الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
قلعة قايتباي من أهمِّ القلاع والحصون الدفاعية على ساحل البحر المتوسط، وهي درة العمارة المملوكية في الإسكندرية.
مدينة الإسكندرية هي العاصمة الثانية لمصر، بل كانت عاصمتها قديمًا، وقد بناها الإسكندر الأكبر سنة 332 ق.م وبه سمِّيت، ثم تحولت أيام البطالمة إلى مدينة ملكية بحدائقها وأعمدتها الرخامية البيضاء وشوارعها المتسعة، وصارت عاصمة لمصر، وأصبحت إحدى حواضر العلوم والفنون والثقافة، وقد حوت أضخم مكتبة عرفتها البشرية لأوقات عديدة ومنارتها إحدى عجائب الدنيا!
فتحها المسلمون بقيادة عمرو بن العاص عام 22هـ، وكانت ثغر المسلمين طوال العهد الراشدي وحول المسلمين عاصمة مصر من الإسكندرية إلى الفسطاط، ولكنها ظلت على مكانتها طوال العصور الإسلامية وخاصة في عهد المماليك، فقد عمروها وحصنوها وبالغوا في ذلك لأهميتها الكبيرة، ثم أضحت تحت حكم العثمانيين وكانت أقل مراحلها في العناية خاصة في أواخر عهدهم، إلى أن تولى محمد علي حكم مصر فأعاد تحصينها وعمرانها وخلفاؤه من بعده، فحفر الترع مثل المحمودية وجدد الميناء وبنى منارة حديثة، بالإضافة إلى قصر رأس التين الذي أصبح مقرًا للحاكم بها، وقد أصبحت منذ تولي محمد علي الحكم وخلال 150 سنة التالية أهم ميناء في البحر المتوسط ومركزا مهمًّا للتجارة الخارجية ومقرا لسكان متعددي الأعراق واللغات والثقافات، ووصلت إلى عصرها الذهبي في عهد الخديوي إسماعيل.
ومظاهر الحضارة الإسلامية وافرة في الإسكندرية، ومنها القلاع التي تُعدُّ من أهم المنشآت العسكرية التي ظهرت في العصور القديمة والوسطى وانتشرت في الكثير من المدن الإسلامية، وكانت هذه القلاع تُبنى على تلال وجبال مرتفعة، وتطل على المدينة لتُحقِّق لها هدف الدفاع ضدَّ المعتدين.
ومن هذه القلاع قلعة قايتباي[1] التي يزيد عمرها اليوم على 5 قرون ونصف تقريبًا، وهي من أهمِّ القلاع والحصون الدفاعية على ساحل البحر المتوسط، وهي درة العمارة المملوكية في الإسكندرية، ومن أهمِّ الآثار الباقية حتى اليوم، وأهم القلاع البحرية على البحر الأبيض، بل من أهم العمائر في مصر والعالم الإسلامي من الناحية الأثرية والسياحية والثقافية.
أُقيمت قلعة قايتباي على أساس منارة الإسكندرية القديمة[2]، عند الطرف الشرقي لجزيرة فاروس بأقصى غرب الإسكندرية. وقد أنشأها السلطان قايتباي سنة (882هـ=1477م) فوق موقع المنار القديم، وانتُهي من البناء بعد عامين من تاريخ الإنشاء؛ أي سنة (884هـ=1479م).
أما التخطيط المعماري للقلعة يأخذ شكل المربع، تبلغ مساحته 150م ×130م (حوالي 19500 مترًا مربعًا، ما يُعادل أربعة أفدنة)، ويُحيط به البحر من ثلاث جهات، وتحتوي هذه القلعة على الأسوار والبرج الرئيس. والبرج الرئيس يقع بالناحية الشمالية الغربية منها، وهو عبارة عن بناء ضخم يتكوَّن من ثلاثة طوابق، ويزيد ارتفاعه عن 17 مترًا، مربَّع الشكل طول ضلعه 30 مترًا، ومشيَّد بالحجر الجيري ذي القطع الكبيرة، وأُقيمت في أركانه الأربعة أبراج مستديرة ترتفع عن سطح البرج الكبير نفسه، تنتهي من أعلى بشرفات بارزة تضمُّ فتحات لرمي السهام على مستويين.
