التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
متى قامت قبيلة قريش ببناء الكعبة؟
بعد قصة الفيل بخمس وثلاثين سنة على الأرجح تضرَّرت الكعبة كثيرًا بسيل شديد، والبعض قال أنَّ هذا الضرر كان قبل النبوة بخمس عشرة سنة، والبعض قال قبل ذلك، لكن من المهم إدراك أن هذا السيل حدث في هذا الوقت تحديدًا، وليس قبل ذلك بعشرين أو ثلاثين سنة، وليس بعد ذلك أيضًا، ليعطي الفرصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون ترتيب منه لأن يشارك في بناء الكعبة المشرفة، بل وليكون له دور بارز في حماية القبائل من التصارع، فتظهر آثار رحمته وفضله قبل نبوَّته، وهذا كله تمهيد للنبوَّة.
وقد وردت قصة البناء كاملة في أخبار مكة للأزرقي بإسناد صحيح، وكذلك عند ابن سعد، وابن خزيمة، والطبراني، والهيثمي، وغيرهم: فعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ[1]قَالَ: "جَلَسَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فِيهِمْ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى[2]، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ[3]، فَتَذَاكَرُوا بُنْيَانَ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ وَمَا هَاجَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرُوا كَيْفَ كَانَ بِنَاؤُهَا قَبْلَ ذَلِكَ[4]، قَالُوا: كَانَتِ الْكَعْبَةُ مَبْنِيَّةً بِرَضْمٍ يَابِسٍ لَيْسَ بِمَدَرٍ[5]، وكَانَ بَابُهَا بِالْأَرْضِ[6]، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سَقْفٌ، وَإِنَّمَا تُدَلَّى الْكِسْوَةُ عَلَى الْجُدُرِ مِنْ خَارِجٍ وَتُرْبَطُ مِنْ أَعْلَى الْجُدُرِ مِنْ بَطْنِهَا،َ وكَانَ فِي بَطْنِ الْكَعْبَةِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهَا جُبٌّ، يَكُونُ فِيهِ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ مَالٍ وَحِلْيَةٍ كَهَيْئَةِ الْخِزَانَةِ[7]، وَكَانَ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْجُبِّ حَيَّةٌ تَحْرُسُهُ بَعَثَهَا اللَّهُ مُنْذُ زَمَنِ جُرْهُمٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَدَا عَلَى ذَلِكَ الْجُبِّ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمٍ، فَسَرَقُوا مَالَهَا وَحِلْيَتَهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تِلْكَ الْحَيَّةَ، فَحَرَسَتِ الْكَعْبَةَ وَمَا فِيهَا خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَنَتْ قُرَيْشٌ الْكَعْبَةَ، وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ الَّذِي ذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ مُعَلَّقَيْنِ فِي بَطْنِهَا بِالْجَدْرِ تِلْقَاءَ مَنْ دَخَلَهَا، يُخْلَقَانِ وَيُطَيَّبَانِ إِذَا طُيِّبَ الْبَيْتُ، فَكَانَ فِيهَا مَعَالِيقُ مِنْ حِلْيَةٍ كَانَتْ تُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ، فَكَانَتْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، ثَّم إنَّ امْرَأَةً ذَهَبَتْ تُجَمِّرُ الْكَعْبَةَ، فَطَارَتْ مِنْ مَجْمَرَتِهَا شَرَارَةٌ فَاحْتَرَقَتْ كِسْوَتُهَا، وكَانَتِ الْكِسْوَةُ عَلَيْهَا رُكَامًا، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَلَمَّا احْتَرَقَتِ الْكَعْبَةُ تَوَهَّنَتْ جُدْرَانُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَتَصَدَّعَتْ، وَكَانَتِ الْخِرَفُ الْأَرْبَعَةُ عَلَيْهِمْ مُظَلِّلَةً، وَالسُّيُولُ مُتَوَاتِرَةً، وَلِمَكَّةَ سُيُولٌ عَوَارِمُ، فَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَصَدَعَ جُدْرَانَهَا وَأَخَافَهُمْ، فَفَزِعَتْ مِنْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ فَزَعًا شَدِيدًا، وَهَابُوا هَدْمَهَا، وَخَشُوا إِنْ مَسُّوهَا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ يَتَنَاظَرُونَ وَيَتَشَاوَرُونَ، إِذْ أَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ لِلرُّومِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالشُّعَيْبَةِ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ سَاحِلُ مَكَّةَ قَبْلَ جُدَّةَ انْكَسَرَتْ، فَسَمِعَتْ بِهَا قُرَيْشٌ، فَرَكِبُوا إِلَيْهَا فَاشْتَرَوْا خَشَبَهَا، وَأَذِنُوا لِأَهْلِهَا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَيَبِيعُونَ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَعْشُرُوهُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَعْشُرُونَ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ، كَمَا كَانَتِ الرُّومُ تَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِلَادَهَا، فَكَانَ فِي السَّفِينَةِ رُومِيٌّ نَجَّارٌ بَنَّاءٌ يُسَمَّى يَاقُوتَ[8]، فَلَمَّا قَدِمُوا بِالْخَشَبِ مَكَّةَ قَالُوا: لَوْ بَنَيْنَا بَيْتَ رَبِّنَا. فَأَجْمَعُوا لِذَلِكَ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، وَتَرَافَدُوا فِي النَّفَقَةِ، فقد رَبَّعُوا قَبَائِلَ قُرَيْشٍ أَرْبَاعًا، ثُمَّ اقْتَرَعُوا عِنْدَ هُبَلَ فِي بَطْنِ الْكَعْبَةِ عَلَى جَوَانِبِهَا فَطَار قَدَحُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي زُهْرَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ الْبَابُ وَهُوَ الشَّرْقِيُّ[9]، وقَدَحُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَلَى الشِّقِّ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ وَهُوَ الشِّقُّ الشَّامِيُّ، وَطَارَ قَدَحُ بَنِي سَهْمٍ وَبَنِي جُمَحَ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ الشِّقُّ الْغَرْبِيُّ، وَطَارَ قَدَحُ بَنِي تَيْمٍ وَبَنِي مَخْزُومٍ وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ ضُمُّوا مَعَهُمْ عَلَى الشِّقِّ الْيَمَانِيِّ الَّذِي يَلِي الصَّفَا وَأَجْيَادًا، فَنَقَلُوا الْحِجَارَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ كان غُلَامٌ ولَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بعد، فكان يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِهِ[10]، فَبَيْنَا هُوَ يَنْقُلُهَا إِذِ انْكَشَفَتْ نَمِرَةٌ كَانَتْ عَلَيْهِ[11]، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ، عَوْرَتَكَ. وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا نُودِيَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَمَا رُؤِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَبَجَ[12] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَزَعِ حِينَ نُودِيَ، فَأَخَذَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: لَوْ جَعَلْتَ بَعْضَ نَمِرَتِكَ عَلَى عَاتِقِكَ تَقِيكَ الْحِجَارَةَ. قَالَ: مَا أَصَابَنِي هَذَا إِلَّا مِنَ التَّعَرِّي. فَشَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِزَارَهُ، وَجَعَلَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ تَبَرُّرًا وَتَبَرُّكًا بِالْكَعْبَةِ[13]، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَهُمْ مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْخَشَبِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، غَدَوْا عَلَى هَدْمِهَا، فَخَرَجَتِ الْحَيَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي بَطْنِهَا تَحْرُسُهَا سَوْدَاءُ الظَّهْرِ، بَيْضَاءُ الْبَطْنِ، رَأْسُهَا مِثْلُ رَأْسِ الْجَدْيِ، تَمْنَعُهُمْ كُلَّمَا أَرَادُوا هَدْمَهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اعْتَزَلُوا عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَقَالَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: يَا قَوْمِ، أَلَسْتُمْ تُرِيدُونَ بِهَدْمِهَا الْإِصْلَاحَ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ الْمُصْلِحِينَ، وَلَكِنْ لَا تُدْخِلُوا في عِمَارَةَ بَيْتِ رَبِّكُمْ إِلَّا مِنْ طَيِّبِ أَمْوَالِكُمْ، وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَالًا مِنْ رِبًا، وَلَا مَالًا مِنْ مَيْسِرٍ، وَلَا مَهْرَ بَغِيٍّ، وَجَنِّبُوهُ الْخَبِيثَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا! فَفَعَلُوا، ثُمَّ وَقَفُوا عِنْدَ الْمَقَامِ، فَقَامُوا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لَكَ فِي هَدْمِهَا رِضًا فَأَتِمَّهُ وَاشْغَلْ عَنَّا هَذَا الثُّعْبَانَ. فَأَقْبَلَ طَائِرٌ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الْعُقَابِ، ظَهْرُهُ أَسْوَدُ، وَبَطْنُهُ أَبْيَضُ، وَرِجْلَاهُ صَفْرَاوَانِ، وَالْحَيَّةُ عَلَى جَدْرِ الْبَيْتِ فَاغِرَةٌ فَاهَا، فَأَخَذَ بِرَأْسِهَا، ثُمَّ طَارَ بِهَا حَتَّى أَدْخَلَهَا أَجْيَادًا الصَّغِيرَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ رَضِيَ عَمَلَكُمْ، وَقَبِلَ نَفَقَتَكُمْ، فَاهْدِمُوهُ[14] فَهَابَتْ قُرَيْشٌ هَدْمَهُ وَقَالُوا: مَنْ يَبْدَأُ فَيَهْدِمُهُ؟