أنَّ الرسول ﷺ أوصل لهم الرسالة بأمانة، وشرح لهم الحقيقة شرحًا وافيًا، ثم أراد الله بعد ذلك لفريقٍ فآمن، ولم يُرِدْها لفريقٍ آخر فكفر، على الرغم من وضوح الرسالة عنده، وعدم تقصير الرسول ﷺ في إبلاغه. والحقُّ أنَّ السيرة النبويَّة ممتلئةٌ بالأمثلة الدالَّة على إسلام قومٍ لم يكن رسول الله ﷺ متوقِّعًا لإسلامهم كعكرمة بن أبي جهل t مثلًا، أو على عدم إسلام قومٍ آخرين كان رسول الله ﷺ حريصًا على إسلامهم بشكلٍ خاصٍّ كعمِّه أبي طالب، والأمر في النهاية كلُّه لله.
والله تعالى لا يخاف أحدًا، ولا يخشى عاقبة فعلٍ فعله. قال تعالى: ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس: 15]، بينما أثبت الله لنبيِّه محمدٍ الخوفَ منه سبحانه، وهذه فضيلة، وأمره أن يُخْبِر الناس بذلك: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 15]، وتكرَّر هذا المعنى في سورة يونس: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15]، وفي سورة الزمر: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الزمر: 13]، وقال أيضًا: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الجن: 22]. والأكثر من ذلك أنَّه -سبحانه- أثبت الخوف من الناس لرسوله محمد ﷺ في أحد المواقف في السيرة، وسجَّله في القرآن الكريم على ندرته. قال تعالى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]. هذه الآية الأخيرة هي أشدُّ آيةٍ في القرآن على رسول الله ﷺ، وهي تُثبت ربَّانيَّة القرآن، وتثبت -أيضًا- بشريَّة الرسول ﷺ، ولذا تُعَلِّق أمَّ المؤمنين عائشة ل على هذه الآية بقولها: «لَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بِالْعِتْقِ فَأَعْتَقْتَهُ، ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب: 37]»[1].
ويلحق بالنقطة السابقة وَصْفَان مهمَّان وَصَفَ اللهُ تعالى بهما نبيَّه محمدًا ﷺ بل وناداه بهما، وهما يُثبتان الخوفَ لرسول الله ﷺ بشكلٍ واضح! هذان الوصفان هما الْمُزَّمِّلُ، والْمُدَّثِّرُ! قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1].
أما الْمُزَّمِّلُ فسببها -على الأغلب- ما حدث لرسول الله ﷺ من خوفٍ شديدٍ بعد رؤية جبريل u في غار حراء للمرَّة الأولى بعد أن أمره بالقراءة. تصف عائشة ل هذا الموقف حكايةً عن رسول الله ﷺ فتقول: فَرَجَعَ بِهَا[2] رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ل، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ..» [3].
وأمَّا الْمُدَّثِّرُ فسببها ما حدث لرسول الله ﷺ من خوفٍ شديدٍ عندما رأى جبريل على كرسيٍّ معلَّقٍ بين السماء والأرض عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ب قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ -يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 2]» [4].
وقد أثبت الله تعالى صفتي التزمُّل والتدثُّر في القرآن الكريم، ليُذكِّر بهذه الصفات البشريَّة الطبيعيَّة لرسول الله ﷺ، بل جعل اسمي السورتين على هذا النحو -وهي أسماءٌ توقيفيَّةٌ من عنده سبحانه- ليظلَّ المعنى حاضرًا في أذهان المسلمين، وليُثبت -أيضًا- أنَّ الرسول ﷺ لم يكن متوقِّعًا للرسالة، بل أتته فجأةً دون علمٍ مسبقٍ منه، وأنَّه في النهاية ليس إلَّا رسولٌ كريم اختاره الله العظيم ليُبلِّغ الناس رسالته.
والله تعالى لا يموت. قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، بينما أثبته لنبيِّه محمدٍ ﷺ، فقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30].