ويتكوَّن البرج من ثلاثة طوابق يختلف كلٌّ منها عن الآخر في التخطيط والارتفاع: الطابق الأول (الأرضي): يشتمل على مسجد يشغل أكثر من نصف المساحة، وقد بُني على نظام المدارس المملوكية؛ من صحنٍ مربعٍ مكشوف في الوسط يُحيط به من جهاته الأربعة أربعةُ إيواناتٍ صغيرة، كما يضمُّ ممرَّات دفاعية تسمح للجنود بالمرور بسهولة خلال عمليات الدفاع عن القلعة، وبه بعض الحجرات الصغيرة بالضلع الجنوبي. أمَّا الطابق الثاني: يتكوَّن من قسمين: الأول يشتمل على ممرَّات جانبية، أمَّا الثاني فهو مجموعة من القاعات الكبيرة والحجرات الصغيرة. والطابق الثالث: فيتكوَّن من حجرة كبيرة (مقعد السلطان قايتباي)، يجلس فيه لرؤية السفن على مسيرة يوم من الإسكندرية، كما يوجد فيه فرنٌ لإعداد الخبز، وطاحونة لطحن الغلال للجنود المقيمين في القلعة، كما يضمُّ مجموعة من الممرات الجانبية والحجرات والمخازن.
يحيط بالقلعة سوران كبيران من الخارج والداخل، السور الخارجي يحيط بها من الجهات الأربع، وأمَّا الأسوار الداخلية فهي مبنيَّةٌ من الحجر في البرج الرئيس من ثلاث جهات فقط، الشرق والغرب والجنوب ما عدا الجهة الشمالية، ويفصلها عن الأسوار الخارجية مسافة تتراوح بين خمسة وعشرة أمتار، ويتخلَّل هذا السور من الداخل مجموعة من الحجرات المتجاورة يبلغ عددها 34 حجرةً أُعدَّت كثكنات للجنود، خالية من النوافذ فيما عدا فتحة الباب التي تُقابلها فتحة للتهوية، وفتحات للدفاع.
لم يعط العثمانيون أهمية كبرى للقلعة، فضعفت مكانتها العسكرية، ولكن أعاد محمد علي الاهتمام بها وبتطويرها بما يتواكب مع عصره، وتمثل ذلك في: تقوية أسوارها، وتجديد مبانيها، وتزويدها بالمدافع الساحلية الحديثة.
ظلت القلعة قوية إلى أن خرَّبها الإنجليز في يوم 11 يوليو 1882م، وأحدثوا بها تصدُّعات، وظلت على حالها الخَرِبَة إلى أن قامت لجنة حفظ الآثار العربية عام (1322هـ=1904م) بالعديد من الإصلاحات بها.
تعتبر القلعة نموذجًا يلخِّص حياة المماليك بشكل عام، فقد تميَّز عصرهم بشكل عام بالقوة، والتفوق العسكري، بالإضافة إلى الاهتمام البالغ بالوجه الحضاري، والجمال المعماري، فضلًا عن اهتمام بارز بالنواحي الدينية[3].
[1] قايتباي: من أشهر المماليك البرجية الجراكسة وأقواهم وأفضلهم، وبويع بالسلطنة في (872هـ/1468م) وظل ملكًا لمصر نحو 29 سنة، وأقام كثيرًا من المنشآت المعمارية من مساجد ومدارس ووكالات ومنازل وأسبلة وقناطر للمياه، كما عني بالعمارة الحربية وبالحصون فأنشأ قلعة بالإسكندرية وأخرى برشيد، وتوفي (901هـ/1496م)، وينسب إليه ما يزيد على سبعين أثرًا إسلاميًا ما بين إنشاء وتجديد.
[2] تصدَّعت بزلزال عام 702 ه، وانهارت تمامًا عام 777ه/1375م).
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك