ملخص المقال

الشجاعة
الشجاعة خلق لابد أن يتوافر في عظماء الرجال، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله الذين أختارهم ربُّ العالمين لحمل رسالاته، وتبليغها للناس. فما المقصود بالشجاعة ؟
ذكر ابن منظور في لسان العرب في مادة (شَجُعَ) ما نصه:
(شَجعَ) بالضم شجاعةً اشتدَّ عند البأس والشجاعة شدة القلب في البأس..
فالمقصود بالشجاعة إذن قوة القلب عند نزول المصائب، وتوالي الخطوب، وعند مواجهة ذوي النفوذ والسلطان، وعند وجوب إظهار الحق وتبيينه للناس، والشجاعة ليست مرادفةً للقوة، فالقة أمر ينصرف إلى الجسد بديةً، أمَّا الشجاعة فمناطها القلب، لذلك قد يكون المرء ضعيف الجسد، ولكنه اكثر الناس شجاعةً، وقد يحدث العكس فيكون أقوى الناس جسدًا، ولكنه خائر القب مهزوم الفؤدا.
والإسلام حريص على وجود هذا الخلق في قلوب المؤمنين به، وترسخه في وجدانهم، وإن كان قد أقرَّ أن بعض المؤمنين قد يكونون جبناء بطبيعتهم..
كما أخرج الإمام في موطئه عن صفوان بن سليم أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا ؟ فقال: "نعم" فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً ؟ فقال: "نعم". فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا ؟ فقال: "لا"..
إلا أن الإسلام لم يُقرَّ أصحاب لهذا الخلق الذيم على ما هم فيه ب سلك سبلاً شتى لتغيير نفوسهم نحو الشجاعة، وذلك باستنكار الجبن ونفي الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الصفة عن نفسه، ومدح الشجعان، وبما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى في هذا قوله تعالى: "الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين"..
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره أن هذه الآيات نزلت فيما حدث يوم حمراء الأسد، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا المسلمين في (أحد) كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا وقالوا: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم.. بئس ما صنعتم فسمع رسول الله صلى الله عليه سلم بذلك، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسدن فقال المشركون: نرجع من قابل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تُعَدُّ غزوةً..
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم لما انتدبهم للخروج منه من م يحضروا الغزوة (أحد) فرج الجميع مصابين بجروح عديدة، فكان ذلك اختبارًا لشجاعتهم أثبتوا فيه نجاحًا وتفوقًا، فحقَّ لهم أن يمدحهم الله تعالى في كتابه الكريم..
وقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة الحقِّ عند السلطان الجائر من أفضل الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" أو "أمير جائر".. أخرجه ابو داود عن أبي سعيد الخدري وصححه الألباني..
وهذه ـ لعَمرُ الله ـ أعظم درجات الشجاعة أن تقف للظالم فتنهاه عن ظلمه، لا يخوِّفنِّك بطشه وسلطانه، لا تخشى إلاالله، ولا تفكر إلا في مرضاته..
ـ حاجة المجتمع إلى الشجاعة:
ولا يغيب عن نظر كل ذي عقل أنَّ المجتمع المسلم مفتقر إلى هذا الخلق، بل إن كل مجتمع ينشد البقاء والاستمرار فضلاً عن الحياة الكريمة مفتقر إلى الشجاعة، والشجاعة هي التي تدفع كل فرد إلى مواجهة فسه، وتصحيح أخطائه، وتوجيه النصح لكل ذي مسئولية ليتدارك الثغرات والأخطاء في عمله، والشجاعة تدفع ذا المسئولية إلى قول ذلك النصح والاعتراف بالأخطاء دون كِبر أو مداورة، والشجاعة هي التي تحفظ البلاد من أن يجتاحها عدوُّ، إن وقع العدوان ففي شجاعة أفراد المجتمع ما يدفعهم لمواجهة أعدائهم، والقتال من أجل حفظ الدين والأرض والعِرض.
والشجاعة هي التي تحفظ على الإنسان كرامته فلا يسمح لإنسان مهما كان قدره أن يمتهن كرامته، أو يستهزئ به أو يستذله، فالشجاعة هي الضمان لبناء مجتمع حُرِّ قويِّ عصيِّ على الاستذلال..
ـ مواقف من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ـ جمع الرسول صلى الله عليه وسلم نهايات مكارم الأخلاق، ومنها الشجاعة فقد بلغ الغاية فيها دون أن يصل غلى التهور، أو يتراجع إلى الإحجام، فمهما سُطرت السطور، وسوِّدت الصفحات ببطولات الصحابة رضوان الله عليهم فضلاً عن شجعان الأمم قديمها وحديثها ـ فقد أربى رسول الله على ذلك، فقدأخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه:
2751 - حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال
: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس ولقد فرغ أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول (لم تراعوا لم تراعوا). ثم قال ( وجدناه بحرا ) . أو قال ( إنه لبحر)
وهكذا سبق الرسول صلى الله عليه وسلم صناديد الصحابة إلى استجلاء الخبر، وبثِّ الطمأنينة في قلوب أهل المدينة، وهذا الحدث يضع الرسول صلى الله عليه وسلم في الصدارة بين الجرال عامة،والقادة والملوك خاصة، فأما الرجال فلأنَّ أهل الرجل يعتمدون عليه، ويطمئنون بوجوده فمتى طرأ طارئ، احتموا برجلهم فإن كان جبانًا كان شينًا وخزيًا عليه، وعلى أهله الذين يشعرون بانكشافهم وضعفهم أمام الناس..
وأما القادة، فلأنهم قديمًا وحديثًا يستعينون بمن يحميهم ويسهر على أبوابهم ونوافذهم، رم ذلك تجدهم أشدَّ النس فَرَقًا وذعرًا إن طرأهم طارئ أمَّا الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضرب المثل ليس في الشجاعة فقد بل في الشعور بالمسئولية تجاه رعيته..
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشجاعة قصص كثيرة في غير القتال، وهذا قد يكون أشد على النفس ـ أحيانًا ـ من القتال وذلك مثل أخرجه الحاكم في مستدركه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
عارم ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه و سلم محارب خصفة بنخل فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف فقال : من يمنعك مني قال : الله قال : فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : من يمنعك قال : كن خير آخذ قال : تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله قال : أعاهدك على أن لا أقاتلك و لا أكون مع قوم يقاتلونك قال : فخلى رسول الله صلى الله عليه و سلم سبيله فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس..
ـ إن الخوف والجُبن يصيبان الإنسان بالعجز عنالتفكير، ويفقدانه زمام المبادرة، ويجعلانه مشيئة من أخافه، ولكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن ذلك الرجل، إن لذي يهابه من يراه إن كان مسالمًا، ويفزع من إن كان محاربًا، بل إن يستثمر الموقف ليدعو الرجل إلى الإسلام، حتى في هذا الموقف لم ينس دعوته. إنها لرباطة جأش لا يدانيه فيها أحد.
ومن ذلك أيضًا ما ورد في المسند عن عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
عبد الله حدثني أبي قال يعقوب ثنا أبي عن بن إسحاق قال وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته قال : حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل الا كأنما على رأسه طائر واقع حتى ان أشدهم فيه وصاه قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول حتى انه ليقول انصرف يا أبا القاسم انصرف راشدا فوالله ما كنت جهولا قال فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون له أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا الذي أقول ذلك قال فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه قال وقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دونه يقول وهو يبكى { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط ..
فيالها من شجاعة.. الرسول صلى الله عليه وسلم وحده في مواجهة سادة قريش يتحمل أذاهم، ثمَّ لما استطالوا واجههم بمصيرهم الذي ينتظرهم إن لم يتوبوا إلى الله، ويدخلوا الإسلام، إنها شجاعة حقيقية أخرست شجاعتهم الزائفة التي تظاهروا بها معتمدين على كثرتهم وعُدَّتهم وقلة أهل الإيمان.
لقد حطَّم الرسول صلى الله عليه وسلم غرورهم. شجاعته، وعلمنا أن الباطل يتنفس إذا جبن أهل الحقِّ فإن تشجعوا اندحر الباطل وزال..
ـ ومن الشجاعة أن يتراجع المرء عن رأيه إن وجد غيره أفضل، وتلك فضيلة لا يتحلى بها ـ في الواقع ـ إلا القليل من الناس، بينما الغالب أن يتمادى الإنسان في رأيه، ولو كان خطأ أو لو كان صوابًا، ولكنه وجد ما هو أصوب، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من القليل الذين حازوا شجاعة التراجع عن الرأي لوجد غيره أفضل، رغم أن مقام النبوة كان من الممكن أن يدفعه إلى عدم التراجع وسيخضع الناس له، ولرأيه ولكنَّ شجاعته صلى الله عليه وسلم دفعته إلى مسالك الحقِّ، وقد روى البخاري في صحيحه عن وهدم قال:
4124 - حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام عن أيوب عن أبي قلابة عن زهدم قال لما قدم أبو موسى أكرم هذا الحي من جرم وإنا لجلوس عنده وهو يتغدى دجاجا وفي القوم رجل جالس فدعاه إلى الغذاء فقال إني رأيته يأكل شيئا فقذرته فقال هلم فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله فقال أني حلفت لا آكله فقال هلم أخبرك عن يمينك إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين فاستحملناه فأبى أن يحملنا فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا ثم لم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن أتي بنهب إبل فأمر لنا بخمس ذود فلما قبضناها قلنا تغفلنا النبي صلى
الله عليه وسلم يمينه لا نفلح بعدها أبدا فأتيته فقلت يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا ؟ قال ( أجل ولكن لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللته..
( جرم ) قبيلة من قبائل العرب . ( هلم ) اسم فعل بمعنى تعال . ( تغفلنا ) اغتنمنا غفلته . ( وتحللتها ) أي خرجت من الإثم فيها وكنت حل منها بفعل الكفارة ..
وفي المآزق، والمواقف العسيرة، حين يصبح الأمر متعلقًَا بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ بقيام دولة الإسلام أو القضاء عليها في مهدها، وحين تصبح الالتفاتة تساوي حياة أمة، في هذا الوقت تتضح شجاعة الشجعان، ومن أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
لقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي بكر رضي الله عنه قال:
4386 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا حبان حدثنا همام حدثنا ثابت حدثنا أنس قال حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال
: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين قلت يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا قال (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)...
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه شجاعًان وكان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الرسول فكانت ثقته بالله، ويقينه فيه، يدعمان شجاعته، ولو تطَّلب المر قتالاً لنهضا إليه غير وجلين، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم يستطيع الهجرة علانيةً هو وأبو بكر بأوضح مما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن اقتداء المسلمين به، وكون أفعاله صلى الله عليه وسلم سُنَّة، دفعاه إلى اتخاذ أسباب الحِيطة والكتمان، فما دام قد اتخذ هذه الاحتياطات فماذا يغير من شجاعة قلبه، أو يقينه في الله، إنه صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأمر وكأنه خرج من بيته مطمئنًا يتجذب أطراف الحديث مع صاحبه أبي بكر، دون خوف أو قلق، وهذه هي حقيقة الموقف..
وقد كان ذلك شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في الرحلة كلها، فبعد الخروج من الغار، وسيرهم في الطريق إلى المدينة، كانت قريش قد أعلنت عن مكافأة ضخمة تبلغ مائة نقة لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا او يقتله، ومائة أخرى لصحبه، ونهض لها فتيان قريش وفرسانهم، فاستمع لسُراقة بن مالك بن جعشم، وهو من فرسان بني مدلج يروي ما حدث بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه..
قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجى و هو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا و نحن جلوس فقال : يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا و أصحابه قال سراقة : فعرفت أنهم هم فقلت له : إنهم ليسوا بهم و لكنك رأيت فلانا و فلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي و هي من وراء أكمة فتحبسها علي و أخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض و خفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فا ستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي و عصيت الأزلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو لا يلتفت و أبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها فأهويت ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت الأزلام فخرج الذي أكره
فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم و وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية و أخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم و عرضت عليهم الزاد و المتاع فلم يرزآني و لم يسألاني إلا أن قالا : اخفف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم..
فاستمع إلى قوله: "حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت"..
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مستغرقًا في قراءة القرآن لا يلتفت إلى عدوه رغم تنبيه أبي بكر بوجوده، إنه قلب ثابت لا يهزُّه رَوعُ، ولا يداخله خوف، حتى أن شجعان الفرسان ليرتعدون فَرقًا من هذا الصنديد الذيلا قِبَل لهم بمواجهته، فتخيَّل كيف تكون حل (سراقة) وهو يرى الرسول صلى الله عليه وسلم غير مكترث به، ومنشغلاً مع الله سبحانه وتعالى ؟ أية رهبة ستداخله من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
ولشجاعة الرسول صلى الله عليه سلم، وعدم اهتمامه بمطارديه انشغل بدعوته خلال هجرته فها هو يلاقي (بريدة الأسلمي) عند (كراع الغميم) في ثمانين نفسًا من أهله، فيدعوهم للإسلام، ويصلي بهم صلاة العشاء ويعلمه..
أما الشجاعة العظمى التي تعلو على كل ما سبق، وعلى ما سيأتي من شجاعة في القتال، فهي شجاعته صلى الله عليه وسلم في إعلان عتاب الله سبحانه وتعالى له على بعض المواقف، فقد عتابه ربه سبحانه وتعالى في عدة مواقف منها هذا الموقف..
وأخرج الترمذي والحاكم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وبن حبان من طريق عبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت نزلت في بن أم مكتوم الأعمى فقال يا رسول الله أرشدني وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر فيقول له أترى بما أقول بأسا فيقول لا فنزلت عبس وتولى قال الترمذي حسن غريب..
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطمع في إسلام ذلك الرجل من عظماء المشركين، وقد وردت روايات مختلفة بتحديد اسمه وأنه: أبيّ بن خلف، أو عتبة وشيبة ابني ربيعة، أو مجموعة من وجوه المشركين منهم أبو جهل وعتبة، وإسلام هؤلاء النفر ـ كما لا يخفي ـ نصر كبير للإسلام، يفتح الباب على مصراعيه أما قريش والعرب للدخول في الإسلام، ولكن الله عزَّ وجلَّ يريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهتم بمن أقبل على الإسلام، وجاء مستهديًا، ولا ينشغل عنه بمن أبى واستكبر، فجاء العتاب، وقد جاء في صورة وحيٍ يُتلى إلى يوم القيامة، وإظهار النبي له شجاعة ما بعدها شجاعة.
وقد تمثل هذه الشجاعة في موقف آخر كان أشقَّ على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان متعلقًا بربيبه وابنه بالتبني (زيد بن حارثة) رضي الله عنه.
وقد أخرج بن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقا واضحا حسنا ولفظه بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ثم أنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه وكان قد تبنى زيدا وعنده من طريق على بن زيد عن على بن الحسين بن علي قال أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفى في نفسك ما الله مبديه..
فهذا موقف في شدة الحرج، إذ إنه ضدَّ عادات القوم، وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يبطل التبني وآثاره بصورة عملية، فأمر الرسول بالزواج من زينب بعد طلاقها، وتمام عدتها، والرسول ينصح زوجها ـ كلما اشتكى منها ـ أن يتقي الله ويمسكها، فعاتبه ربه، وقد قال أنس رضي الله عنه: لو كان رسول الله كاتمًا شيئًا لكتم هذه الآية..
وفي الحروب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صولات وجولات لا يباريه فيه أحد من المشركين أو المسلمين فقد رَوَى الإمام أحمد في مسنده قال:
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة ابن مضرب عن علي قال : لقد رأيتنا يوم بدر و نحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو أقربنا من العدو و كان من أشد الناس يومئذ بأسا..
و رواه النسائي من حديث أبي إسحاق عن حارثة عن علي قال : كنا إذا حمي البأس و لقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه و سلم..
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا في مقدمة الصفوف رغم ما أعدَّه له الصحابة من عريش خلف الصفوف ليجلس فيه هو والصِّدِّيق إلا أنَّ نفسه الشحاعة لم تطق صبرًا، وصليلُ السيوف يعلو، والأبطال يجندلً بعضهم بعضًا، فما إن فرغ من تضرعه لربه، وبشره الله بلنصر حتى نزل الميدان، وأذاق العدوَّ مُرَّ بأسه، فكان الصحابة يتدرَّعون به صلى الله عليه وسلم وهو ينافح العدو بالسيف والقوس فقد روى ابن إسحاق قال:
قال ابن إسحاق : و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده
ولا تخلو الحروب من مآزقأو أشراك يدبرها جيش لجيش فتطير عندها أفئدة الرجال الشجعان ولو كانوا أبطالاً أمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن مِمَّن يرتجف فؤاده أو يهز جَنَانه، بل هو دائم الثبات، مقدام على عدوه، حين يتراجع الأبطال، فيغير الله على يديه موازين المعارك، وذلك ما حدث في غزون (حنين) إذ كمَن المشركون للمسلمين بوادي (حُنين) ثمَّ فاجأوهم ففرَّ أغلب المسلمين من أثر المفاجأة، ولم يبقَ حول النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا نفرُ يُعدُّون على أصابع اليد الواحدة، ونترك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يروي ما كان يومئذٍ إذ أخرج مسلم في صحيحه عن العباس قال:
76 - ( 1775 ) وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني كثير بن عباس بن عبدالمطلب قال قال عباس
: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامى فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قبل الكفار قال عباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أي عباس ناد أصحاب السمرة ) فقال عباس ( وكان رجلا صيتا ) فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة ؟ قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يا لبيك يا لبيك قال فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا يا نبي الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذا حين حمي الوطيس ) قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال ( انهزموا ورب محمد ) قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا..
ولم يرد في سيرة قائدٍ مهما كانت شجاعته، ومهما رُوى في شأنه من بطولات ولو كان أساطير مثل هذا الموقف الذي يواجه فيه الرسول صلى الله عليه وسلم جيش العدو وحده، ويسرع السير نحوه بينما يتراجع أصحابه متأثرين بالمفاجأة.
ولا تقتصر شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على الوقوف ثابتًا في مواجهة العدو أو التقدم نحوه مقاتلاً، فقد يصنع المرء شيئًا مشابهًا لذلك بتأثير الحمية، أما أن يحتفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بثبات جنانه، وصفو عقله فهذا ما يدل على أن الشجاعة صفة ثابتة فيه، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس : (أي عباس نادِ أصحاب السمرة) وهي شجرة بيعة الرضوان، فالرسول يذكرهم ببيعتهم على الثبات في القتال التي رضى الله عنهم بسببها" لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة".. (الفتح :18)ن فهو صلى الله عليه وسلم لا تفقده الخطوب رشده، ولا حُسن تدبيره..
وقد يثور تساؤل وهو ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الشجاعة الخارقة فلماذا لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلَّم في كل غزواته إلا رجلاً واحدًا هو (أُبُّي بن خلف) في غزوة (اُحُد) ؟
والجواب عن هذا التساؤل يكمن في هذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن همَّام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عزَّ وجلَّ"..
ـ في سبيل الله اختراز ممن يقتله في حَدٍّ أو قصاص، لأن من يقتله في سبيل الله كان قاصدًا قتل النبي صلى الله عليه وسلم..
فليرحمه الله عز وجل شاء ألا يقتل الرسول كثيرًا من الناس، وكان جديرًا بهذا، لولا أنه "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"
ففاقت رحمته شجاعته، وترك الله عز وجل الباب مفتحًا أمام كثيرين للتوبة، والدخول في الإسلام، والنجاة من نارٍ كان يمكن أن يدخلوها بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنَّ من الأسباب ـ أيضًا ـ أنَّ شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوته كانتا لا تتركان الفرصة لأحدٍ لنزاله، فما كان يتجرأ منه، ويشجع نفسه،كان يحاول إصابته من بعيد بسهم أو غيره، أو يحاول انتهاز انشغال الصحابة ليباغت الرسول في جمع من المشركين خشية مواجهته وحده، كما حدث لأبي بن خلف الذي مات فزعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم يسر إصابته.
ـ شجاعة الصحابة:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرسة تعلَّم فيه أصحابه صنوف الأخلاق الحميدة، وقد بهرهم صلى الله عليه وسلم شجاعته حتى علموا أنه لابد للمسلم أن يكون شجاعًا، وقد ربَّاهم صلى الله عليه وسلم على كل صنوف الشجاعة فكانوا شجعانًا في إبداء آرائهم، ولو كانت تخالف رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في غير ما أوحى غليه فهذا عبد الله بن عمر قال:
25 - ( 2400 ) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال
: لما توفي عبدالله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلى عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة. وسأزيد على سبعين قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره. ..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا، ورحمته تتسع حتى للمنافقين لعل الله يغفرلهم، ولكن عمر يرى ذلك مخالفًا لكتاب الله فيعترض ولا يخشى في الله أحدًا، ولم يسكت على أمر يراه خطأ، ولو كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول لم يجد الآية قاطعة في عدم الاستغفار بل فهمها على التخيير، ولكن جاءت الآية "ولا تصلِّ... " لتحسم الموقف، وتمنع الصلاة على المنافقين.
وفي أحرج المواقف عندما كانت حياة بعض الصحابة مهددة ومرهونةً بأن يقولوا ما وافق عقيدة من يمتلك زمام الأمور فقد كانت لديهم الشجاعة لأن يعلنوا كلمة الحق دون تبديل ولا مواربة ولا مداهنة، وهذا ما برز في مهاجري الحبشة من المسلمين عندما أرسلت قريش عمرًا بن العاص وعبد الله بن ربيعة ليستردوا المهاجرين من النجاشي، وزودهما بالهدايا رشوةً للنجاشي وبطارقته، ولكن النجاشي أَبَى أن يردهم إلا بعد أن يستمع إليهم فلما سمعهم وعرف ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه سلم ادرك أن ذلك الكلام حقُّ، فقال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاةٍ واحدةظن ولكن دهاء عمرو بن العاص ، وحقده على المسلمين في ذلك الوقت دفعاه إلى يحرض النجاش ضدهم بأخطر سلاح يعلمه وهو عقيدة المسلمين في المسيح عليه السلام، ولنقرأ سويًا ما حدث على لسان السيدة أم سلمة:
و كان أبقى الرجلين فينا عبد الله بن ربيعة فقال عمرو بن العاص : و الله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم و لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد !
فقال له عبد الله بن ربيعة : لا تفعل فإنهم و إن كانوا خالفونا فإن لهم رحما و لهم حقا
فقال و الله لأفعلن
فلما كان الغد دخل عليه فقال : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عنه
فبعث و الله إليهم و لم ينزل بنا مثلها
فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه ؟
فقالوا : نقول و الله الذي قاله فيه و الذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه
فدخلوا عليه و عنده بطارقته فقال : ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟ فقال له جعفر : هو عبد الله و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال : ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العويد
فتناخرت بطارقته فقال : و إن تناخرتم و الله ! اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض
الشيوم : الآمنون في الأرض من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم ثلاثا ما أحب أن لي دبرا وأني آذيت رجلا منكم و الدبر بلسانهم : الذهب
و قال زياد عن ابن إسحاق : ما أحب أن لي دبرا من ذهب قال ابن هشام : و يقال : زبرا و هو الجبل بلغتهم
ثم قال النجاشي فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي و لا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها و اخرجا من بلادي
فخرجا مقبوحين مردود ا عليهما ما جاءا به..
تلك هي الشجاعة لا ريب، قوم خرجوا من أرضهم إلى بلاد ملك على دين غير دينهم، ويطلبهم قومهم، غن الموقف تزل فيه أقدام الجبناء، وترتعد فرائضهم، إلا شجعان المؤمنين، الذين آمنوا أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك..
أما في القتال فقصص الصحابة حافلة بمواقف الشجاعة التي هي مصدر إلهام للمسلمين جميعًا في كلال عصر، ولكنَّ بعض القصص يكون أبلغ في الدلالة، فشجاعة أبي دجانة وعليٍّ وطلحة وأبي طلحة وغيرهم مروفة أما هذه القصة للسيدة ام عمارة نسيبة بنت كعب المازنية في غزوة (أحد) فهي آية في شجاعة المرأة المسلمة فعن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها : يا خالة أخبريني خبرك فقالت : خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتيهت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في أصحابه و الدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقمت أباشر القتال و أذب عنه بالسيف و أرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي قالت : فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت لها : من أصابك بهذا ؟ قالت : ابن قمأة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل يقول : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير و أناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات و لكن عدو الله كانت عليه درعان..
فهذا دور المرأة المسلمة تخرج تشارك في الجهاد بإرواء العطشى، وتمريض الجرحى، فإن دَعَى داعي القتال قاتلت، هذه المرأة نموذج للنساء المسلمات، وليست ممن تنطبق عليهنَّ مواصفات دعاة حرية المرأة الآن فهي لا تريد التبرج والسفور، ولا تشغلها التفاهات، ولا تعمد إلى الاختلاط الماجن، إنها امرأة قوية تحتمل ضربات السيوف، وآلام الجروح بل وتكيل الضربات لفرسان الأعداء.
