روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ. فَقَالَ: «أَذِّنِ فِي النَّاسَ بِالْحَجِّ».
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
في قصة معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل دومة الجندل تتجلى عظمة أخلاق الرسول وأسمى درجات السلام والتعايش، فما قصة تلك المعاهدة؟
تقع (دُومة الجندل) على طريق الشام قريبًا من تبوك، وبينها وبين المدينة قريب من (450كم)، وقد اتَّصل منذ سنوات عداؤها للمسلمين، واشتركت في الجموع المتألِّبة على دولة الإسلام، ولعلَّ وراء ذلك العداء بعض الدوافع؛ منها تبعيَّتها للدولة البيزنطيَّة ولاءً وديانةً؛ فقد كان عامَّة أهل تلك المنطقة يدينون بالنصرانية، ومنها كذلك انتماء أهل دومة الجندل إلى بطون قحطانية؛ وهذا ما يُساعد على اندفاعهم عرقيًّا لعداء المسلمين الذين يتَّبعون نبيًّا عدنانيًّا صلى الله عليه وسلم، (وخاصة مع تأصُّل اعتبارات التعصُّب القَبَلي في ذلك الوقت).
وعلى كلٍّ؛ فقد اهتمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلِّ ما في صدور أهل دومة الجندل من ضغائن، واهتمَّ بإقرار السلام بينه وبينهم منذ وقت مبكِّر، فأرسل صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن بن عوف [1] رضي الله عنه في العام السادس من الهجرة على رأس سريَّة إلى دُومة الجندل؛ ليدعو فرع «بني كلب» إلى الإسلام، وهي السريَّة التي انتهت بإسلام ملكهم الأصبغ بن عمرو الكلبي مع خَلْقٍ كثير من قومه، وبقاء طائفة منهم على النصرانيَّة مع الرضا بالجزية، كما تزوَّج ابن عوف رضي الله عنه تماضر بنت الأصبغ عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم [2].
وهنا يبدو لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على إحلال السلام والوئام مع هذه القبيلة وغيرها من قبائل العرب، فهو يُرسل إليهم مَنْ يدعوهم، لا مَنْ يسفك دماءهم، وعندما أسلم ملكهم، عمِل على تقوية أواصر الصداقة بينه وبين المسلمين من خلال نصيحته صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بأن يتزوَّج ابنة سيِّد القوم؛ ليعلم الرجل أن إسلامه لم يزده إلاَّ عزًّا، بمصاهرته لقائد الجيش الذي هو من المقرَّبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المُبَشَّرين بالجنَّة، وهذه الطريقة تفتح الباب أمام كل الزعامات النصرانية للتفكير في الإسلام، أو على الأقلِّ في مسالمة المسلمين؛ لكن مع هذا التقدير من المسلمين لنصارى المنطقة الشمالية، والتي تضمُّ دومة الجندل، وقعت مخالفات خطيرة من هؤلاء النصارى؛ منها ما يلي:
1- أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة مع الحارث بن عمير الأزدي إلى هرقل إمبراطور الروم، وقيل: إلى صاحب بُصرَى، ولكن عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني؛ فأوثقه رباطًا، ثم قدَّمه فضرب عنقه[3].
2- في أعقاب مقتل الحارث بن عمير الأزدي جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش مؤتة الشهير من ثلاثة آلاف مقاتل، وسمع العدوُّ بخروج جيش المسلمين؛ فتجمَّعت الجموع الهائلة: مائة ألف من الروم، ومائة ألف من نصارى العرب الذين تجمَّعُوا من بطون كثيرة من قبائل: بهراء ولخم وجذام وبلي[4].. وغيرها، وكلها فروع قحطانية تنتمي لقضاعة وغيرها، وتتشاطر النسب وبنوَّة العمِّ مع فروع أخرى تسكن دومة الجندل، مثل السَّكونيين من بني كِنْدة.
3- تحالف هذه القبائل مع الروم الذين تجمَّعوا في العام التاسع من الهجرة للهجوم على المدينة المنورة؛ هذا ما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج لهم في تبوك، وعلى الرغم من قلَّة عدد المسلمين بالمقارنة بأعداد الرومان الهائلة؛ فإن الله عز وجل ألقى الرعب في قلوب الرومان، فتراجعوا إلى الشمال تاركين وراءهم مناطق نفوذهم وحلفاءهم العرب (وفيهم من أهل دومة الجندل) الذين ملأت هيبةُ المسلمين قلوبهم.
لذا لن نتعجَّب عندما نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُضَيِّع فرصة تواجده في تبوك في هذا الوقت؛ فبعث سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى ملك دومة الجندل أُكَيْدِر بن عبد الملك السَّكونيّ وكان نصرانيًّا، وأَمَر خالدًا وجنوده قائلاً: «إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى أَخْذِهِ فَخُذُوهُ وَلا تَقْتُلُوهُ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِهِ فَاقْتُلُوهُ». وطمأن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدًا رضي الله عنه ببشارة نبويَّة أنه سيأخذه وهو: «يَصِيدُ الْبَقَرَ» [5]. فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وأسره خالد رضي الله عنه، فلما أُتِيَ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سجد أُكَيْدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده: «لا، لا». مرَّتين [6]، وصالحه على الجزية، وحقن دمه، وخلَّى سبيله بعد أن كتب له كتابًا. وليس عندنا نصٌّ صحيح يُورِد ما جاء في هذا الكتاب، وإن كان قد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صالحه على الجزية مما يُثبت أنه لم يُسلم، وهذا الأمر وإن كان يختلف عليه بعض المؤرخين، فإنَّ عامة أهل السير والمغازي والمحققين يذكرون أن أُكيدر لم يُسلم ألبتة [7].
غير أن اللافت للنظر -بكل يقين- هو ذلك الكرم البالغ الذي تعامل به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أكيدر عندما وقع في يده أسيرًا بعد تاريخ طويل من العداء والتحريض كما رأينا، فلم يُذِلّ صلى الله عليه وسلم كرامتَه، ولم يَرْضَ منه السجود بين يديه، بل حقن دمه، واحترم زعامته، وصالحه صلحًا يحترم فيه المسلمون مصلحة أكيدر وقومه احترامًا بالغًا.
إن قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح بعدما أَسَر أُكيدر يدلُّ دلالة قاطعة على حُبِّه صلى الله عليه وسلم للسلام؛ فالرجل في يده ويستطيع قتله، أو التنكيل به، أو إبقاءه أسيرًا واسترقاقه، وجعله مُثلَةً لقومه ولملوك العرب كافَّة، كما كان يفعل الفُرْس والروم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يُريد أن تحيا الجزيرة العربية والعالم أجمع في ظلِّ السلام والوئام بعيدًا عن الحروب؛ لذا فقد قَبِلَ بإجراء الصلح مع ملكٍ مهزوم أسير. وقد أثَّر هذا كثيرًا في نفس أكيدر، وتعدَّدت الروايات الصحيحة التي تذكر صورًا من تودُّد أكيدر إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم [8]، وروى مسلم في صحيحه عن عليٍّ رضي الله عنه أن أُكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليًّا، فقال: «شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ» [9].
وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم -كعادته- على ذلك العهد، ولم يسمح بارتكاب ما ينقضه؛ فلم تُهاجم سريةٌ من المسلمين هذه البلاد مرَّةً أخرى؛ بل إن هذه البلاد أصبحت مرتكَزًا لانطلاق الجيوش الإسلامية المتجهة لغزو الروم في عهد الصِّدِّيق أبي بكرٍ رضي الله عنه.
المصدر: كتاب عندما عاهد الرسول، للدكتور راغب السرجاني.
([1]) عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، صحابي، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، مات سنة 31هـ، وقيل: سنة 32هـ، ودُفن بالبقيع. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 3/495-505، وابن حجر: الإصابة 4/346-349.
([2]) ابن هشام: السيرة النبوية 2/631، 632، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/89، وابن كثير: السيرة النبوية 3/340.
([3]) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/128، 4/343، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/196، وابن القيم: زاد المعاد 3/336، وابن حجر: فتح الباري، 7/511.
([4]) ابن هشام: السيرة النبوية 2/375، وابن كثير: السيرة النبوية 3/458.
([5]) رواه النسائي في السنن الكبرى: كتاب السير، باب عدد السرية (8836)، والبيهقي: السنن الكبرى، (18422)، وابن عساكر: تاريخ دمشق، 9/203.
([6]) المتقي الهندي: كنز العمال بحاشية المسند 4/189.
([7]) انظر قول ابن حجر: الإصابة 1/378.
([8]) البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب قبول الهدية من المشركين (2473)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ t (2469).
([9]) مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب (2071)، واللفظ له، وابن ماجه (3596)، والطبراني في المعجم الكبير (887)، وابن أبي شيبة في مصنفه (24647). وأما الفواطم، فقال الهروي والأزهري والجمهور: إنهن ثلاث: فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وفاطمة بنت أسد -وهي أم علي بن أبي طالب t، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي- وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. انظر: النووي: المنهاج 7/152.
التعليقات
إرسال تعليقك