والله تعالى هو الغني، وغناه مطلق؛ إذ إنَّه سبحانه يملك السماوات والأرض وما بينهما. قال تعالى: ﴿وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [المائدة: 17]، وأمَّا الناس فهم جميعًا فقراء إلى الله؛ لأنَّهم لا يملكون في الواقع ملكًا حقيقيًّا، إنَّما يملكون مؤقَّتًا شيئًا في ملك الله ثم لا يلبثون أن يتركوه أو يتركهم! ولذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، وقال: ﴿وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [محمد: 38]. هكذا بشكلٍ مطلق. ومع أنَّ الرسول ﷺ داخلٌ في عموم الناس الفقراء إلى الله، إلَّا أنَّ الله أثبت له الفقر لكي ينفي عنه إحدى صفات الألوهيَّة، فلا يحدث عند الناس التباسٌ بأمره. قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 8].
والله تعالى لا زوجة له ولا ولد. قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ [الجن: 3]، أمَّا الرسول محمد ﷺ فقد أثبت الله له الزوجات والأبناء في غير موضع؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 59]، وقال: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب: 37]، وقال: ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم: 1]، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، وقد أكَّد الله تعالى أنَّ اتخاذ الزوجة والأولاد يحدث مع الرسل عمومًا، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: 38].
والله تعالى يملك أن يرحم أو يُعذِّب، ويملك أن يحاسِب أو يعفو. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 40]، وقال: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ [العنكبوت: 21]، والبشر جميعًا لا يملكون شيئًا من هذا البتَّة، والرسول ﷺ داخلٌ في عداد البشر، فهو لا يملك عذاب الناس أو رحمتهم، وهذا مفهومٌ للجميع، ومع ذلك أثبته الله في كتابه منعًا للالتباس، فقال مخاطِبًا نبيَّه ﷺ، وموضِّحًا الفرق بين الربِّ والعبد، والإله والإنسان: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ` وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 128، 129].
وقد مرَّ بنا أنَّ الله أَمَرَ نبيَّه ﷺ بأعمالٍ كثيرة؛ على غرار قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]، وقوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء: 79]، وقوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 84]، وهذا النوع من الأوامر لا يُحصى في القرآن، وكلُّها يُثْبِت عبوديَّة الرسول ﷺ لله تعالى، ولكن هناك في القرآن فوق ذلك ما أراد الله تعالى به أن ينفي الألوهيَّة عن رسوله محمدٍ ﷺ بشكلٍ أكبر، وهو كثرة «النواهي التحذيريَّة» التي وجَّهها له I؛ فالنهي عن شيءٍ يأخذ عادةً شكلًا صارمًا أعلى من الأمر بشيء، وهذا يعطي صفة الهيمنة والقدرة والغلبة للناهي، وهذا في الواقع كثيرٌ جدًّا في القرآن الكريم. من أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ` إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [الكهف: 23، 24]، وقوله: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1]، وقوله: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: 114]، وقوله: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ [طه: 131]. هذه كلُّها نواهٍ للرسول ﷺ نفسه، وسيتولَّى بعد ذلك تبليغها للمؤمنين ليتَّبعوه فيها، ولكنَّها أظهرت عبوديَّة الرسول ﷺ لله تعالى، وانصياعه لأوامره.
بل قد يأتي النهي الرباني لرسوله ﷺ في صورةٍ شديدةٍ قد نستغربها مع أعظم شخصيَّةٍ في البشر، ومع أقرب الخلق إلى الله تعالى، وهذا للتأكيد على أنَّ الآمر هو الله، والمأمور -وهو الرسول ﷺ- عبدٌ له سبحانه. من أمثلة ذلك قوله تعالى مخاطبًا نبيَّه الحبيب: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: 35]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]، وقوله أيضًا: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 106].
وجاءت في بعض المواضع من القرآن الكريم تحذيراتٌ مباشرةٌ للرسول ﷺ من ترك شيءٍ من البلاغ، أو التردُّد فيه، مع أنَّه لا يفعل يقينًا، ولكن هذا لإبراز أنَّ التكليف من الله، وأنَّه -ﷺ- لا يدعو إلى شريعةٍ جاء بها من تلقاء نفسه. مثال ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [هود: 12]، و-أيضًا- قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94].
أكثر من هذا نجد بعض التهديدات الربَّانيَّة لرسول الله محمد ﷺ إن فعل شيئًا ما منهيًّا عنه، ومع يقيننا الكامل أنَّه -ﷺ- لا يفعل ما نهاه الله عنه، إلَّا أنَّ الصياغة تجعل القارئ يعلم تمامًا الفرق بين الربِّ والعبد. مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145]، وأشدُّ من هذا في هذا المضمار قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ` وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ` إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 73 - 75]، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [يونس: 95]!
أيضًا كانت من الطرق التي جاءت في القرآن لنفي الألوهيَّة عن رسول الله ﷺ ذكر وتوثيق بعض الأمور التي فعل فيها الرسول ﷺ خلاف الأَوْلَى، ممَّا استدعى عتابًا من الله تعالى، ومع أنَّ كلَّ هذه الأعمال التي عوتِب فيها النبيُّ ﷺ كان منشأها شفقته على الخلق، ورحمته الزائدة، ولم يَظْهر فيها قط تعمُّدُ مخالفة ما يريده الله تعالى، إلَّا أنَّ المعاتبة فيها أوضحت الفرق بين الربِّ الذي يحدِّد معايير الصواب والخطأ، والحقِّ والباطل، والحلال والحرام، والعبد الذي عليه أن يطيع الله مهما كانت لديه نوازع خاصَّة ناحية عملٍ ما. والمواقف التي عاتب الله تعالى فيها نبيَّه ﷺ كثيرة، وكلُّها جاءت بأسلوبٍ رقيقٍ للغاية تعظيمًا لشأن الرسول ﷺ، ولكيلا ينتقص أحدٌ من قدره لأجل هذه المعاتبة، وكما قالوا قديمًا: «حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين»، فإنَّ هذه الأعمال من رسول الله ﷺ قد تُعتبر حسنات عند بقيَّة الناس؛ لأنَّها فُعِلَت لفرط الرحمة غالبًا.
من هذه المعاتبات مثلًا عتاب الله لنبيِّه ﷺ لانشغاله بدعوة الكبراء، الذين لو أسلموا نجوا ونجى أهل مكة بإسلامهم، عن عبد الله بن أمِّ مكتوم الفقير الأعمى. قال تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى ` أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ` وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ` أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ` أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ` فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ` وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ` وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ` وَهُوَ يَخْشَى ` فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ` كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ [عبس: 1 - 11].
ومنها -أيضًا- عتابه -سبحانه- لنبيِّه ﷺ لاستغفاره لعمِّه أبي طالب مع كونه مات مشركًا، وكان رسول الله ﷺ قد فعل ذلك شفقةً على عمِّه الذي آزره كثيرًا. قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113].
ومنها -أيضًا- عتابه -سبحانه- لنبيِّه لصلاته على رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلول، واستغفاره له، وكان رسول الله ﷺ قد فعل ذلك رحمةً به مع شدِّة إيذاء هذا المنافق له وللمسلمين. قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 84]، وقال -أيضًا- في المناسبة نفسها: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: 80].
ومنها كذلك عتابه -سبحانه- لنبيِّه ﷺ لإذنه للمنافقين بعدم الخروج في غزوة تبوك، وقد فعل ذلك حياءً منهم، وشفقةً عليهم. قال تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
ومنها عتابه -سبحانه- لنبيِّه ﷺ لتحريمه العسل على نفسه إرضاءً لزوجتيه؛ عائشة وحفصة ب، اللتين زعمتا أنَّ رائحة فمه متغيِّرةٌ منه، وكان قد أكل هذا العسل عند زوجةٍ أخرى، ممَّا أثار غيرتهما. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم: 1].
ومنها -أيضًا- عتابه -سبحانه- لنبيِّه ﷺ لاتِّخاذه أسرى في غزوة بدر، وكان الأَوْلَى أن يُكْثِر من قتل المشركين؛ لأنَّ شوكتهم كانت قويَّة، وانقلابهم على المسلمين لاحقًا كان متوقَّعًا، ولكنَّ الرسول ﷺ اتَّخذ الأسرى رحمةً بهم، وخوفًا عليهم من الموت مشركين. قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 67].
ومن الطرق التي جاءت -أيضًا- في القرآن الكريم لنفي الألوهيَّة عن رسول الله ﷺ، وإثبات بشريَّته، التأكيد على أنَّ ما حقَّقه -ﷺ- من نجاحٍ في أمرٍ ما إنَّما كان بتوفيقٍ من الله تعالى؛ فهو -سبحانه- الذي يأذن للأمر أن يتمَّ، وهو الذي يكفل له عوامل النجاح. قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]، فمع أنَّ الرسول ﷺ هو الذي أمسك حفنة الحصى في بدر ورماها على المشركين، إلَّا أنَّها لم تكن لتذهب إلى أنوفهم وأعينهم جميعًا إلَّا إذا أراد الله ذلك، فعلى المؤمنين والناس جميعًا، أن يفهموا أنَّ الفاعل الحقيقي هنا هو الله تعالى، مع أنَّ الرامي أمامهم هو رسول الله ﷺ. -أيضًا- قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 63]، فهنا -أيضًا- نجد أنَّ الله ينسب تأليف القلوب إليه وحده -سبحانه- مع أنَّ الذي يراه الناس هو أنَّ الرسول ﷺ قد أصلح بين الأوس والخزرج، وجمع بين المهاجرين والأنصار، وبذل جهدًا كبيرًا في تأليف قلوبهم، ولكن كلَّ هذا ما كان لينجح -مهما بُذِلَ فيه من جهد وفكر- إلَّا أن يشاء الله العزيز الحكيم.
وأخيرًا فمن الطرق القرآنيَّة التي نفت الألوهيَّة عن محمد ﷺ التصريح بعبوديَّته لله تعالى، وخاصًّةً في المواقف الكبرى التي قد يُفْتَن الناس فيها لكرامة الرسول ﷺ وعظمة فعله. ففي غزوة بدر مثلًا، وبعد الانتصار العظيم على المشركين بعددٍ قليل، وعُدَّةٍ يسيرة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: 41]، فأكَّد على عبوديَّة هذا القائد المنتصر لله تعالى؛ لئلَّا يُفْتَن الناس في قيادته وإدارته. وعندما تحدَّى اللهُ المشركين في الإتيان بسورةٍ تماثل سور القرآن عظمةً وإحكامًا، أكَّد على أنَّ القرآن نزل على «العبد» محمد ﷺ، وبالتالي لا ينبغي أن ينصرف الذهن أبدًا إلى الظنِّ أنَّ الناظم لهذا الكلام المعجِز هو الرسول ﷺ، أو غيره من البشر. قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]. وفي قصَّة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، وهي قصَّةٌ عجيبةٌ بكلِّ المقاييس؛ إذ حدثت في جزءٍ قليلٍ من الليل مع بُعد المسافة بين المدينتين، أكَّد اللهُ تعالى على عبوديَّة الرسول ﷺ في هذا الموقف؛ لئلَّا يُفْتَن الناس بهذه القدرة الخارقة التي حدثت، ولا يربطونها بقدرات الرسول ﷺ؛ إنما فقط بالله تعالى القدير. قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]. -أيضًا- عاد الله تعالى إلى تذكير الناس بعبوديَّة الرسول ﷺ عندما تحدَّث عن القسم الثاني من هذه الرحلة العجيبة، وهو رحلة المعراج إلى السماء، فقال: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10]! فانظر إلى توافق وصف الرسول ﷺ بالعبوديَّة في الإسراء ثم في المعراج مع تباعد الآيات في المصحف! كذلك عندما نجح رسول الله ﷺ في دعوته، وثبت أمام جموع الكافرين الكبيرة، التي اجتمعت عليه من كلِّ حدبٍ وصوب، أكَّد الله على عبوديَّة الرسول ﷺ؛ فقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: 19]، وذلك لئلَّا يظنَّ الناس أنَّ نجاته -ﷺ- من كيد المشركين كانت بسبب مهارةٍ منه أو ذكاء، أو تدبيرٍ أو ترتيب؛ إنما الأمر كلُّه كان لله تعالى، وقد شاء لدعوته ﷺ أن تنجح، وتتأسَّس الدولة، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا، ولو شاء غيرَ ذلك ما تحقَّق أيٌّ منها، وسيأتي يوم القيامة أنبياء ليس معهم إلَّا رجلًا أو رجلين، وسيأتي أنبياء آخرون ليس معهم أحدٌ مؤمنٌ أبدًا، وليس هذا عن تقصيرٍ منهم -حاشاهم- إنَّما لم يُرِد الله الهداية لأقوامهم لظلمٍ وقعوا فيه، بينما أرادها للأنبياء الأكثر تبعًا، وفي مقدِّمتهم محمد ﷺ، والأمر في النهاية كلُّه لله سبحانه. وهناك تأويلٌ آخر لهذه الآية الأخيرة؛ حيث يقول بعض المفسرين: إنَّ الذين كادوا يكونوا لبدًا -أي مجتمعين- على رسول الله ﷺ، هم الجنُّ الذين استمعوا للقرآن، في عودة الرسول ﷺ من الطائف إلى مكة، وهو -أيضًا- موقفٌ عجيبٌ دَفَع اللهُ تعالى فيه الجنَّ -بغير إرادةٍ من رسول الله ﷺ، أو حتى معرفةٍ له- إلى سماع القرآن، والإيمان به، والدعوة لاتِّباع أمره.