هذا هو النموذج الذي يبني بيوتًا مسلمة صالحة، ويربي أجيالاً من الأبطال كمثل هذين الذين قال فيهما الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف:
3766 - حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال قال عبد الرحمن بن عوف
: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه يا عم أرني أبا جهل فقلت يا ابن أخي وما تصنع به ؟ قال عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله قال فما سرني أني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما اليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء ( لم آمن بمكانهما ) خشيت أن ينالني العدو من جهتهما فلا يستطعان حمايتي لأنهما صغيران . ( أرني ) فعل الأمر من الإراءة . ( فما سرني ) ما كنت أرغب . ( مكانهما ) بدلهما . ( الصقرين ) مثنى صقر وهو طائر يصطاد به والتشبيه به من حيث الشهامة والإقدام لأنه إذا نشب على الصيد لم يفارقه حتى يأخذه . ( ابنا عفراء ) معاذ ومعوذ رضي الله عنهما فهما اللذان قتلاه شاركهما في هذا معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه أجهز عليه وحز رأسه (العيني) ..
إنَّ هذين الفتين ليسا مثالاً شاذًّا في عصر الصحابة، كما أنهما ليسا نموذجًا يستحيل التكرار، فهما نتاج لتربية إسلامية تقف وراء جهات متعددة، الأم الأب والمجتمع، وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته، فالأم تزرع في الأبناء حب الجهاد، وحب الله رسوله، وحُبَّ الدين، والأب يؤكد ذلك ويصطحبهم لرؤية الرسول، وملازمته، والمجتمع مشغول بطاعة الله والجهاد في سبيله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقود ذك كله، ويوجهه من خلال الوحي.
ونحن نستطيع أن نكرر التجربة فلدينا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكننا نحتاج الأم والأب الصالحين، وتهيئة المجتمع ليكون عونًا لأفراده على الطاعة لا لمعصية، وسيكون النتاج بإذن الله باهرًا..
تطبيقات عملية لهذا الخلق في حياتنا اليوم:
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى الشجاعة في حياتنا، وميادين الشجاعة كثيرة فمنها مثلاً:
1ـ شجاعة الاعتراف بالخطأ أو التقصير:
عندما يسود الجبن يعجز الإنسان عن الاعتراف بخطئه، ويبحث ـ دائمًا ـ عن كذبة يبرر بها تقصيره، فإذا هو د عصى الله مرتين: مرةً بتقصيره، وثانية بكذبه.
وشجاعة الاعتراف بالخطأ لابُدَّ أن تنَشَّأ في الطفل منذ صغره فيتعود على ذلك فيبيته دون أن يعاقب عقابًا عنيفًا، فإذا صار طالبًا اعترف بتقصيره إن قصَّر في مذاكرته وأداء واجباته بدلاً من إلقاء اللوم على عوامل أخرى، فإذا نشأ الطفل على ذلك فسنرى بلادنا ـ في المستقبل ـ كالدول المتقدمة يستقيل فيها الوزراء إن أهملوا إهمًا لا جسيمًا، أو قصروا فيه، ولم ينجزوا ما كان مفترضًا، بدلاً من ذلك الوضع لمزري الذي نعانيه بالإهمال في كل مناحي الحياة، ثم ترى كل الأمور مستقرة وكأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
2ـ أداء شهادة الحق:
من أهم ميادين الشجاعة أداء شهادة الحقِّ على وجهها، ونحن امة تعاني من تضييع الشهادة في كثير من لميادين، فقد يشاهد المرءشجارًا المعتدي فيه واضح، ولا يجرؤ على مواجهته او الشهادة ضده أمام الشرطة أو القضاء، وقد تكون الشهادة مطلوبة في أمر يهم الأمة كلها كالانتخابات، التي يتحدد بها من يقنن للأمة قوانينها، ويعقد معاهدتها، ويحاسب حكومتها، ومع ذلك يجبن البعض عن الشهادة، ويتكاسل آخرون.
3ـ مواجهة المجرمين:
كمن يرى لصًّا يسطو على منزل، او في حافلة عامة فمن المفروض أن يواجهه، ويلقي القبض عليه إن إستطاع، وإن لم يستطع فليبلغ الشرطة أو يستعين بغيره عل ذلك المجرم.
4ـ وضع سياسات الدولة:
فمن أهم ميادين الشجاعة وضع الحاكم ونفيذه للسياسات الخاصة ببلده ورعيته، فيبغي عليه أن يراعي في ذلك ما يرضي الله، ويحقق النفع والفائدة لشعبه لا عدوه، إنه راع وهو مسئول عن رعيته كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيحاسب على ما يتخذ من إجراءات، ويضع من سياسات حسابًا عسيرًا، فقد أخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن معقل بن يسار عن أبيه قال:
حدثنا عبد الرحمن بن معقل بن يسار عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيما وال ولي شيئا من أمر المسلمين فلم ينصح لهم ولم يجهد لهم كنصحه وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار.
لذلك فعلى الحاكم أن يكون شجاعًا في مواجهة أصحاب النفوذ من أهل الباطل الذين يبتغون لأنفسهم النفع على حساب الناس جميعًا، ولو كانوا من المقربين إليه ..
5ـ مواجهة العدو وإعداد القوة:
إنَّ أعداء الإسلام متربصون به منذ نشأته يحاربونه وأهله بكافة السُّبل، وعلى الأمة وعلى رأسها الحاكم أن تواجه هؤلاء الأعداء في كل مؤامراتهم ومخططاتهم سواء كانت دبلوماسية أو علمية أو أخلاقية، أو عسكرية وفي هذه الحالة لابد أن يكون الحاكم على قدر الكبير من الشجاعة يمكنه من مواجهة العدو والثبات أمام التهديدات مهما كانت قوته العسكرية، وعدم التنازل له عن أي شئ من مقدرات البلاد او كرامتها وسيادتها، ولكن يكون الحاكم كذلك إلا إذا كانت سياسته الداخلية تربي الشجاعة في أبنءالوطن، وبالتالي يسطيعون مساندته ضد العدو، أمَّا إن كان الحاكم قد قهر الرعية، ووأد شجاعتهم، فلا شكَّ أنه سيجبن أمام عدوه، ويستسلم له ولو تظاهر بالعكس.
ولكنَّ الشجاعة لا تعني أن يخرج الحاكم والرعية عراة الصدور مجردين من الأسلحة لمواجهة العدو بل لابد أن يعمل الحاكم على تقوية الجيوش بأحدث الأسلحة، ويادة الأعداد، وحسن تدريبهم وبث روح الإيمان والجهاد فيهم، ليصبح الجيش مكونًا من المجاهدين في سبيل الله، البائعين أرواحهم لله سبحانه وتعالى..
ـ نصائح نبوية للتحلِّي بهذا الخلق:
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم سبلاً شتىَّ، ليوجه المسلمين للتحلِّي بهذا الخلق، وكانت نصائحه تمسُّ شغاف القلوب، ووسائله ناجعة، فقد سلك أولاً طريق الدعاء، وعلّم المسلمين كيف يدعون الله سبحانه وتعالى أن يعيذهم من الجبن، وبذا غرس في نفوسهم حقارة الجُبن وكراهيته، وعظمة الشجاعة، وحبها فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال:
2667 - عمرو بن ميمون الأودي قال
: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر). فحدثت به مصعبا فصدقه..
وعلى الميدان التطبيقي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحِّمس المسلمين للقيام بالعمليات الخاصة، ويجرؤهم عليها، ويكافئهم عليها مكافآت عظيمة، وهذا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال:
99 - ( 1788 ) حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن جرير قال زهير حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال
: كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت فقال حذيفة أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ ) فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال ( ألا برجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ ) فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال ( ألا برجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ؟ ) فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم قال ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي ) فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله ( ولا تذعرهم علي ) ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال ( قم يا نومان)..
وهكذا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة ويوجههم ويربيهم ويغرس في نفوسهم معالي الأخلاق ليكونوا بحقٍّ خير القرون، وليقتدي بهم من بعدهم، ويصيروا من خير أمة أخرجت للناس..
التعليقات
إرسال تعليقك