الصراع بين بني الأحمر وبني مرين، مقال د. راغب السرجاني، يتناول خيانة ابن الأحمر (الفقيه) وتحالفه مع ألفونسو ضد يعقوب المريني ومن بعده ابنه يوسف بن يعقوب
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
لم يكن يوم الفتح هو هذا اليوم الذي دخل فيها المسلمون مكة فقط أو اليوم الذي أسلم فيه أهلها، وإنما كان اليوم الذي غلب فيه الإسلام على كل ما في مكة
الرسول يأمر بتكسير الأصنام
دخل رسول الله r مكة فاتحًا عزيزًا منتصرًا، ودخل مكة في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. وكما ذكرنا لم يلقَ مقاومة تُذكر في مكة المكرمة، إلا عند منطقة واحدة، واستطاعت فرقة خالد بن الوليد t أن تقضي على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول r دخل بموكبه المهيب إلى صحن الكعبة، اخترق مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة r، وأول شيء فعله r أنه بدأ في تكسير الأصنام. وكانت الأصنام كثيرة حول الكعبة، فقد كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وكانت موزَّعة حول الكعبة وفوقها وداخلها، غير هُبَل أعظم آلهتهم.
وهذا الأمر لا بد أن يلفت أنظارنا؛ فبعد صبر إحدى وعشرين سنة كاملة، الرسول r الآن يكسِّر الأصنام، وكان r يطوف بالكعبة ثلاث عشرة سنة متتالية في فترة مكة المكرمة، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وكان يطوف منذ عام واحد فقط في عمرة القضاء، ولم يفكر في كسر صنم من هذه الأصنام، وهذه المفارقة، وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة؛ فقد صبر الرسول r إحدى وعشرين سنة، والآن لا يصبر لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة، ولكنه بدأ قبل أن يفعل أي شيء بكسر الأصنام.
فقه الواقع عند الرسول في كسره للأصنام
عند دراسة سيرة الرسول r لا بد أن نهتم اهتمامًا خاصًّا بالأعمال التي يقوم بها r، فإنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود منه r، فهو أمر إلهي، ومتابعة بالوحي، وفيه رعاية كاملة من الله U، وفيه تشريع من الله للمسلمين. الآن الرسول r لا يصبر دقائق على وجود صنم يُعبد من دون الله U، هذا ما نسمِّيه بـ (فقه الموازنات)، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول r كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد! ولاستُؤْصِل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة، أما الآن بعد أن أصبح r حاكمًا لمكة المكرمة، بل لأجزاء كبيرة من الجزيرة العربية، وبهذه القوة؛ لذا فهو لا يصبر على وجود هذا المنكر الشنيع، وأن يعبد صنم من دون الله U، فكسر كل الأصنام وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
وكان تكسير الأصنام خطوة سياسية في منتهى الروعة، فهذه الخطوة كسرت تمامًا كل معنويات مكة، فكل صنم يقع على الأرض يكسر من معنويات أهل مكة؛ لأن هذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله، لا أقول عشرات السنين، بل مئات السنين؛ ففي داخل مكة المكرمة أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، والجميع يعتقد في داخله أنها ستصيبه r بضرر أو بسوء؛ لأنه كسرها، ومع ذلك لم يحدث له شيء، والجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، وظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين أنهم كانوا في ضلال مبين في كل هذه السنوات السابقة.
وكانت خطوة كسر الأصنام مهمَّة للغاية؛ لأن القرشيين الكفار بعد هذا التكسير للأصنام خارت قواهم، وفقدوا كل أمل في المقاومة، ولم يكتفِ الرسول r بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص r على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة. ونحن نعلم أن أهل مكة كانوا يعبدون كثيرًا من الأصنام، منها ما هو داخل مكة، ومنها ما هو في خارج مكة، فأرسل r سرية بقيادة خالد بن الوليد t لكسر العُزَّى، وكان صنم العزى من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله U، وأرسل سرية بقيادة سعد بن زيد t لكسر صنم مَنَاة، وكان من أشهر أصنام العرب أيضًا، وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سُوَاع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب، وكسر الرسول r بنفسه صنم هُبَل في صحن الكعبة، ولم يبقَ إلا صنم مشهور من أصنام العرب، وهو صنم اللاّت، وكان موجودًا في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يُكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة.