[15]، قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهِ، أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَإِنْ أَصَابَنِي أَمْرٌ كَانَ قَدْ دَنَا أَجَلِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَرْزَأْنِي[16]، فَعَلَا الْبَيْتَ وَفِي يَدِهِ عَتَلَةٌ يَهْدِمُ بِهَا، فَتَزَعْزَعَ مِنْ تَحْتِ رِجْلِهِ حَجَرٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَمْ تُرَعْ، إِنَّمَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ وَجَعَلَ يَهْدِمُهُ حَجَرًا حَجَرًا بِالْعَتَلَةِ، فَهَدَمَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ الْعَذَابُ إِذَا أَمْسَى. فَلَمَّا أَمْسَى لَمْ تَرَ بَأْسًا، فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ، فَهَدَمَتْ قُرَيْشٌ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغُوا الْأَسَاسَ الْأَوَّلَ الَّذِي رَفَعَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَبْصَرُوا حِجَارَةً كَأَنَّهَا الْإِبِلُ الخلف، لَا يُطِيقُ الْحَجَرَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، يُحَرَّكُ الْحَجَرُ مِنْهَا فَتَرْتَجُّ جَوَانِبُهَا، قَدْ تَشَبَّكَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَأَدْخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَتَلَتَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ، فَانْفَلَقَتْ مِنْهُ فَلْقَةٌ عَظِيمَةٌ، فَأَخَذَهَا أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، فَنَزَتْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى عَادَتْ فِي مَكَانِهَا، وَطَارَتْ مِنْ تَحْتِهَا بَرْقَةٌ كَادَتْ أَنْ تَخْطَفَ أَبْصَارَهُمْ، وَرَجَفَتْ مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَمْسَكُوا عَنْ أَنْ يَنْظُرُوا مَا تَحْتَ ذَلِكَ[17]، فَلَمَّا جَمَعُوا مَا أَخْرَجُوا مِنَ النَّفَقَةِ قَلَّتِ النَّفَقَةُ عَنْ أَنْ تَبْلُغَ لَهُمْ عِمَارَةَ الْبَيْتِ كُلِّهِ، فَتَشَاوَرُوا فِي ذَلِكَ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَقْصُرُوا عَنِ الْقَوَاعِدِ، وَيَحْجُرُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَيَتْرُكُوا بَقِيَّتَهُ فِي الْحِجْرِ، عَلَيْهِ جِدَارٌ مُدَارٍ يَطُوفُ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَبَنَوْا فِي بَطْنِ الْكَعْبَةِ أَسَاسًا يَبْنُونَ عَلَيْهِ مِنْ شِقِّ الْحِجْرِ، وَتَرَكُوا مِنْ وَرَائِهِ مِنْ فِنَاءِ الْبَيْتِ فِي الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا، فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ[18]، فَلَمَّا وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي بِنَائِهَا قَالُوا: ارْفَعُوا بَابَهَا مِنَ الْأَرْضِ وَاكْبِسُوهَا؛ حَتَّى لَا تَدْخُلَهَا السُّيُولُ، وَلَا تُرْقَى إِلَّا بِسُلَّمٍ، وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَدْتُمْ، إِنْ كَرِهْتُمْ أَحَدًا دَفَعْتُمُوهُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَبَنَوْهَا بِسَافٍ مِنْ حِجَارَةٍ، وَسَافٍ مِنْ خَشَبٍ بَيْنَ الْحِجَارَةِ[19]،[20] حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ، فَاخْتَلَفُوا فِي وَضْعِهِ، وَكَثُرَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَتَنَافَسُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ: هُوَ فِي الشِّقِّ الَّذِي وَقَعَ لَنَا. وَقَالَتْ تَيْمٌ وَمَخْزُومٌ: هُوَ فِي الشِّقِّ الَّذِي وَقَعَ لَنَا. وَقَالَتْ سَائِرُ الْقَبَائِلِ: لَمْ يَكُنِ الرُّكْنُ مِمَّا اسْتَهَمْنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ: يَا قَوْمِ، إِنَّمَا أَرَدْنَا الْبِرَّ، وَلَمْ نُرِدِ الشَّرَّ، فَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، فَإِنَّكُمْ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ تَشَتَّتَتْ أُمُورُكُمْ، وَطَمِعَ فِيكُمْ غَيْرُكُمْ، وَلَكِنْ حَكِّمُوا بَيْنَكُمْ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ. قَالُوا: رَضِينَا وَسَلَّمْنَا. فَطَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ، قَدْ رَضِينَا بِهِ[21]. فَحَكَّمُوهُ، فَبَسَطَ رِدَاءَهُ[22]، ثُمَّ وَضَعَ فِيهِ الرُّكْنَ، فَدَعَا مِنْ كُلِّ رُبْعٍ رَجُلًا، فَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الثَّوْبِ، فَكَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ[23]، وَكَانَ فِي الرُّبُعِ الثَّانِي أَبُو زَمْعَةَ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ[24]، وَفِي الرُّبُعِ الثَّالِثِ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ[25]، وَفِي الرُّبُعِ الرَّابِعِ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ[26]، فَرَفَعَ الْقَوْمُ الرُّكْنَ، وَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ وَضَعَهُ بِيَدِهِ[27]، فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ لِيُنَاوِلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرًا لِيَشُدَّ بِهِ الرُّكْنَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: لَا. فَنَاوَلَ الْعَبَّاسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرًا، فَشَدَّ بِهِ الرُّكْنَ، فَغَضِبَ النَّجْدِيُّ حَيْثُ نُحِّيَ، فَقَالَ النَّجْدِيُّ: وَاعَجَبَاهُ لِقَوْمٍ أَهْلِ شَرَفٍ وَعُقُولٍ وَسِنٍّ وَأَمْوَالٍ، عَمَدُوا إِلَى أَصْغَرِهِمْ سِنًّا، وَأَقَلِّهِمْ مَالًا، فَرَأَسُوهُ عَلَيْهِمْ فِي مَكْرَمَتِهِمْ وَحَوْزِهِمْ، كَأَنَّهُمْ خَدَمٌ لَهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَيَفُوتَنَّهُمْ سَبْقًا، وَلَيَقْسِمَنَّ عَلَيْهِمْ حُظُوظًا وَجُدُودًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِبْلِيسُ. فَبَنَوْا حَتَّى رَفَعُوا أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا، ثُمَّ كَبَسُوهَا، وَوَضَعُوا بَابَهَا مُرْتَفِعًا عَلَى هَذَا الذَّرْعِ[28]، وَرَفَعُوهَا بِمِدْمَاكِ خَشَبٍ وَمِدْمَاكِ حِجَارَةٍ حَتَّى بَلَغُوا السَّقْفَ، فَقَالَ لَهُمْ بَاقُومُ الرُّومِيُّ: أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْعَلُوا سَقْفَهَا مُكَبَّسًا أَوْ مُسَطَّحًا؟ فَقَالُوا: بَلِ ابْنِ بَيْتَ رَبِّنَا مُسَطَّحًا. قَالَ: فَبَنَوْهُ مُسَطَّحًا، وَجَعَلُوا فِيهِ سِتَّ دَعَائِمَ فِي صَفَّيْنِ، فِي كُلِّ صَفٍّ ثَلَاثُ دَعَائِمَ مِنَ الشِّقِّ الشَّامِيِّ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ إِلَى الشِّقِّ الْيَمَانِيِّ، وَجَعَلُوا ارْتِفَاعَهَا مِنْ خَارِجِهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى أَعْلَاهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا[29]، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ، فَزَادَتْ قُرَيْشٌ فِي ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ أُخَرَ، وَبَنَوْهَا مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا بِمِدْمَاكٍ مِنْ حِجَارَةٍ وَمِدْمَاكٍ مِنْ خَشَبٍ، وَكَانَ الْخَشَبُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِدْمَاكًا، وَالْحِجَارَةُ سِتَّةَ عَشَرَ مِدْمَاكًا[30]، وَجَعَلُوا مِيزَابَهَا يَسْكُبُ فِي الْحِجْرِ، وَجَعَلُوا دَرَجَةً مِنْ خَشَبٍ فِي بَطْنِهَا فِي الرُّكْنِ الشَّامِيِّ، يُصْعَدُ مِنْهَا إِلَى ظَهْرِهَا، وَزَوَّقُوا سَقْفَهَا وَجُدْرَانَهَا مِنْ بَطْنِهَا وَدَعَائِمِهَا، وَجَعَلُوا فِي دَعَائِمِهَا صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَصُوَرَ الشَّجَرِ، وَصُوَرَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ فِيهَا صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ شَيْخٍ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، وَصُورَةُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ، وَصُورَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعِينَ[31]...
يرى جواد علي في المفصل في تاريخ العرب أن هذه التصاوير قد تكون من رسم النجار الرومي باقوم، وهذا احتمال منطقي في الواقع لعدم تقدير أهل مكة للصور المرسومة، ولم يكن من عادتهم تصوير حياتهم بالرسم، ولكن يفعلون ذلك بالشعر، كما أنهم لا يعظِّمون مريم ولا ابنها المسيح عليه السلام، وكذا لا يعظِّمون الملائكة، بل يصفونهم بأنهم بنات الله، وهم يُفضِّلون الذكور. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 16 - 19].
وقد كان تعديلات قريش عن بناء إبراهيم في الكعبة: أنهم أنقصوا من جهة الحِجْر ستة أذرع وشبرًا (أي: 3.23م) وأداروا عليه جدارًا قصيرًا؛ ليطوف الناس من ورائه، كما أنهم زادوا ارتفاعها إلى 18 ذراعًا؛ (أي: 9م)، وسَقَفوها، وجعلوا لها ميزابًا من خشب، وسدُّوا الباب الغربي، رفعوا الباب الشرقي عن مستوى الأرض، ووضعوا التصاوير في داخلها.
نهايات عجيبة لبناة الكعبة
من العجيب أن نتابع مصائر الرموز الكبرى التي ساهمت في بناء الكعبة، أو في وضع الحجر الأسود، فهلك جميع من حمل الثوب كفَّارًا مع كونهم أدركوا الإسلام، وكذا الوليد بن المغيرة، وكان اعتقادهم في الكعبة كبيرًا، ويعلمون أنها بيت الله المعظَّم، لكنهم أشركوا مع الله أصنامًا، وغطَّى الكبر على أبصارهم فلم يروا فضل الرسالة والإسلام، وهم كالتالي:
عتبة بن ربيعة: رأس من رؤوس الكفر من ربيعة من بني عبد شمس بن مناف، وصاحب جدل طويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ممن قُتِل في بدر كافرًا.
أبو زمعة الأسود بن المطلب: واحد من المستهزءين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95].
العاص بن وائل: من عتاة الكفَّار، ونزل فيه قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77، 78]، وكذا قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 77، 78]، وهو من المستهزءين، ومات كافرًا قبل بدر وهو في طريقه للطائف بعد الهجرة بقليل.
أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي: مات على الشرك، وأشار القرطبي إلى أنه قد نزل فيه قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] قِيلَ: أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمُشْرِكُ، تُصِيبُهُ الْبَأْسَاءُ وَالشِّدَّةُ وَالْجَهْدُ[32].
الوليد بن المغيرة: من عتاة الشرك، وكان يُسَمَّى العِدْل، لأنه يعدل قريشًا كلَّها، وكان القوم يكسون الكعبة عامًا، ويكسوها هو بمفرده عامًا! وهو الذي نزل فيه قول الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] إلى قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26]، وهو أيضًا أحد المستهزئين، ومات على الشرك بعد الهجرة بشهور عن خمسة وتسعين عامًا.
أبو أمية بن المغيرة: هو الذي أشار على القوم بتحكيم أول من يدخل عليهم، وهو أبو أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين، وكان من أجواد قريش المعدودين، وكان يُعْرَف بزاد الركب، حيث لا يتزوَّد مَنْ يسافر معه بالطعام ولا بالزاد، معتمدًا على كرمه في ضيافة كلِّ مَنْ يسافر معه! وغالب الأمر أنه مات مشركًا، ولا أدري هل أدرك الإسلام أم لا، لأنه كان أسنَّ القوم عند بناء الكعبة، فقد يكون من أهل الفترة، ومات في زمن أبي طالب، ورثاه أبو طالب بقصيدة، لكن لا أدري هل كانت هذه القصيدة قبل الإسلام أم بعده.
وهكذا يكون بعض المتكبِّرين: لا يمانعون في الحقِّ، بل قد يسعون إلى تطبيقه، ولكن بشرط أن يُنْسَب إليهم، ولو جاء عن طريق غيرهم أنكروه، وتركوه، بل واحتقروا صاحبه، وحاربوه، روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»[33]، وحكى الله عز وجل موقف هؤلاء المتكبرين فقال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، ويقصدون عظيمًا من مكة، أو عظيمًا من الطائف، لخَّص ذلك ربنا في الكتاب، فقال: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حين نزلت هذه الآية: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}»، فقال: «مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَيْتِ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُهُ. {سَامِرًا} قَالَ: كَانُوا يَتَكَبَّرُونَ، وَيَسْمُرُونَ فِيهِ، وَلَا يَعْمُرُونَهُ، وَيَهْجُرُونَهُ»[34].
من هم المستهزئون؟
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95] قال: «الْمُسْتَهْزِئُونَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ[35]، وَالأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ[36] مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَالْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ السَّهْمِيُّ[37]، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام - فشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ أَبَا عَمْرِو بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ[38]، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيَّ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. ثمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ السَّهْمِيَّ، فَأَوَمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ: كُفِيتَهُ. وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ[39]، فَقَالَ: «مَا صَنَعْتَ؟». قَالَ: كُفِيتَهُ. فَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا[40] لَهُ فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَمِيَ هَكَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ[41]، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي قَدْ قُتِلْتُ. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا. وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَمْنَعُونَ عَنِّي قَدْ هَلَكْتُ، هَا هُوَ ذَا أُطْعَنُ بِالشَّوْكِ فِي عَيْنِي. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شيئًا. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَأَمَّا الأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الأَصْفَرُ[42] فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ[43] مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يومًا إِذَ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ[44] حَتَّى امْتَلأَتْ[45] مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى حِمَارٍ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ»[46].
ومن هذا الأمر يتضح لنا أنَّ ثلاثة من بين خمسة من بناة الكعبة الأساسيين كانوا من المستهزئين، ولم ينفعهم الجهد الذي بذلوه في بناء الكعبة، ولهذا نقول أنَّ الاهتمام بظاهر العمل دون توجيه النية لله عز وجل محبط للعمل، وشبيه ما فعله هؤلاء الكفار ما فعله المنافقون في المدينة حين بنوا المسجد الضرار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 107، 108].
كذلك أعطى هؤلاء الحرمة للكعبة فبنوها من مالهم الحلال، وبذلوا الجهد الكبير، بل خاطر الوليد بن المغيرة بحياته حين شرع في هدمها أولًا، ومع ذلك لم يعطِ هؤلاء الحرمة للمؤمنين الذين يعبدون الله في البيت الحرام، فعذَّبوهم وفتنوهم عن دينهم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتِكِ[47]! وَلَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةَ عِنْدَ اللهِ مِنْكِ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثًا: دَمَهُ، وَمَالَهُ، وَأَنَ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ»[48].
[1] يسار مولى الأخنس بن شريق رضي الله عنه، وهو من التابعين الثقات
[2] من مسلمة الفتح عمَّر طويلًا عاش 120 سنة، ومات في 54 هجرية، وهو من بني عامر بن لؤي
[3] أيضًا من مسلمة الفتح، وعاش كذلك 115 سنة، وتوفي عام 54 هجرية أيضًا! وهو من بني زهرة
[4] ومعنى هذا أن حويطب ومخرمة شهدا بناء الكعبة: وكان عمر حويطب آنذاك 48 سنة، وعمر مخرمة 43 سنة
[5] بمدر: أي صخرية وليست طينية
[6] في الواقع بابان في هذه المرحلة
[7] أي المقصود: كنز الكعبة
[8] يُسَمَّى ياقوت: أو باقوم
[9] بنو عبد مناف تشمل بني هاشم، وبني المطلب، وبني عبد شمس بشقَّيها أمية وربيعة، وبني نوفل. هذا بالإضافة إلى بني زهرة.
[10] روى البخاري عن عمرو بن ميمون في قصة استشهاد عمر بن الخطاب قال: "وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلاَمَ.."
[11] وفي ابن منظور: والنَّمِرَةُ شَملة فيها خطوط بيض وسود، والجوهري والنَّمِرَةُ بُرْدَةٌ من صوف يلبسها الأَعراب كأَنها أُخذت من لون النَّمِر لما فيها من السواد والبياض وليس المقصود أنه من جلد النمر، وكانت العرب تلبسه في حال الحروب، لأن النمر مشهور عندهم أنه أخبث من الأسد، ففي اللبس إشارة إلى الشدَّة المتناهية.
[12] وَلَبَجَ: أي صرع
[13] البخاري عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، يُحَدِّثُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ»، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ، قَالَ: «فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: كُنَا نَنْقُلُ الْحِجَارَةَ إِلَى الْبَيْتِ حِينَ بَنَتْ قُرَيْشٌ الْبَيْتَ، وَكَانَ رِجَالٌ يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ، فَكَانُوا يَنْقُلُونَ رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ تَنْقُلُ الشِّيْدَ (الطلاء)، وَكُنْتُ أَنْقُلُ أَنَا وَابْنُ أَخِي، فَكُنَّا نَضَعُ ثِيَابَنَا تَحْتَ الْحِجَارَةِ، فَإِذَا غَشِيَنَا النَّاسُ اتَّزَرْنَا، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدَّامِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَتَأَخَّرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْبَطَحَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجِئْتُ أَسْعَى، وَأَلْقَيْتُ الْحَجَرَيْنِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ فَوْقَهُ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟، فَقَامَ فَأَخَذَ إِزَارَهُ، وَقَالَ: «نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا» قُلْتُ: اكْتُمْهَا النَّاسَ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا مَجْنُونٌ، انظر: البزار: البحر الزخار، 4/ .124
[14] قد يكون بناء قريش للكعبة في هذه المرحلة هو البناء الثامن لها، ومَن سبقهم في البناء الملائكة وآدم وشيث وإبراهيم والعمالقة وجرهم وقصي بن كلاب، وقرَّرت قريش أن تهدم الكعبة ثم تعيد بناءها، ولكن داخلتهم هيبة عظيمة، ولعل بعض المسلمين لا يعطي هذه الرهبة للكعبة بيت الله! وهذه من فضائل قريش، ومن فضائل رعاة الكعبة.
[15] عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، قَالَ: «كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ حِلَقٌ أَمْثَالُ لُجُمِ الْبُهْمِ، يُدْخِلُ الْخَائِفُ فِيهَا يَدَهُ فَلَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ، فَجَاءَ خَائِفٌ لِيُدْخِلَ يَدَهُ، فَاجْتَبَذَهُ رَجُلٌ فَشُلَّتْ يَدُهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّهُ لَأَشَلُّ» انظر: الأزرقي: أخبار مكة، 1/ 249، 250، وقال دهيش: إسناده صحيح، وقال الحاكم: عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، قَالَ: «كُنَّا قُعُودًا يَوْمًا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ تَعَوَّذُ بِالْكَعْبَةِ مِنْ زَوْجِهَا، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَيَبُسَتْ يَدُهُ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّهُ لَأَشَلٌّ» انظر: الحاكم (6083) لم يذكر الحاكم قولًا وسكت عنه الذهبي في التلخيص، وأخبار مكة للأزرقي.
[16] إضافة إلى ذلك كان الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حكيم، وكريم، ومتديِّن، فهو الآن يبرز جانبًا آخر من الأخلاق، وهو التضحية بنفسه من أجل المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار أنهم لا يؤمنون بالبعث ولا يعرفونه، فموته لو مات يعني الفناء وترك الدنيا والملك إلى لا شيء، وهذه مبالغة في التضحية!
[17] لعل في هذا دليل على أن الكعبة بُنِيَت قبل إبراهيم، وقد بناها الملائكة أو آدم، فليس لإبراهيم القدرة على نقل مثل هذه الحجارة، ولم يرد في الأحاديث ما يشير إلى حدوث معجزات في هذا الجانب، ومن الجدير بالذكر أن عبد الله بن الزبير سيجد الحجارة ذاتها عند إعادة بناء الكعبة.
[18] وعند هذه النقط نوضح بعض التفاصيل: أولًا: المال الحرام مختلط بالحلال عند المعظم، وكانوا يشترطون مالًا خالصًا. هذا يجعلني أشعر أن العامل الاقتصادي سيكون صادًّا للكثيرين عن الالتحاق بالإسلام الذي يمنع ما يرونه حرامًا في قرارة أنفسهم، فمنعوا المال المتحصَّل من الربا، والميسر، والبغاء.. ثانيًا: الورع النسبي في البناء، حيث لم يُدَلِّسوا في البناء بمال مشتبه فيه، فقبلوا ببناء الكعبة ناقصة أفضل من بنائها بالحرام.. ثالثًا: هذا الورع لم يكن كاملًا (لذا قلتُ إنه نسبيٌّ)، إنما قادهم الكبر إلى تحريف معيَّن في البناء! وهو تحريف الباب!
[19] عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الجَدْرِ (الجدر: هو في اللغة الجدار) أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ؟ قَالَ: «إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ» قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: «فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ». انظر: البخاري: كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها (1507). ويعرف أيضًا الحجر بحطيم البيت: وسمي الحطيم لأنه مكسور من بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام، أو لازدحام الناس فيه.
[20] أيضًا عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ وَلَوْلاَ حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِى أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّى لأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ». فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ. هذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده مانع من إعادة البناء على الوضع الصحيح إذا توفَّرت الظروف المناسبة.
[21]كان اشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة تمهيد من الله عزوجل للنبوة، وهذا تشريف متبادل: تشريف للكعبة، وتشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، إنما استمر التشريف في التصاعد، وهذا كله تمهيد للنبوة، وفيه الكشف عن مغالطة أهل الكفر للحقائق عندما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إظهار الدعوة، على الرغم من تعظيمهم لقدره، وقد ظهر ذلك بوضوح في مسألة الحجر الأسود، وأيضًا تعد مسألة وضع الرسول للحجر الأسود من تقدير ربِّ العالمين بدخول الرسول صلى الله عليه وسلم أولًا، ثانيًا: اعترافهم بأنه الأمين اتي (لن يحكم بهوى، مع وجود قبيلته في المنافسة).
[22] روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: وَلِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَيَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ الَّذِي أَنْفَسُهُ عَلَى نَفْسِي، فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ فَيَبُولُ! فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَمَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ (كالمرآة من شدَّة لمعانه)، فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ (الطريق الواسع، وفي رواية أنه دخل من باب بني شيبة)، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، «فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». انظر: أحمد (15543). قال الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير هلال بن خباب فمن رجال أصحاب السنن وهو ثقة.
[23] 1- وهذا كان الحائط الأول الشرقي الذي فيه الباب، وكانت بنو عبد مناف بفروعها الخمسة، وزهرة، وهم: بنو هاشم وكبيرها أبو طالب، وبنو المطَّلب وكبيرها عبد يزيد بن هاشم (أبو ركانة)، وبنو ربيعة من بني عبد شمس، وكبيرها عتبة بن ربيعة، وبنو أمية من بني عبد شمس، وكبيرها أبو سفيان بن حرب، وبنو نوفل، وكبيرها المطعم بن عدي، وبنو زهرة، وكبيرها الأسود بن عبد يغوث (عبد يغوث هو أخو آمنة بنت وهب أمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأسود هو ابن خال الرسول صلى الله عليه وسلم)، وهو أحد المستهزئين، وهناك أيضًا أبو وقَّاص، واسمه مالك، وهو أبو سعد بن أبي وقاص، وهناك أيضًا مخرمة بن نوفل راوي القصة، وإن كان أصغر من هؤلاء.
[24] وهذا هو الحائط الثاني الشامي، وهو الذي ناحية الحِجْر الآن: وهم قبائل بنو عبد الدار، وكبيرها على الأغلب عبد الله بن عبد العزى الشهير بأبي طلحة، وله أولاد عدة قتلوا في أحد وهم يحملون راية المشركين، ومن كبرائهم أيضًا النضر بن الحارث، وبنو أسد، وكبيرها الأسود بن المطَّلب (الذي اعترض على عثمان بن الحويرث في شأن تنصير مكة واتْباعها لقيصر، وبنو عدي، وكبيرها على الأغلب نفيل بن عبد العزى، وكانت قريش تتحاكم إليه، وهو جدُّ عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، أو يكون كبيرهم الخطَّاب أبا عمر، وأعتقد المقصود أبو زمعة الأسود، وليس أبا زمعة بن الأسود، والأسود بن المطلب من المستهزئين، وابنه زمعة بن الأسود مات كافرًا في بدر.
