قصة تحكيم إبليس في دار الندوة، مما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية، حيث شاعت كثير من الروايات حول ما حدث في دار الندوة قبل هجرة الرسول، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ، فهل لهذه الروايات من أصل ؟ وما موقف العلماء منها ؟
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
من صور عدل الرسول مع غير المسلمين – الحكم بالبينة، مقال د. راغب السرجاني يتناول عدل الرسول من خلال الحكم بالبينة، وموقف قتيل خيبر وموقف الأشعث بن قيس
بين الأشعث بن قيس واليهود
من صور عدل الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع غير المسلمين أنه لم يكن يقيم حكمًا على أحدهم إلا ببينة، مهما كان المُدعِي قريبًا منه صلى الله عليه وسلم..
فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». قَالَ الأَشْعَثُ بن قيس[1]: فِيَّ وَاللهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قُلْتُ: لا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: «احْلِفْ». قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَة[2].
إنه لموقف نادر حقًّا!!
إنه اختصام بين رجلين؛ أحدهما من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والآخر يهودي.. فيأتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، فلا يجد صلى الله عليه وسلم أمامه إلا أن يطبِّق الشرع فيهما دون محاباة ولا تحيُّز، والشرع يُلزم المدَّعِي -وهو الأشعث بن قيس رضي الله عنه- بالبينة أو الدليل، فإن فشل في الإتيان بالدليل فيكفي أن يحلف المدَّعَى عليه -وهو اليهودي- على أنه لم يفعل ما يتَّهمه به المدعِي، فيُصَدَّقُ في ذلك؛ وذلك مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر»[3].
ويفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مع علمه أن اليهود لا يتورعون عن الكذب؛ فهم لا يكذبون على الخلق فقط، ولكن يفترون الكذب على الله صلى الله عليه وسلم.. يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].
ويتأزم الموقف عندما يتبيَّن أن الصحابي ليس معه بينة، ويصبح الأمر كله رهن حلف اليهودي، ويشعر الصحابي بخيبة الأمل؛ لأنه يعلم أن اليهودي سيحلف كذبًا دون تردد، فلا يملك له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا يجد أمامه إلا أن يترك المجال لليهودي!!
أليس هذا هو العدل المطلق الذي لا يتوقع أحد من البشر أن يكون له تطبيق في واقع الناس؟!
إنه الإسلام.. دين من السماء، يحكم حياة الناس في الأرض.
وإنه رسولنا صلى الله عليه وسلم.. أعظم الخلق خُلُقًا وأدبًا!!
رسول الله مع يهود خيبر
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة في حياته صلى الله عليه وسلم التي يرفض فيها دعوى مسلم ضد يهودي لغياب البينة، فقد حدث ما هو أشد من الاختصام على قطعة من الأرض، وحدث ما لابسته ظروف أصعب من ظروف هذه القصة، وكان ردُّ فعله صلى الله عليه وسلم واحدًا في القصتين؛ لأن مرجعيته صلى الله عليه وسلم ثابتة، والدين والخُلُق والعدل عنده قضايا لا تتجزَّأ..
روى سهل بن أبي حَثْمَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خيبر، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً، وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلًا. فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً. فَقَالَ: «الْكُبْرَ الْكُبْرَ[4]». فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟» قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ!! قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ». قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ[5].
فهذه -والله- قصة عجيبة!!
لقد تمَّت هذه القصة في زمن الصلح مع اليهود، وذلك كما جاء في رواية مسلم «وهي يومئذٍ صلح»، وهذا يعني أنَّ القصة تمت بعد هزيمة اليهود في خيبر، وقبولهم الصُّلحَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي أن اليهود كانوا في موقف ضعف، والمسلمين في موضع قوة، ويستطيع المسلمون أن يفرضوا رأيهم بالقوة إنْ أرادوا.
وفي هذه الظروف قُتل أنصاري خزرجي اسمه عبد الله بن سهل رضي الله عنه، كما في رواية مسلم [6]، وتم هذا القتل في أرض اليهود، والاحتمال الأكبر والأعظم أن يكون القاتل من اليهود. ومع ذلك فليس هناك بينة على هذا الظن، والأمر في مجال الشك والظن، وهذا لا يُفلح في الدعوى؛ ولذلك لم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بأي صورة من صور العقاب، بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم يفعلوا!!
وقد أُسقط في يد الأنصار؛ فهم يعلمون أن اليهود لا يبالون بحلف كاذب، وعلموا أن حقهم سيضيع، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأثر حكمه بحزن الأنصار، ولا رغبتهم غير المؤيدة بدليل، فرفض أن يغرِّم اليهود ديَّة، أو أن يقتل منهم أحدًا، أو أن يُنْزِلَ عليهم أي صورة من صور العقاب، فشعر الأنصار بالغُبن؛ كونهم لم يُعَوَّضُوا عن قتيلهم.
وهنا يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يتخيله أحد.. إنه يتولى بنفسه دفع الدية من أموال المسلمين؛ لكي يهدِّئ من روع الأنصار، ودون أن يظلم اليهود.. فلتتحمل الدولة الإسلامية العبء في سبيل ألا يُطَبَّقَ حَدٌّ فيه شُبْهَةٌ على يهود!!
يقول العلامة الإمام النووي[7] تعليقًا على هذا الحدث: «إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي دفع ديته)؛ قطعًا للنزاع، وإصلاحًا لذات البين»[8].
إنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُغلق الباب تمامًا؛ فيُنسي الأنصار هذه القضية بعد أخذ الدية، ويأمن اليهود من أي تعدٍّ عليهم؛ انتقامًا للقتيل.
ألا ما أروع هذا الموقف وأعجبه!!
رسول الله ومسيلمة الكذاب
وأعظم من هذا الموقف وأروع ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع مسيلمة الحنفي، وهو الذي عُرِفَ بعد ذلك بمسيلمة الكذاب.. عندما جاء مع وفد بني حنيفة إلى المدينة المنورة في العام التاسع من الهجرة[9]..
فقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ. وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
«لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وَإِنِّي لأرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ».
فَأَخْبَرَنِي أبو هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ: أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي». فَكَانَ أَحَدُهُمَا العنسي، وَالآخَرُ مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة[10].
وهذه -والله- قصة عجيبة أخرى..!!
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يرى إنسانًا يرفض مبايعته على الإسلام إلَّا بشرط، وقد بايع قومه أجمعون، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد رأى رؤيا -ورؤيا الأنبياء حق- أنَّ هذا الرجل سيدَّعِي النبوَّة من بعده، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الأمر، ومدى الفتنة التي من الممكن أن تحدث من جرَّاء انتشار دعوته، وذيوع صيته، وعلى الرغم من كلِّ هذه الأحداث الخَطِرة، وعلى الرغم من قوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في ذلك الوقت، وضعف بني حنيفة والعرب بصفةٍ عامَّة.. على الرغم من كلِّ هذه الملابسات فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتَّخذ ضدَّه أيَّ إجراءٍ عقابيٍّ أو ردعيٍّ، ولم يُقيِّد حريَّته، ولم يحدِّ من حركته..
وقد كان ذلك لأنَّه صلى الله عليه وسلم لا يُريد أن يُصدِرَ عليه حكمًا نتيجة رؤيا أو وحي؛ ولأنَّ مسيلمة لا يُؤمن بالوحي أصلًا، وهو ما زال على شركه، ومن ثَمَّ لا يصدر ضدَّه حكمٌ إلَّا ببيِّنةٍ مادِّيَّة، ودليلٍ يراه مسيلمة يُثبت أنَّ هذا سيحدث في المستقبل.. ولأنَّ هذا الدليل غير موجود بهذه الصفة، فقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيلمة سالمًا، مع علمه ويقينه بالفتنة التي ستحدث بعد ذلك.
إنَّه العدل في أرقى صوره، بل إنَّه لا مجال للمقارنة بينه وبين صور العدل الأخرى الموجودة على سطح الأرض.
[1] الأشعث بن قيس الكندي، وفد على النبي سنة عشر، وكان من ملوك كندة، فلما مات النبي ارتد، ثم عاد إلى الإسلام فزوَّجَهُ أبو بكر أخته، وشهد القادسية، وشهد مع علي صفين. توفي بعد قتل علي بأربعين ليلة. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة1/97، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 205.
[2] البخاري: كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض 2285، ومسلم: كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 138.
[3] رواه مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني 844، والبيهقي 20990، وقال الألباني: رواه مسلم، وفي "شرحه للنووي" أنه قال: وجاء في رواية "البيهقي" بإسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس مرفوعًا: "لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر". انظر: مشكاة المصابيح 3758.
[4] الكبر الكبر: أي قدِّموا في الكلام أكبركم. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 12/233، 234.
[5] البخاري: كتاب الديات، باب القسامة 6502، واللفظ له، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة 1669.
[6] مسلم: هو مسلم بن الحجاج، الإمام الحافظ حجة الإسلام أبو الحسين القشيري النيسابوري، يقال: ولد سنة 204هـ، وهو صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء. توفي سنة 261هـ بنيسابور. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 11/33، والذهبي: تذكرة الحفاظ 2/588.
[7] النووي: هو محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي 631 - 676هـ، كبير الفقهاء في زمانه، ينسب إلى نوى من قرى حوران. اعتنى بالتصنيف فجمع شيئًا كثيرًا، ومما أكمله: شرح مسلم، والروضة، ومما لم يكمله: شرح المهذب الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 13/278.
[8] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 11/147.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 5/48.
[10] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 3424، ومسلم: كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم 2273.
التعليقات
إرسال تعليقك