التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الشورى ركن مهم من أركان الحكم في الإسلام، بل من أركان الحياة الصالحة بشكل عام، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثالًا للشورى في حياته.
الشورى ركن مهم من أركان الحكم في الإسلام، بل من أركان الحياة الصالحة بشكل عام، قال تعالى في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] ووضع الشورى بين الصلاة والزكاة يوحي في قول بعض المفسِّرين بالوجوب، ومن الناحية العقلية فهي توفِّر للمستشار خبرات ضخمة، وترفع عن كاهله المسؤولية الفردية، وتجعل الجميع يتحمَّل نتائج الاختيار.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثالًا للشورى في حياته، وهذا في الواقع صعب، ولكنه كان قادرًا على ذلك، ووجه الصعوبة يكمن في الأمور التالية:
1- غزارة علمه، ودقَّة فهمه قد تسوِّل له الانفراد بالرأي.
2- تعظيم الناس لرأيه، خاصة مع ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على دينه وعلمه.
3- وجوده في أعلى منصب.
كان عمر رضي الله عنه يتعامل بالشورى، ويحثُّ عمَّاله على الشورى أيضًا: فقد قَالَ لأَبِي عُبَيْدٍ: اسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَشْرِكْهُمْ فِي الأَمْرِ، وقال لعتبة بن غزوان: ".. وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ يَمُدَّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَهُوَ ذُو مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَايَدَتِهِ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ وَقَرِّبْهُ"، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ".. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا..".
الاستشارة في اختيار الولاة:
عَن الشَّعْبِيُّ قَالَ: قَالَ عمر: دلَوْني عَلَى رَجُلٌ أستعمله، فذكروا لَهُ جَمَاعَة، فلم يُردْهم، قالْوَا: من تريد؟ قَالَ: من إذا كَانَ أميرهم كَانَ كأَنَّهُ رَجُلٌ منهم، وإذا لَمْ يكن أميرهم كَانَ كأَنَّهُ أميرهم، قالْوَا: مَا نعلمه إِلَّا الربيع بن زياد الحارثي، قَالَ: صدقتم[1].
الاستشارة في القضايا العقلية في حال عدم وضوح نصٍّ في المسألة:
ويعني ذلك أنه قد تكون قضايا تحتمل أن يكون وراءها حكم شرعي خفي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ[2] لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ[3]، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ[4]، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ رضي الله عنه فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ[5] فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ رضي الله عنه: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه -وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ- فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ رضي الله عنه، ثُمَّ انْصَرَفَ[6].
الاستشارة في القضايا غير المألوفة:
ومثل ذلك تقسيم خمس الغنيمة: فقد استشار عمر الناس في تقسيم خمس الغنائم القادمة من العراق عندما أتى فيها بساط طوله ستون ذراعًا في ستين (30 متر x 30 متر) ووزنه جَريب أي مائة كيلو، فأشار علي بن أبي طالب بتقطيعه وتقسيمه ففعل!
الاستشارة في القضايا الفقهية التي تحتمل أكثر من رأي:
عَنْ جَارِيَة بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ السَّوَادَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُحْصُوا؛ فَوَجَدَ الرَّجُلَ يُصِيبُ الاثْنَيْنِ وَالثَّلاثَةَ مِنَ الْفَلاحِينَ، فَشَاوَرَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: دَعْهُمْ يَكُونُوا مَادَّةً لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِم ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما، وَأَرْبَعة وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا[7].
استشارات عمرية عجيبة:
أولًا: استشارة المرأة في أمر الجيش
ثانيًا: يستشير الأحداث:
قال يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ[8]: قَالَ لَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَا وَابْنُ أَخِي وَابْنُ عَمٍّ لِي، وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَحْدَاثٌ نَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ: «لَا تَحْقِرُوا أَنْفُسَكُمْ لِحَدَاثَةِ أَسْنَانِكُمْ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ الْمُعْضِلُ دَعَا الشُّبَّانَ فَاسْتَشَارَهُمْ؛ يَبْتَغِي حِدَّةَ عُقُولِهِمْ»[9].
ثالثًا: استشارة مَنْ لا يطمئن إليهم:
قَالَ عمر لِلْهُرْمُزَانِ: أَمَا إِذَا فُتَّنِي بِنَفْسِكَ فَانْصَحْ لِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ، فَأَمَّنَهُ، فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: نَعَمْ إِنَّ فَارِسَ الْيَوْمَ رَأْسٌ وَجَنَاحَانِ، قَالَ: فَأَيْنَ الرَّأْسُ؟ قَالَ: بِنَهَاوَنْدَ مَعَ بَنْذَاذِقَانَ[10]، فَإِنَّ مَعَهُ أَسَاوِرَةَ[11] كِسْرَى، وَأَهْلَ أَصْفَهَانَ، قَالَ: فَأَيْنَ الْجَنَاحَانِ، فَذَكَرَ الْهُرْمُزَانُ مَكَانًا نَسِيتُهُ، فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: فَاقْطَعِ الْجَنَاحَيْنِ تُوهِنُ الرَّأْسَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، بَلْ أَعْمِدُ إِلَى الرَّأْسِ فَيَقْطَعُهُ اللَّهُ، وَإِذَا قَطَعَهُ اللَّهُ عَنِّي انْفَضَّ عَنِّي الْجَنَاحَانِ..
رابعًا: استشارة من له تاريخ ردَّة، ولكن حسن إسلامه:
كتب عمر إلى النعمان: أما بعد، فإن معك في جندك عمرو بن معدي كرب المذحجي، وطليحة بن خويلد الأسدي، فأحضرهما الناس، وشاورهما في الحرب، ولا تولهما عملًا[12]، وقد كانا كلاهما من المرتدين، بل ادَّعى طليحة النبوة، ولكنهما عادا للإسلام، وحسن إسلامهما، وجاهدا في الفتوح.
آخر أعماله الوصاية العملية بالشورى:
وقد كان ذلك باختياره ستة من كبار الصحابة قبيل موته، وهم يتفاوضون فيما بينهم ليختاروا خليفته في الحكم، روى مسلم عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أَنَّ أَسْتَخْلِفَ، وَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ، وَلَا خِلَافَتَهُ، وَلَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ، فَالْخِلَافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ.."[13].[14].
[1] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1413هـ= 1993م، 4/ 206.
[2] مكان بالشام على مقربة من الجابية جنوب دمشق.
[3] أمراء الأجناد آنذاك هم أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، y.
[4] يحتمل أن المقصود بهم أولئك الذين هاجروا في عام الفتح قبل فتح مكة، أو مسلمة الفتح، أو الذين هاجروا للمدينة بعد الفتح لغرض العلم، أو للجهاد، وليس للفرار بالدين، لكون هذه الهجرة الأخيرة قد توقَّفت بعد فتح مكة. انظر ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، 10/185.
[5] أي مسافر عائد إلى المدينة.
[6] البخاري: كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون (5397)، ومسلم: كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219) واللفظ له.
[7] أبو يوسف: الخراج، المكتبة الأزهرية للتراث، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، سعد حسن محمد، ص47.
[8] يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ من تابع التابعين
[9] الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 3/ 364
[10] وفي روايات أنه الفيرزان، وهو من القادة المشهورين الذين شاركوا قبل ذلك في القادسية.
[11] الأساورة: هم من يجيدون الرمي بالسهام.
[12] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت
الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 4/ 274.
[13] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوم أو بصلا أو كراثا أو نحوها (567).
[14] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عمر رضي الله عنه والشورى
التعليقات
إرسال تعليقك