[25] أما الحائط الثالث: هو الحائط الغربي الذي عكس الباب، وهم قبائل: بنو سهم، وكبيرها العاص بن وائل، وبنو جمح، وكبيرها أمية بن خلف، وبنو عامر بن لؤي، وكبيرها سهيل بن عمرو.
[26] وكان الحائط الرابع اليماني: وهم قبائل: بنو تيم، وكبيرها على الأغلب عبد الله بن جدعان، أو قنفذ بن عمير بن جدعان، وهو ابن أخي الأول، وبنو مخزوم، وكبيرها أبو حذيفة بن المغيرة (أخو الوليد بن المغيرة).
[27] كان وضع الرسول صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود أمر عجيب: ولا يفوتنا أن ننبِّه إلى الظروف التي جعل الله عز وجل رسوله الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم يضع الحجر الأسود بنفسه، وبيديه دون مساعدة من أحد، في مكانه، هي ظروف عجيبة وتحتاج إلى تحليل، فقد كان تعظيم أهل قريش للحجر أشدَّ من تعظيمهم للأصنام ولهبل، لأنهم لم يختصموا في وضع الأصنام، ولكنهم اختلفوا في وضع الحجر ومن العجيب أنهم قبلوا أن يرفعه محمد صلى الله عليه وسلم مع كونه من بني هاشم، ولم يناقشوا المسألة، مع صغر سنِّه، وكأنهم مخدَّرين لا يدرون ما يفعلون، وهو ما لفت نظر الشيطان!
[28] كان الارتفاع بالبناء لمترين تقريبًا ثم الردم وعمل الباب على هذا الارتفاع.
[29] أي كان الارتفاع بالكعبة إلى تسعة أمتار بدلًا من أربعة ونصف.
[30] المدماك هو الصَّفُّ من الحجارة أو الخشب، وكانت تُبْنى بالتناوب؛ صف من الحجارة وصف من الخشب (المجموع 31 صف)
[31] الأزرقي: أخبار مكة، تحقيق: رشدي الصالح ملحس، دار الأندلس للنشر، بيروت، 1/ 159-166.
[32] «تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن» (8/ 317).
[33] مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (91)
[34] النسائي (11351)، والحاكم (3487)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[35] وكان قد مرَّ برجل من خزاعة يريش نبلًا له فوطئ على سهم منها فخدشه، ثم أومأ جبريل إلى ذلك الخدش بيده فانتقض ومات منه، فأوصى إلى بنيه أن يأخذوا ديته من خزاعة، فأعطت خزاعة ديته. انظر ما سبق ص 196، 242، وابن الأثير: الكامل في التاريخ، 1/ 668، 669، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/ 463.
[36] دعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعمى ويثكل ولده، فجلس في ظل شجرة فجعل جبرائيل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها وبشوكها حتى عمي، وقيل: أومأ إلى عينيه فعمي فشغله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان يوم بدر قتل ابنه زمعة بن الأسود، وقيل: مات وهم يتجهزون لأحد وكان يحرضهم وهو مريض.
[37] الحارث بن عيطل السهمي: هو الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو، وقيل: ابن العيطلة. وقيل: ابن الغيطلة. وقيل: ابن الطلاطلة. وهي أُمُّه، كان يأخذ حجرًا يعبده، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني. وكان يقول: قد غرَّ محمدٌ أصحابه، ووعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر. وفيه نزلت: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]
[38] الأَبْجَل: عِرْق في باطن الذراع، وقيل: هو عرق غليظ في الرِّجل فيما بين العصب والعظم.
[39] الأخمص: باطن القدم الذي يتجافى عن الأرض.
[40] يريش السهم: يُرَكِّب عليه الريش.
[41] سمرة: نوع من شجر الطلح، وقيل: هو من الشَّجَرِ صغار الورق قِصار الشوك.
[42] الماء الأصفر: هو حالة مرضية تسمى اليرقان تمنع الصفراء من بلوغ المعي بسهولة، فتختلط بالدم. انظر: المعجم الوسيط 2/ 1064.
[43] الخرء: العذرة والغائط، وهو ما يطرحه الجهاز الهضمي من فضلات الطعام.
[44] الشبرقة: نبت حجازيٌّ له شوك.
[45] امتلأت: انتفخت وورمت.
[46] الطبراني: المعجم الأوسط (4986)، وأبو نعيم: دلائل النبوة (203)، والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 318، وأبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: دلائل النبوة ص 63، والضياء المقدسي: الأحاديث المختارة 10/ 96، والسهيلي: الروض الأنف 4/ 5 وما بعدها، والكلاعي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء 1/ 241، وقال الذهبي: حديث صحيح.
[47] «شعب الإيمان» (5/ 465 ط الرشد)، وقال د عبد العلي عبد الحميد حامد: إسناده رجاله ثقات.
[48] البيهقي: «شعب الإيمان» (9/ 75 ط الرشد)، وقال الألباني: إسناده حسن. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 1249).
التعليقات
إرسال تعليقك