إنَّ القارئ قد يستعجب لهذا السيل الكبير من الطرق التي كشف الله بها عن صور الضعف البشري الطبيعيَّة التي أثبتها -سبحانه- لنبيِّه العظيم محمد ﷺ؛ من خوفٍ، وفقرٍ، وموتٍ، واحتياجٍ، ومخالفة الأَوْلَى أحيانًا، وغير ذلك من أمورٍ أشرنا إليها، ولكن يزول العجب عندما ننظر إلى جموع البشر فنجد أنَّ الملايين منهم قد فُتِنَت بعيسى u، وبعظمته، وروعته، وبالمعجزات الباهرات التي منحها الله له، فعبدوه من دون الله تعالى! فعلوا هذا مع أنَّ أوَّل كلمةٍ قالها عيسى في هذه الدنيا هي اعترافه بالعبوديَّة لله العظيم. قال تعالى واصفًا هذا الموقف العقائدي المهم: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ` قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: 29، 30].
احترازًا من هذا الانحراف العقدي الخطر كانت هذه الإشارات الكثيرة لبشريَّة الرسول ﷺ، وكان ضروريًّا أن يؤكِّد الله على نفي صفات الألوهيَّة عن نبيِّه الكريم ﷺ.
الرسول ﷺ نفسه حرص -أيضًا- على هذا النهج، وسلك أكثر من طريقٍ ليمنع الناس من الفتنة به، ويدفعهم بذلك إلى التوحيد الخالص لله تعالى.
أيضًا تبرز -لوجود هذا الكمِّ الكبير من التوضيح لجوانب الضعف البشري عند الرسول ﷺ- أهميَّةٌ كبرى أخرى غير منع الفتنة به؛ وهي أهميَّة إثبات أنَّ الرسول ﷺ لم يكتب القرآن بنفسه، إنَّما تلقَّاه وحيًا من عند الله تعالى؛ إذ لا يُعْقَل أن يكتب كتابًا يريد أن يدعم به نفسه ثم يأتي فيه بكلِّ هذه الأمور التي قد يعتبرها البعض نقائص، بل كان سيكتفي بمدح نفسه ورفعها فوق بقيَّة النفوس، بل كان سيقبل بتسرُّب المغالاة فيه للوصول إلى قناعة التابعين بأحقيَّته في الاتِّباع والتقليد والسمع والطاعة. إنَّ وجود هذه الأمور التي أشرنا إليها -خاصًّة ما كان متعلِّقًا بالمخالفات للأَوْلَى التي عاتبَ اللهُ فيها رسوله ﷺ- لَمِنْ أبلغ الأدلَّة على أنَّ الوحي والقرآن من عند الله تعالى وليس من عند محمد ﷺ[5].
[1] مسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول الله U: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم: 13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177)، والترمذي (3207)، واللفظ له.
[2] أي بالآيات الخمس التي نزلت عليه من صدر سورة العلق.
[3] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، (160).
[4] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة المدثر (4638)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (161).
[5] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص19- 34.
التعليقات
إرسال تعليقك