فالرسول r كسر كل الأصنام حول مكة، وبذلك كسر كل معنويات قريش، وحطَّم كل أمل عندهم للمقاومة، وكانت هذه أول خطوة قام بها الرسول r في مكة.
حكمة الرسول من تأذين بلال فوق الكعبة
واتخذ الرسول r خطوة مهمَّة في طريق تربية قريش على تعاليم الإسلام العظيمة، وحتى يفقهوا الإسلام على حقيقته، وهو أن الله U يُعِزُّ من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه ولونه وقبيلته، بل إن الذي لم ينتمِ إليه ذليل. ورآه المشركون من أهل قريش بأعينهم، فقد نادى رسول الله r على بلال t ليؤذِّن للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها بلال هذا الأمر؛ فقد أَذَّن في عمرة القضاء، والآن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال t فوق أشرف بقعة في الأرض؛ ليرفع الأذان لله U، وكلنا نتذكر ذكريات بلال في مكة، وهو يقول: أحد أحد.
في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذِّبه، أما الآن فهو يعلو بها في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يسمع إليه t.
وكان أذان بلال t من فوق الكعبة له تأثير شديد في نفوس المشركين، ودليل ذلك ما حدث من أبي سفيان بن حرب، وعَتَّاب بن أَسِيدٍ، والحارث بن هشام، وكان الثلاثة في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، وكان أبو سفيان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول r، ولكن عتاب بن أسيد كان من الشباب في قريش، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وهو ما زال مشركًا، والحارث بن هشام أيضًا ما زال مشركًا -والحارث بن هشام أخو أبي جهل- فهم من كبار الزعماء في مكة، فقال عتاب بن أسيد -وهو يعلِّق على أذان بلال t فوق الكعبة-: لقد أكرم الله أسيدًا ألاّ يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنًا؟!
فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلمُ أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحَصَى.
فقد أدرك أبو سفيان أن محمدًا r نبيٌّ، وأنه إذا تكلم سيعرف ذلك الوحي. وجاءهم الرسول r بعد هذه الكلمات، وقال: "قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ". ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنك رسول الله، ما اطَّلع على هذا أحد فنقول أخبرك[1].
وأسلموا في هذا الموقف العظيم، وعندما رأى بعض بني سعيد بن العاص بلالاً يؤذن على الكعبة، قالوا: لقد أكرم الله سعيدًا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى هذا العبد أين صعد؟ فردَّ عليه الحارث بن هشام وقال: دعه؛ فإن يكن الله يكرهه فسيغيِّره[2].
ونعتقد أن هذا الكلام قاله الحارث بن هشام بعد أن أسلم t، وكان هذا في بداية إسلامه.
أبو محذورة يعلن إسلامه
وسار بعض شباب قريش يستهزئ ويقلِّد صوت بلال غيظًا، حتى قلده أحد الشباب، وكان اسمه أبي محذورة الجمحي، وكان عمره ست عشرة سنة، ولكن صوته كان جميلاً، وكان من أحسن قريش صوتًا، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئًا سمعه الرسول r، فاكتشف طاقةً موجودة داخل مكة، فناداه، فمَثَلَ الرجل بين يديه r وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح r على صدر هذا الشاب وناصيته بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة: فامتلأ قلبي -والله- إيمانًا ويقينًا، وعلمت أنه رسول الله[3].
والرسول r بعد أن آمن هذا الشاب علَّمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيل الرسول r إلى المدينة المنورة، وظل الأذان في أبي محذورة وعَقِبِه بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان. فقد وضَّح الرسول r بهذا الأذان لقريش أن الله U يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، وفهم القرشيون ذلك في هذا الموقف العظيم.
