الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
قواعد مهمة في كتابة وعرض التاريخ، مقال يوجه الباحثين في التاريخ إلى أهم الإرشادات في كتابة التاريخ الإسلامي.
أهم مقتطفات المقال
لا يجوز أن نأتي إلى مجتمع من المجتمعات أو عصر من العصور، فنحكم على أخلاق أهله من خلال شِعر اثنين أو ثلاثة، أو حتى مئة من الشعراء الماجنين، فنقول: إن هذا العصر عصر مجون وتهتك وخلاعة
التاريخ الإسلامي يحتاج إلى كتابة جديدة، وذلك بأخذه من ينابيعه الصافية لاسيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخربة من ملفقي الأخبار، علمًا أن أمتنا الإسلامية هي أغنى الأمم بمادة تاريخها الذي حفظته بـالأسانيد الثابتة.
ولقد تدارك سلفنا الصالح من المؤرخين الأخبار قبل ضياعها، فجمعوا كل ما وصلت إليه أيديهم من غث وسمين، مُنبهين على مصادر الأخبار وأسماء رُواتها، ليكون القارئُ على بينةٍ من صحيحها وسقيمها.
والآن يأتي دورنا نحن الخلف؛ كي نسير على خطى سلفنا الصالح، ونصفي هذه الكتب، ونميز السقيم من الصحيح، والغث من السمين، فنكون بذلك خير خلف لخير سلفٍ، وحتى يعلم الجميع أن صحائف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهرًا.
وبما أن دراسة التاريخ في حس المسلم مرتبطة بعقيدته، والتاريخ أداة من أدواته في الدعوة إلى الله، وتحقيق عبودتيه بإقامة منهجه، وتحكيم شريعته؛ فإنه يتوجب عليه ملاحظة بعض القواعد في أسلوب الكتابة وطريقة العرض، ومنها:
1 - جعل العقيدة الإسلامية المحور الأساسي في عرضه:
فإن البشرية على طول تاريخها كلما فاءت إلى هذه العقيدة، وتمسكت بها حصل لها السعادة والتمكين في الأرض، وكلما بعدت عنها أصيبت بالأمراض والاجتماعية والخلقية، وفشا فيها الظلم والجور، وسلط عليها الأعداء.
2 - المحافظة على الوقائع التاريخية الصحيحة:
التركيز في التصورات الإسلامية الصحيحة أثناء العرض الموضوعي للحادثة التاريخية، يتم مع ملاحظة المحافظة على الوقائع التاريخية، وعدم الإخلال بها وعرضها كما جاءت في مصادرها الصحيحة.
3 - اعتماد اللفظ دون المعنى:
وذلك بأن ينقل الكلام بنصه دون أن يتصرف فيه بتقديم أو تأخير أو تدوين المعنى، ومن هنا انتقد العلماء ابن حبان حيث تصرف في ألفاظ الجرح والتعديل المروية عن العلماء في نقد الرواة وعبر عنها من عند نفسه.
4 - التركيز في الأهداف والغايات:
عند دراسة الباحث لحقبة معينة من الزمن أو حادثة من الحوادث، فإنه لا ينظر إلى هذه الدراسة إلا كوسيلة من الوسائل للوصول إلى الغاية العليا، فلا ينفق كل جهده في الوسيلة، ويترك الغاية، ولذلك ينبغي أن لا تشغلنا الدقائق التفصيلية في حوادث التاريخ عن العبرة من الحدث والرؤية الشاملة له، وعن الاعتبار الذي يترك في النفس أثرًا، وإنفاق الوقت والجهد في البحث عن أمور لا طائل تحتها ولا تعود على البحث بفائدة، وليست من هدف المسلم، ولا غايته في الحياة، إلا أن يكون البحث في التفصيلات متعلق به مقصد شرعي أو تاريخي أثري، فلا بأس حينئذ من البحث ومحاولة إثباته.
ومن صور الخلاف الذي لا فائدة منه: اسم الرجل في قصة أصحاب القرية (سورة يس) ولونه وطوله وبلده واسم أبيه، وكذلك مؤمن آل فرعون، وعدد أهل الكهف ولون كلبهم، فالناس عادة يتعلقون بالأمور الجانبية التي لا فائدة ترجى من وراء معرفتها، ويختلفون في ذلك، ثم يخوضون بالجدل فيه بغير علم ويتركون المقاصد، والأمور المهمة، وهي أخذ العبرة من وراء سياق القصة.
5 - أن يكون العرض موحيًا بتحبيب الخير وتبغيض الشر:
فالمؤرخ الإسلامي صاحب رسالة وحامل مشعل هداية للبشرية وميزانه في معرفة الخير والشر ليس عُرف الناس، ولا ما تواطأ عليه أهل زمن، أو قررته هيئة من الهيئات أو زعيم من الزعماء، إنما ميزانه هو شرع الله، ولذلك فالمؤرخ في دراسته يجب عليه أن يفحص ويُدقق وينقد المصادر والمراجع، ويتثبت غاية التثبت، وأن يعرض الأحداث بأمانة وصدق، ثم عليه أن لا يظهر الباطل بمظهر الحق، ولا يظُهر الشر بمظهر الخير إنما يُسمى الأشياء باسمها؛ فالحق حق مهما كان فاعله، والباطل باطل مهما كان قائله، والميزان هو شرع الله، وهذا من أعظم غايات دراسة التاريخ وثمراته.
6 - إبراز دور الأنبياء:
على المؤرخ أن يبرز دور الأنبياء، وأثرهم في تاريخ البشرية، وكيف جاءوا بعقيدة واحدة، هي: إفراد الله بالعبادة والاستسلام له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله، وتوضيح أن الإسلام هو دين الأولين والآخرين: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85].
ويُبين أن التاريخ البشري كله يمثل صراعًا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، ودور الأنبياء وأتباعهم يمثل في تاريخ البشرية كلها خطًا مستقلًا، ومرتبطًا بعضه مع بعض من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وتقف بإزائه الجاهليات على تعدد أنواعها واختلاف عصورها، فالجاهليات تُشكل أمة واحدة وحزبًا واحدًا في مقابل أمة الإسلام، ودعوة الحق، وحزب الرحمن، وأتباع الرسل والأنبياء، وما من فترة سيطرت فيها الجاهليات إلا وأصيبت البشرية بالشقاء والتعاسة وسادها الظلم، ولا أظلم من الشرك بالله.
7 - تحري استعمال المصطلحات الإسلامية:
على المؤرخ الإسلامي -أيضًا- تحري استعمال المصطلحات الإسلامية، وتجنب المصطلحات الدخيلة، مثل: الوحدة العالمية، والإخاء الإنساني، والتعاون الدولي، والسلام العالمي، وزمالة الأديان، والحرية، والمساواة، والتقارب بين المؤمنين بالله في مواجهة الإلحاد والشيوعية... إلخ.
وأن نعلم أنه لا التقاء بين الحق والباطل، ولا بين الهدى والضلال؛ فالديمقراطية والاشتراكية، والثيوقراطية، والدكتاتورية والإمبراطورية واليمين واليسار والمحافظين والليبرالي والإمبريالي والأحرار والأرستقراطية .. كلها مصطلحات أوربية ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية، ولا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك، وأن كل كلمة لها معنى ورصيد عند أهلها، ولابد من ضبط اللفظ والمعنى بما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح الترويج لها في بلاد المسلمين ولا حتى إضافة الإسلام إليها كالديمقراطية الإسلامية، فهذا مما يروج للفظ الديمقراطي (بمضمونه عند أهله) ويحببها للنفوس مع ما تحمله من خراب ودمار.
8 - الابتعاد عن أسلوب التعميم قبل حصول الاستقراء:
من جملة هذه القواعد المهمة التي تُراعى: الابتعاد عن أسلوب التعميم قبل حصول الاستقراء، فمثلًا لا يصح أن نقول: إن أهل المدينة كلهم تخاذلوا عن نصرة عثمان بن عفان رضي الله عنه أو رغبوا في قتله، كما لا يجوز أن نأتي إلى مجتمع من المجتمعات أو عصر من العصور، فنحكم على أخلاق أهله من خلال شِعر اثنين أو ثلاثة، أو حتى مئة من الشعراء الماجنين، فنقول: إن هذا العصر عصر مجون وتهتك وخلاعة، أو أن نَصِف أُسرة كأسرة بني أمية بأنها كلها ظالمة، أو نقول: إن فرقة المرجئة أو المعتزلة كلهم زنادقة ومنافقون؛ لأن كل طائفة لا تخلو من بعض الخيِّرين أو العوام، أو المجتهدين المتأولين، غير أن الحكم يكون للغالب.
9 - النظرة الشاملة:
إن النظرة الجزئية لأحداث التاريخ تنتج مواقف إزاء تلك الأحداث لا تتفق مع الواقع تمامًا، وتكون ظالمة لأشخاص ووقائع؛ فمن نظر إلى الدولة العباسية من منظور قسوة النشأة وتتبع الخصوم، سيحكم عليها حكمًا جائرًا.
ومن نظر إلى الدولة العثمانية في ضوء الوقائع العسكرية فقط، فسيحكم عليها حكمًا غير دقيق، وهي أنها دولة أفلحت في الجوانب العسكرية فقط، وأخفقت في سائر الجوانب الأخرى.
ومن نظر إلى دول الشيعة في ضوء منجزاتها دون النظر إلى عقيدة القائمين عليها (زيدية أو إمامية أو إسماعيلية باطنية)، فسيخطئ في الحكم عليها، وسيرى أنها دول لها فضل وأثر في بابي الحضارة والثقافة، وسيعمى عن خطورة تلك الدول في جوانب أخرى... وهكذا.
هذه أهم القواعد المهمة في كتابة وعرض التاريخ، وهناك قواعد أخرى نتكلم عنها في مقال تابع بإذن الله على هذا الرابط قواعد مهمة في كتابة وعرض التاريخ 2/2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
كتاب "مهارات الكتابة والتأليف" أحمد المنزلاوي.
واقرأ أيضًا:
القرآن والسنة أهم المصادر التاريخية
لمن نقرأ التاريخ؟
لماذا تاريخ الطبري؟
كيف تتعامل مع المصادر التاريخية المخالفة؟
التعليقات
إرسال تعليقك