حكمة الرسول في إحكام التخطيط لفتح مكة
تم فتح مكة بحرب عسكرية، وحرب سياسية، وحرب معنوية، وأتقن الرسول r كل هذه الحروب بمنتهى الدقة؛ حرب عسكرية أُعِدَّ لها الجيش إعدادًا قويًّا، وقد وضع الرسول r خُطَّة محكمة تخفي تحركات الجيش قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم بوصوله إلا على بُعد اثنين وعشرين كيلو مترًا من مكة المكرمة، وأدار حربًا سياسية بارعة عندما حيَّد أبا سفيان زعيم مكة، بل استخدمه لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل أشكالها، ابتداءً من إظهار عدد الجيش الإسلامي، وإشعال النيران، وجَعْل أبي سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة، والقبائل المتعددة، وكسر الأصنام، وأذان بلال فوق الكعبة، وكل هذا تحطيم لمعنويات القرشيين؛ لتخمد عندهم روح المقاومة الحقيقية.
إنه إعدادٌ باهر ومتقن وحكيم، يبرز لنا كيف كان الرسول r يجمع بين القيادة والنبوة r.
الرسول يضرب المثل في الوفاء
لم يكتفِ الرسول r بهذا الإعداد القوي ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قَلَّما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بصفة عامَّة، وهي وسيلة امتلاك قلوب الشعب الذي فُتِح الآن على يدي الرسول r، والرسول r يعلم ما بداخلهم من الحقد والحسد؛ لذلك أراد r أن يؤلِّف قلوبهم. ورأينا أن الرسول r ألَّف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة داخل قريش، وقد ألَّف الرسول r قلب أحد أكبر القبائل القرشية داخل مكة المكرمة، ثم يؤلِّف الرسول r قلب قبيلة أخرى كبيرة في قريش؛ فعندما دخل الرسول r الكعبة المكرمة وصلى فيها ثم خرج، نادى على عثمان بن طلحة t الذي أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة أشهر مع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في يوم واحد.
وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية، وفيها شرف كبير، وهي حاملة مفتاح الكعبة لسنوات طويلة قبل ذلك. والرسول r في ذلك الوقت نادى على عثمان بن طلحة، وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، والجميع ظنَّ أن الرسول r سيأخذ منه مفتاح الكعبة؛ ليعطيه أحدَ أقاربه من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب t طلب ذلك صراحةً، وأن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم، فعندهم السقاية والحجابة، فيكون عندهم أيضًا مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرفًا لهم.
ولكن الرسول r أخذ المفتاح، ووضعه في يد عثمان بن طلحة t. ونرى في هذا الموقف مدى العظمة والحكمة، فقد دار بينه r وبين عثمان بن طلحة حوارٌ قبل الهجرة، وطلب فيه الرسول r من عثمان بن طلحة أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، ولكن عثمان بن طلحة رفض في ذلك الوقت، فقال الرسول r: "يَا عُثْمَانُ، لَعَلَّكَ تَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ". فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذٍ وذَلَّت. فقال: "بَلْ عَمَرَتْ وَعَزَّتْ يَوْمَئِذٍ"[4].
ومرت الأيام وجاء r فاتحًا مكة المكرمة، وطلب المفتاح من عثمان بن طلحة، ودون تردد أتى عثمان بالمفتاح، وهو الآن قد أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح، ووضعه في يد الرسول r، وهو يظن أن الرسول r سيعطي المفتاح إنسانًا غيره، ولكن الرسول r وضع المفتاح مرةً ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: "هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ، خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلاَّ ظَالِمٌ"[5].
وظل مفتاح الكعبة في بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار. وهذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع الرسول r أن يكسب به قلوب بني عبد الدار جميعًا، وشعرت بنو عبد الدار أن الرسول r يُنزِل الناس منازلهم، وسيبقى لهم الفخرُ الذي كان لهم؛ وبذلك استطاع r أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة، وقبل ذلك استطاع أن يكسب قلوب بني أمية، والآن هو يكسب قلوب بني عبد الدار.
العفو عن أهل مكة !
لقد فعل r أمرًا من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول، وقف الرسول الله r في صحن الكعبة، ونادى على شعب مكة جميعًا أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعًا وهم في حرجٍ شديد بعد صراعهم الطويل مع الإسلام والمسلمين، وإيذاء للرسول r، ومصادرة للأموال والديار، وقَتْل بعض الأصحاب، وجلد وتعذيب وغيرها، تاريخ طويل من العناء من أهل مكة، وسألهم الرسول r سؤالاً واحدًا: "مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟".
ما تنتظرون مني بعد الذي فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذاء في هذه السنوات المتتالية؟ وكان الطبيعي أن يُؤخذ كل أهل مكة أسرى وسبايا وغنائم، فهذا فتح عسكري، ودخل الرسول r مكة المكرمة بالقوة، وأحاطها بعشرة آلاف مقاتل، ولكن الرؤية كانت واضحة عنده r، فهو لم يدخل مكة؛ ليهلك أهلها، ولم يفتح بلدًا من البلاد سواء مكة أو غير مكة ليهلك أهلها، بل كان دائمًا حريصًا على إسلامهم، وإسلام رجل كان أحبَّ إليه من أموال الدنيا جميعًا. وعلم الرسول r أن قوة أهل مكة قد انهارت، ورأوا أصنامهم قد كُسِرت، وأصبح r يأمل في إسلامهم، فهم على مقربة من الإسلام، ولم يبقَ إلا أن ينطقوا بالشهادة؛ لذلك قال لهم r وهو يتلطف بهم، ويشعرون ذلك في نبرات صوته: "مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟".
فقالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخ كريم.
فقريش الآن في أزمة شديدة، والرسول r لم يرد عليهم، أنتم تعلمون ذلك منذ زمن بعيد، وتعلمون أني أشرف العرب نسبًا، وأشرف قريش نسبًا، والصادق الأمين، وكل ذلك أنكرتموه بعد أن نزلت عليَّ الرسالة، ولم يذكرهم الرسول r بكل ذلك، ولم يعنِّفهم، بل قال في سماحةٍ ورحمة: "فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِه: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"[6].
فأطلقهم جميعًا مَنًّا بغير فداء، مع أنه كان من الممكن أن يأخذهم أسرى، والدولة الإسلامية في مرحلة النشأة، وتحتاج إلى أموال، ومع ذلك أطلقهم لأن إسلامهم أحبُّ إليه من أموال الدنيا كلها.
إسلام أهل مكة
بعد هذا الإطلاق العظيم اجتمع شعب مكة مع الرسول r عند الصفا، وأخذوا يبايعونه جميعًا إلا أقل القليل على الإسلام، وهذا هو منتهى أحلام الرسول r: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
والرسول r كان يحزن حزنًا شديدًا على فَقْد رجل واحد لا يسلم، وتخيل مدى فرحته وسعادته عندما أسلم شعب مكة جميعًا في يوم واحد. هذا نصر مهيب، وهذا فتح من الله U كما سمَّاه الله في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصر: 1].
ولكي ندرك فرحة النبي r، نرجع بأذهاننا سنوات يوم أن وقف r في المكان نفسه على الصفا يدعو الناس إلى الإسلام، ويدعو أهل مكة إلى الإسلام، فلم يجبه منهم أحد، وقال لهم r: "وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا لَجَنَّةٌ أَبَدًا، أَوْ نَارٌ أَبَدًا"[7].
ما اقتنع أحد من أهل مكة طيلة هذه السنوات الكثيرة إلا القليل، فقد خرج r من مكة المكرمة بعد ثلاث عشرة سنة مستمرة من الدعوة بحوالي مائة وستين، أو مائة وسبعين صحابيًّا، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة يسلم شعب مكة بكامله في يوم واحد، فأيُّ نصرٍ، وأيُّ عزة، وأي سيادة للإسلام والمسلمين!!
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك