التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
مع توسع الدولة العثمانية في عهد الفاتح وهذا التوسع خلق حدودًا مع أكثر من خمسة عشر كيانًا، وكانت العلاقة مع هذه الكيانات هو العداء المعلن الصريح.
توسَّعت الدولة العثمانية خلال المائة سنة الأخيرة في البلقان، والأناضول، وكذلك في شمال البحر الأسود؛ في شبه جزيرة القرم وشمالها، وهذا خَلَق لها حدودًا مع أكثر من خمسة عشر كيانًا سياسيًّا؛ ما بين دولٍ وإمبراطوريَّاتٍ كبرى، وإماراتٍ ودوقيَّاتٍ صغرى، وكان القاسم المشترك في طبيعة العلاقة مع كلِّ هذه الكيانات هو العداء المعلن الصريح، الذي كان يتطوَّر في معظم الأحوال إلى صدامٍ عسكريٍّ حقيقي، وكانت معظم هذه الكيانات نصرانيَّة، وهذا قد يُفسِّر طبيعة العلاقة المعادية؛ ولكن يُلاحَظ أيضًا أنَّ العلاقات مع الكيانات المسلمة المجاورة للدولة العثمانيَّة كانت علاقةً متوتِّرةً كذلك، بل وصلت إلى الصدام العسكريِّ في «كلِّ» الأحوال..
ما سرُّ هذه العلاقة العدائيَّة مع جيران الدولة؟!
يرجع ذلك إلى ثلاثة عوامل أساسية، وإن كان لا يمنع أن تكون هناك عواملٌ أخرى مساعدة..
أمَّا العامل الأوَّل: فهو الطبيعة التوسُّعيَّة للدولة العثمانيَّة؛ فالدولة العثمانيَّة ليست دولةً قديمةً ذات حدودٍ معروفة تزيد قليلًا أو تنقص حسب المرحلة؛ إنَّما هي دولةٌ مستحدثةٌ بدأت كإقطاعيَّةٍ صغيرة، تحوَّلت إلى إمارة، ثم إلى دولةٍ صغيرة، فدولةٍ أكبر، وهي الآن على مشارف دخول مرحلة الإمبراطوريَّة، وهذه الطبيعة التوسُّعيَّة تُحْدِث قلقًا كبيرًا لكلِّ الجيران؛ فالدول التاريخيَّة القديمة مثل: إنجلترا، وفرنسا، أو مثل: مصر، والعراق، أو مثل: المجر، أو بولندا، تكون لها حدودٌ تاريخيَّةٌ محدَّدةٌ ومعروفة، وقد يحدث أن تتوسَّع؛ ولكن يكون معروفًا حينئذٍ أنَّها تدخل في حدود دولةٍ أخرى، ولو نقص من حدودها شيءٌ يكون معروفًا كذلك أنَّ هذا جزءٌ مُحْتلٌّ ويحتاج لتحريرٍ من يد المعتدي عليه. لم يكن حال الدولة العثمانيَّة على هذه الصورة؛ بل كانت تتوسَّع دائمًا دون أن يكون هناك مساحةٌ معيَّنةٌ معروفةٌ للدولة الأم، وبالتالي فكلُّ جزءٍ تتوسَّع فيه الدولة يُمكن أن يُعَدُّ مستقبَلًا جزءًا لا يتجزَّأ من الكيان الجديد المتكوَّن؛ فالقسطنطينية مثلًا صارت إسطنبول، ولن يُنْظَر إليها على أنَّها مدينةٌ محتلَّةٌ من دولةٍ أخرى؛ إنَّما صارت جزءًا لا يتجزَّأ من الدولة العثمانيَّة الجديدة، وما قلناه على القسطنطينية ينطبق على المدن الأخرى في الدولة؛ كصوفِيا، وأدرنة، وطرابزون، وغيرها.. بل تختفي الدول الأخرى في داخل الدولة العثمانيَّة فتُصبح مجرَّد ولاية في الدولة التي تتشكَّل الآن، مثل: بلغاريا، أو مقدونيا، أو البوسنة؛ فهذه صارت أجزاءً من الدولة العثمانيَّة، وليست بلادًا محتلَّةً يُمكن أن تطلب التحرير في يومٍ من الأيَّام..
هذه الطبيعة التوسُّعيَّة لدولةٍ ليس لها تاريخٌ قديمٌ جعلت الجميع على وَجَل؛ فأيُّ اجتياحٍ لأيٍّ من هذه الدول المجاورة قد يعني ضياع جزءٍ من الدولة أو الدولة كلِّها إلى الأبد، وهذا لا شَكَّ استثار حماسة دول الجوار لمقاومة نموِّ هذا الكيان الجديد، واستثار عندهم كذلك تكوين تحالفات تُحارب هذه الدولة الناشئة. نعم لم تكن الدولة العثمانيَّة تبدأ الآخرين بالقتال، إنَّما كانت تنتظر فرصة تَعَدٍّ على حدودها، أو سفرائها، فتشنُّ عند ذلك حربًا قد يكون نتيجتها ضمَّ أراضٍ جديدة؛ ولكن دول الجوار لا تستطيع أن تعتمد على هذه الحقيقة، فقد تُغيِّر الدولة من نهجها في أيِّ لحظة، وتبدأ هي في الهجوم على غيرها دون سابق إنذارٍ أو سبب، خاصَّةً أنَّ طبيعة هذا الزمن هي التوسُّع الدائم للدول القويَّة في أراضي الدول المجاورة، وقد ذكر المؤرِّخ الأميركي صاحب الأصول المجريَّة بيتر شوجر Peter Sugar، أنَّه لم يكن هناك أميرٌ في أوروبا في ذلك الوقت لا يسعى للتوسُّع في أراضي غيره طالما سنحت له الفرصة لذلك[1]، فهذا أرعب الدول المجاورة للدولة العثمانيَّة، وعرفت أنَّها -إنْ آجلًا أو عاجلًا- ستكون مجرَّد ولاية في هذه الدولة التي تتضخم بمعدلاتٍ سريعةٍ للغاية.
هذا الشعور العدائي لم يكن خاصًّا بالدولة العثمانيَّة؛ إنَّما هو حادثٌ مع كلِّ الدول التوسُّعيَّة، خاصَّةً إذا كان هذا التوسُّع سريعًا وحاسمًا، مثل ما حدث مع دول چنكيز خان وتيمورلنك في الشرق، وما حدث مع دول نابليون بونابرت وهتلر في الغرب، ولا تنظر الشعوب والحكومات حينئذٍ إلى شرعيَّة أو قانونيَّة الأمر، ولا تُفرِّق بين الدولة العثمانيَّة التي لا تبدأ أحدًا بالقتال، وچنكيز خان الذي يقتحم الممالك والإمارات دون سابق علاقة من أيِّ نوع.. لا تنظر الشعوب أو الحكومات إلى هذا؛ إنَّما تتعامل بنهجٍ واحدٍ مع كلِّ هذه الدول التوسُّعيَّة..
كان هذا أهمَّ العوامل في ظهور عددٍ كبيرٍ من الأعداء حول الدولة العثمانيَّة..
أمَّا العامل الثاني في تكوين الأعداء: فهو قَدَر الدولة العثمانيَّة في نموِّها في أماكن لا تدين بدينها؛ فشرق أوروبا كلُّه نصرانيٌّ تمامًا، ومِنْ ثَمَّ فالصدام العقائدي بين دولةٍ مسلمةٍ تعتمد في منهجها على القرآن والسنة، وبين دولٍ تدين بدينٍ مخالفٍ لا يعترف أصلًا بالدِّين الإسلاميِّ يجعل الدولة العثمانيَّة في توتُّرٍ دائم، خاصَّةً أنَّ الدولة العثمانيَّة ظهرت في مرحلةٍ تاريخيَّةٍ كانت الحروب بين الإسلام والنصرانية على أشدِّها؛ فشرق أوروبا الأرثوذكسي حارب المسلمين منذ زمن رسول الله ﷺ وإلى زمن الدولة العثمانيَّة، ووسط أوروبا وغربها الكاثوليكي حارب المسلمين كثيرًا في كلٍّ من الأندلس، وصقلية، وشمال إفريقيا، وكذلك في الشام ومصر في الحملات الصليبية المشهورة..
إِذَنْ هذا ميراثٌ عدائيٌّ لا فِكَاك منه.. ومهما اجتهدت الدولة العثمانيَّة في حسن معاملة رعاياها النصارى، فإنَّ هذا لن يُزيل هذه القرون من العداء بين المسلمين ونصارى أوروبا، بل ستُصبح الكراهية لها أكبر من كراهية النصارى لأيِّ دولةٍ إسلاميَّةٍ سبقتها؛ أوَّلًا: لأنَّها كراهيةٌ تراكميَّةٌ تجمع بين آلام الماضي والحاضر. ثانيًا: لأنَّ توسُّع الدولة العثمانيَّة يحدث الآن في أراضٍ لم تشهد في تاريخها حكمًا إسلاميًّا، بل كانت معظم الصدامات السابقة تحدث في أراضٍ إسلاميَّةٍ بعيدةٍ عن شرق أوروبا، فهذه جرأةٌ إسلاميَّةٌ غير مسبوقةٍ في مراحل التاريخ الماضية. ثالثًا: لأنَّ الدولة العثمانيَّة كانت تنتقل من نجاحٍ إلى نجاح، فهي إلى زيادةٍ مطَّردةٍ منذ نشأتها، وليست كالدول الإسلاميَّة السابقة التي يُمكن أن تشهد فترة ازدهار يُمكن أن تمتدَّ إلى عدَّة عقود، ثم تخبو بعد ذلك وتنقرض.. لم تكن الدولة العثمانيَّة على هذه الصورة؛ ولكن على العكس فهي إلى زيادةٍ دائمةٍ منذ نشأت حتى زمن محمد الفاتح، وهذا يَقْرُب من مائتي عام، ويبدو من شكل الدولة وطبيعتها أنَّ مستقبلها يحمل توسُّعًا جديدًا، وهذا لا شَكَّ أوْرَثَ كراهيَّتها في قلوب نصارى أوروبا، وهذا يظهر في الحملات الصليبيَّة المتكرِّرة التي كان يشنها دومًا الباباوات على مدار السنين والعقود.
هذا بالنسبة إلى الجيران النصارى..
أمَّا الجيران المسلمون فكان قَدَرُ الدولة العثمانيَّة كذلك أن يكونوا على توتُّرٍ «عقديٍّ» معها!
لقد كان توسُّع الدولة العثمانيَّة في الأناضول يعني أنَّ حدودها الشرقيَّة ستكون مع إيران، ومنذ عهدٍ قديمٍ يمتدُّ إلى القرن الرابع الهجري (الموافق العاشر الميلادي)، فإنَّ إيران تُحْكَم على فتراتٍ متقاربةٍ أو متباعدةٍ بالمذهب الشيعي؛ ففيها كانت الدولة البويهيَّة الاثنا عشريَّة (320 -447هـ= 932-1055م)، وفيها كان الإسماعيلية المتطرِّفون الذين كانوا شوكةً في حَلْقِ السلاجقة والأيوبيين (483-654هـ=1090-1256م)، وكذلك حَكَمَها تيمورلنك الاثنا عشري، ومنها اجتاح الدولة العثمانيَّة في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، وفيها الآن -أي في زمن محمد الفاتح- السلطان أوزون حسن زعيم دولة الآق قوينلو خلفاء تيمورلنك في إيران والعراق، ومذهبهم غير واضحٍ في الحقيقة، فلم أقف على طبيعته، وهل هم سُنَّة أم شيعة، ولو كانوا شيعة فعلى أيِّ مذهبٍ من مذاهبهم، وسيأتي بعد الآق قوينلو الصفويُّون، وهم من الاثني عشريَّة المتطرِّفين جدًّا، وسيكون بينهم وبين العثمانيِّين السُّنَّة صولاتٌ وجولات..
هذا الخلاف العقدي بين العثمانيِّين في الأناضول وبين حُكَّام إيران على اختلاف المراحل، جعل التوتُّر بين الدولتين أمرًا مستمرًّا طوال تاريخ الدولة العثمانيَّة، ولعلَّه إلى الآن.
هذا بالنسبة إلى إيران..
أمَّا بالنسبة إلى الجيران المسلمين الآخرين فهم المماليك في الشام، ولم تكن هذه الدولة الكبيرة -دولة المماليك- في هذه المرحلة التاريخيَّة مجاورةً مباشرةً للدولة العثمانيَّة؛ حيث كانت بينهما إمارتان من الإمارات الحاجزة Buffer state، وهما إمارة ذي القادر، وإمارة بني رمضان، وسيأتي الحديث عنهما بعد قليل عند ذكر الإمارات المجاورة للدولة العثمانيَّة بالتفصيل. المهمُّ في هذا المجال أنْ نذكر أنَّ دولة المماليك مع كونها سُنَّة، وعلى عقيدة الدولة العثمانيَّة نفسها، إلَّا أنَّ التوتُّر بينها والعثمانيِّين كان موجودًا، ولقد ذكرنا قبل ذلك بعض الأسباب لهذا التوتُّر، وسوف يرتفع هذا التوتُّر في الفترة الأخيرة من حياة محمد الفاتح، أي في الفترة التي نحن بصدد دراستها الآن، وسوف يتطوَّر إلى صدامٍ محدودٍ في زمن بايزيد الثاني ابن الفاتح، ثم يُصبح الصدام شاملًا وعنيفًا في أيَّام سليم الأول لاحقًا..
كان هذا هو العامل الثاني من عوامل خَلْقِ الأعداء حول الدولة العثمانيَّة؛ فهم جميعًا -باستثناء دولة المماليك- على خلافٍ عقديٍّ مع الدولة العثمانيَّة.
أمَّا العامل الثالث والأخير في تحليلنا: فهو طبيعة العرق التركي بشكلٍ عامٍّ؛ فهذا العرق له خصائص كثيرة واحدة تسري فيه من جيلٍ إلى جيل، ومن فرعٍ إلى فرع، ويتَّصف بها عامَّة المنتمين له سواءٌ أكانوا من الحكَّام أم المحكومين، وسواءٌ أكانوا من العلماء أم عامَّة الناس، وسواءٌ أكانوا من الأغنياء الأثرياء أم من الفقراء البسطاء.. هذه الخصائص منها الحميد ومنها غير ذلك، كأيِّ طائفةٍ من البشر، ويأتي الدين وعوامل التربية لتُهذِّب من هذه الخصائص فتوظِّفها في الاتِّجاه السليم، ولا تلغيها البتَّة، وفي حالة غياب التربية السليمة فإنَّ هذه الخصائص تتغلَّب في الاتجاه المعاكس لتكون لها آثارٌ سلبيَّةٌ على الدولة والمجتمع.. هذا يحدث مع كلِّ الشعوب..
من هذه الخصائص المميِّزة لهذا العرق التركي خصِّيصةُ الاعتزاز الشديد بالنفس، والتوقير الكامل لكلِّ ما هو تركي؛ فهذه الخصِّيصة -في ظلِّ التربية العقائديَّة السليمة- تقود إلى عزَّة، ورفضٍ للظلم، ونخوةٍ تنصر الضعفاء، وتضحيةٍ من أجل المبادئ والقيم، وجهادٍ شريفٍ وطويلٍ لا يهتزُّ ولا يتنازل، أمَّا في غياب العامل الديني فإنَّ هذا الاعتزاز بالنَّفْس يتحوَّل إلى كِبْر، وغرور، واستعلاءٍ غير مناسب، وتقليلٍ من شأن الأعراق الأخرى، ورفض الآراء الأخرى، وهذا كلُّه يقود إلى الفشل في إقامة علاقاتٍ ناجحةٍ سويَّةٍ مع العنصريَّات الأخرى غير العنصريَّة التركيَّة..
هذه الخصِّيصة موجودةٌ في كلِّ العرق التركي على مدار العصور، وهي أحد الأمور -فيما أرى- التي أدَّت إلى ضعف الدبلوماسيَّة التركيَّة على مدار القرون المختلفة؛ حيث لا تستطيع الشخصيَّة التركيَّة أن تتعامل مع شخصيَّات العناصر الأخرى على أنَّهم أصدقاء؛ ولكن يكون التعامل على أساس قائدٍ ومقود، أو سيِّدٍ وتابع، أو كبيرٍ وصغير.. ينجو من هذه النظرة بعض القادة والزعماء، ومنهم محمد الفاتح؛ وذلك لعمق فهمه للدين، فهذَّب خُلُقَه، ووجَّه طبيعته للعمل الصالح بدلًا من التكبُّر على الناس، لكن سقط في هذه النظرة كثيرون، وهذا خَلَق للدولة العثمانيَّة أعداءً لاحصر لهم، سواءٌ أكانوا من غير المسلمين أم من المسلمين أنفسهم، كما أفقدت هذه النظرة الدولة العثمانيَّة المرونة المطلوبة عند التَّحاور والتَّفاوض، وهذا أدَّى إلى توتُّرٍ مستمرٍّ مع الجيران بشكلٍ عامٍّ..
ليست هذه قسوةً في الحكم على عرقٍ كاملٍ كبيرٍ كالعرق التركي؛ بل هي قراءةٌ للتاريخ الطويل للدولة، وقراءةٌ كذلك لدول الأتراك التي قامت في التاريخ، وهي محاولةٌ لفهم طبيعة العلاقة بين دول الأتراك والدول التي عاصرتها، ومحاولةٌ لفهم أسباب سقوط الدولة التركيَّة بعد ذلك، وكلُّ هذا لا يقدح في تاريخ الدولة العثمانيَّة ككل؛ فإنَّنا ذكرنا أنَّ بعض القادة والزعماء وكبار الشخصيَّات قد تجنَّبوا هذه الروح الاستعلائيَّة، كما أنَّ الشعوب يُميِّزها شيءٌ إيجابيٌّ وآخر سلبي، فإن كانت هذه بعض سلبيَّات العنصر التركي، فإنَّ لهم إيجابيَّاتٍ كثيرةً؛ كحبِّ الدين، والقدرة على التَّضحية، والصبر على الشدائد، والحكمة في الموازنة بين الأمور، وحبِّ النظام والالتزام به، والصدق في الوعد والعهد، وغير ذلك من إيجابيَّاتٍ يفخر بها الأتراك، وهي واقعةٌ في تاريخهم وواقعهم..
كانت هذه العوامل الثلاثة -إلى جوار عوامل أخرى لا شك- سببًا في خلق بيئةٍ عدائيَّةٍ حول الدولة العثمانيَّة من كلِّ جانب، وكلَّما ازدادت الدولة في الحجم والقوَّة ستزداد هذه البيئة عدوانيَّة، وهو ما سنراه في المرحلة المقبلة من عمر الدولة.. أمَّا الآن -في عام 1477م- فإنَّنا يُمكن أن نُحصي أعداء الدولة العثمانيَّة على النَّحْو التالي:
أولًا: أعداء الجبهة الشماليَّة:
مع أنَّ هذه الجبهة كانت أعنف الجبهات في عامي 1475م، 1476م، فإنَّها هدأت في عام 1477م نتيجة التطوُّرات التي فصَّلنا فيها في هذه المرحلة، وأعداء هذه الجبهة هم:
1. أمير البغدان المنشق استيفين الثالث، وكان في هذا التوقيت يُسيطر على البغدان، ولا يدفع الجزية بطبيعة الحال، ويُعطي ولاءه لملكي المجر وبولندا، وقد استعاد السيطرة على ميناء أكرمان الذي أخذه العثمانيُّون لفترةٍ وجيزة، وهكذا صارت البغدان كلُّها في هذه المرحلة خارجةً عن السيطرة العثمانيَّة، وكان استيفين الثالث مستمرًّا في محاولة جمع الأنصار لإعادة الكَرَّة على الدولة العثمانيَّة؛ لكن يبدو أنَّ هزيمة معركة الوادي الأبيض قلَّلت من فرص نجاحه؛ ولذلك هدأت جبهته بشكلٍ كبير، ومع أنَّه حاول تغيير الوضع في الإفلاق بدعم حليفٍ له، هو باساراب الرابع الملقَّب بالمخوزق الأصغر، فإنَّ هذا الأخير بدَّل الولاء، وتعاون مع السلطان محمد الفاتح، ممَّا دفع الأمور إلى الهدوء بشكلٍ أكبر.
2. ملك المجر ماتياس، وهو عدوٌّ قديم، ومع أنَّه كان قد رضي -بعد انتصار أبيه في موقعة بلجراد عام (860هـ= 1456م) على العثمانيِّين- بالكفِّ عن صدامٍ جديدٍ مع الدولة العثمانيَّة، فإنَّ الأمور تصاعدت مرَّةً أخرى عندما فتح العثمانيُّون البوسنة عام (867هـ= 1463م)، ممَّا دعا الملك ماتياس إلى غزو البوسنة من شمالها، واستخلاص جزءٍ منها أقام عليه ولاية يايسي Jajce، ثم عادت الأمور إلى الهدوء بين الدولتين، حتى تجدَّدت الاحتكاكات نتيجة دعم ماتياس لاستيفين الثالث، ثم لدراكولا الثالث، وأخيرًا باجتياح سمندرية عام 1476م، ومع ذلك فإنَّ انتصار الفاتح عليه في سمندرية، ثم قيام الفاتح بحملاتٍ عسكريَّةٍ قويَّةٍ في كرواتيا التَّابعة لماتياس، دَفَع الملك المجري إلى التحلِّي بالحكمة والهدوء من جديد، ومِنْ ثَمَّ سكنت هذه الجبهة، على الأقل بشكلٍ مؤقَّت.
3. ملك بولندا كازيمير الرابع، وهو عدوٌّ لا يُعلن العداء بشكلٍ مباشر؛ إنَّما يدعم استيفين الثالث في البغدان بين الحين والآخر، ويُقْسِم له استيفين الثالث بالولاء كلَّ فترة، ومع ذلك فكازيمير الرابع كان منشغلًا بهمومه الأوروبيَّة في شمال دولته وشرقها، ممَّا دفعه إلى الرغبة في عدم استثارة الدولة العثمانيَّة، كي لا يفتح جبهات جديدة على نفسه؛ ولذلك رفض -كما مرَّ بنا- مرور القبيلة الذهبيَّة من أرضه لضرب الدولة العثمانيَّة، وهذا السلوك كان يُطمئن الفاتح من جانب هذه الدولة على خطورتها وقوَّتها.
4. أمير الإفلاق باساراب الرابع المخوزق الأصغر، وهو وإنْ كان مواليًا الآن للفاتح إلَّا أنَّ الذي وضعه على عرش الإفلاق هو استيفين الثالث نفسه، ولا يُستَبْعَد أبدًا أن يُعيد تغيير ولائه مرَّةً أخرى لصالح استيفين الثالث، أو لصالح ملك المجر، إذا اقتضت المصلحة ذلك، وعليه فإنَّ الفاتح، وإن كان مستريحًا للوضع الجديد في الإفلاق، إلَّا أنَّ هذا الوضع غير مطمئنٍ بشكلٍ عامٍّ.
إِذَنْ برؤية الوضعيَّة التي كان عليها هؤلاء الأعداء في هذه المرحلة -أعني عام 1477م- يُمكن القول: إنَّ الجبهة الشمالية هادئةٌ إلى حدٍّ ما، وليس هناك اضطرارٌ لعملٍ عسكريٍّ كبيرٍ فيها، مع الأخذ في الاعتبار طبعًا أنَّ السلطان الفاتح كان يَعُدُّ البغدان جزءًا منشقًّا عن دولته، ويحتاج إلى إعادة ضمٍّ عندما تحين الفرصة المناسبة.
ثانيًا: أعداء الجبهة الشرقيَّة:
كان الأعداء في هذه الجبهة متنوِّعين جدًّا من حيث العقيدة، وأيديولوجية التفكير، ولهذا لم تكن هناك فرصةٌ كبيرةٌ لتعاونهم سويًّا ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ممَّا أسهم في تقليل فرص نجاحهم جميعًا؛ ولذلك شهدت هذه الجبهة هدوءًا هي الأخرى في هذا التوقيت -أعني عام 1477م- وهذه الجبهة كانت تضمُّ هؤلاء الأعداء:
1. سلطان دولة الآق قوينلو أوزون حسن: ومرَّ بنا ما حدث من صدامٍ كبيرٍ بينه وبين العثمانيِّين عام (879هـ= 1473م) وقَبْلِه؛ لكن كان من الواضح أنَّه انكسر في هذا الصدام انكسارًا لا يَصْلُح معه قيام، وزاد من إضعاف أمره قيام صراعٍ داخليٍّ في الدولة[2][3]، فشُغِلُوا في أنفسهم، وهدأت جبهتهم.
2. زعيم القبيلة الذهبيَّة الخان أحمد كتشوك Ahmed Khan bin Küchük: وعلى الرغم من كونه مسلمًا، وعلى الرغم من التاريخ الطويل للقبيلة الذهبيَّة في حرب النصارى في روسيا وشرق أوروبا، فإنَّه في هذه المرحلة التاريخيَّة -وهي مرحلة احتضار القبيلة ونهاية دولتها- كان الخان أحمد يتعاون مع أيِّ قوَّةٍ ممكنةٍ ليضمن بقاءه واستمرار حكمه، ومن ذلك أنَّه كان متعاونًا مع استيفين الثالث وملك المجر ضدَّ الدولة العثمانيَّة، خاصَّةً أنَّ تتار القرم الذين صاروا موالين للعثمانيِّين كانوا منشقِّين عن القبيلة الذهبيَّة، وهذا لا شَكَّ أوغر صدر الخان أحمد ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ومع ذلك فالقبيلة الذهبيَّة في هذه المرحلة كانت ضعيفةً بدرجةٍ كبيرة، بالإضافة إلى وجود خلافاتٍ حادَّةٍ بينها وإمارة روسيا الناشئة[4]، ممَّا جعلها لا تُمثِّل خطرًا كبيرًا على العثمانيِّين.
3. أمير موسكو إيڤان الثالث Ivan III: والذي يسعى لتجميع إمارات روسيا تحت قيادةٍ واحدة، وهو عدوٌّ خطرٌ للغاية، ليس لأنَّه صاحب أحلامٍ توسُّعيَّةٍ فقط؛ ولكن لأنَّ أهدافه البعيدة لم تكن في تجميع روسيا فقط، بل غزو الدولة العثمانيَّة وامتلاك القسطنطينية، وحجَّته في ذلك أنَّ روسيا هي حامية الأرثوذكسية في العالم بعد سقوط الدولة البيزنطيَّة، بالإضافة إلى أنَّه متزوِّجٌ صوفيا بالايولوجينا Sophia Palaiologina، ابنة تُوماس بالايولوجوس Thomas Palaiologos حاكم المورة اليونانيَّة السابق، وأخي الإمبراطور الأخير قُسطنطين الحادي عشر إمبراطور الدولة البيزنطيَّة، ومِنْ ثَمَّ فإيڤان الثالث سيُطالب بأملاك الدولة البيزنطيَّة باعتباره زوج وريثة الإمبراطوريَّة[5].
ومع هذه الخطورة إلَّا أنَّه لم يكن مزعجًا للدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت -أعني عام 1477م- لأنَّه كان منشغلًا للغاية في حربه مع جمهوريَّة نوڤجورود Republic of Novgorod، وهذه الجمهورية تُمثِّل مع موسكو أهمَّ قطاعين في الأراضي الروسيَّة، وكان إيڤان الثالث قد بدأ معها حربًا بغية توحيدها مع موسكو منذ عام 1470م، وكان عام 1477م قد شَهِد تصعيدًا كبيرًا في الحرب، التي ستنتهي في عام 1478م بتوحيد القطاعين موسكو ونوڤجورود، تحت قيادة إيڤان الثالث، ولم تكن هذه الحرب خافيةً عن عين الفاتح والدولة العثمانيَّة؛ فقد كانت حربًا مؤثِّرةً للغاية، وكادت بولندا أن تدخل فيها[6]، وتُعَدُّ هذه الحرب هي الحدث المباشر الذي وُلِدَت بعده إمارة روسيا لتظهر في التاريخ كقوَّةٍ ذات تأثير[7].
هذا كلُّه يعني أنَّ جبهة روسيا في هذه الأثناء كانت لا تُمثِّل خطورةً آنيَّةً على الدولة العثمانيَّة، وإن كانت ستُصبح لاحقًا أهمَّ الجبهات قاطبة.
4. ملك چورچيا باجرات السادس Bagrat VI: وكان يحكم چورچيا بدايةً من عام 1465م[8]، وفي عهده كان اضمحلال مملكة چورچيا، وكان ممَّا أسهم في اضمحلالها سيطرةُ العثمانيِّين على سواحل شبه جزيرة القرم، وامتلاكهم كلَّ مستعمرات جمهوريَّة چنوة، فأدَّى هذا إلى اضمحلال چورچيا بشكلٍ كبيرٍ لاعتمادها على التجَّار الچنويِّين في التواصل مع الغرب الأوروبي. في هذه الوضعيَّة لم تكن هناك خطورةٌ تُذْكَر لچورچيا على الدولة العثمانيَّة، وإن كان هناك خطرٌ محتملٌ في المستقبل، ليس لقوَّة چورچيا؛ وإنَّما لأنَّها ستكون مطمعًا لأكثر من قوَّةٍ عالميَّةٍ آنذاك.
أمَّا القوى التي كانت تنتظر الفرصة للسيطرة على چورچيا فتشمل إمارة روسيا الناشئة التي تُريد لها مخرجًا على البحر الأسود، والبندقية وأوروبا الغربيَّة؛ التي تطمع أن يكون لها موضع قدمٍ في هذه المنطقة الشرقيَّة لأهميَّتها التجاريَّة والاستراتيجيَّة، ثم مملكة الآق قوينلو؛ التي كانت قد قامت بالفعل بأكثر من عمليَّة غزوٍ لچورچيا[9]، وأي من هؤلاء الطامحين يُمثِّل خطورةً على الدولة العثمانيَّة؛ لكنَّها ليست خطورةً آنيَّة؛ إمَّا لضعفهم الحالي، أو لانشغالهم بأحداثٍ أخرى أكبر..
خلاصة التحليل في هذه الجزئيَّة أنَّ الجبهة الشرقيَّة هي الأخرى كانت في عام 1477م -كالجبهة الشمالية- تشهد هدوءًا مريحًا يُمكن أن يُعطي الدولة العثمانيَّة فرصةً لالتقاط الأنفاس.
ثالثًا: أعداء الجبهة الجنوبيَّة:
يُمكن تقسيم الجبهة الجنوبيَّة للدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت (أواخر القرن الخامس عشر) إلى قسمين: بحري وبري؛ أمَّا البحري: فيشمل بحر إيجة، والبحر الأبيض المتوسط، وكذلك البحر الأيوني. وأمَّا البري: فيشمل جنوب شرق الأناضول وبه بعض الإمارات التركمانيَّة، وهو يتَّصل بشمال الشام التابع لدولة المماليك.
أما الجبهة الجنوبيَّة البحريَّة فيُعَدُّ أهم أعدائها هي جمهوريَّة البندقية، ولكنَّنا سنفرد الحديث عنها عند ذكر أعداء الجبهة الغربيَّة على أساس أنَّ الجمهوريَّة الأم تقع غرب الدولة العثمانيَّة في إيطاليا، وعمومًا فإنَّ هذه الجبهة البحريَّة كانت هادئةً إلى حدٍّ كبير؛ وذلك بعد تمكُّن العثمانيِّين من السيطرة على جزيرة نيجروبونتي عام 1470م، فهذا النصر الحاسم بالإضافة إلى نموِّ الأسطول العثماني، أدَّى إلى سكون هذه الجبهة بشكلٍ عامٍّ، ولم تشهد حركةً نصرانيَّة منذ عام 1470م إلَّا مرَّةً واحدةً في عام 1473م، عندما حاولت الأساطيل الغربيَّة مساعدة أوزون حسن على حربه للسلطان محمد الفاتح، ولكنَّها فشلت في ذلك، ولم تُحقِّق شيئًا يُذكر.
ويُمكن حصر أعداء الجبهة الجنوبيَّة البحريَّة -إذا استثنينا البندقية- في القوى الآتية:
1. أمير فرسان الإسبتارية Knights Hospitaller أو فرسان القديس يوحنا Knights of Saint John بيير دي أوبسون Pierre d'Aubusson، وهؤلاء الفرسان هم حكَّام جزيرة رودس، ولهم عداءٌ طويلٌ مع المسلمين بشكلٍ عامٍّ، وكانوا يُهدِّدون الدولة العثمانيَّة بشكلٍ خاصٍّ لقربها منهم؛ حيث كانت رودس تعتمد في اقتصادها بشكلٍ أساسيٍّ على عمليَّات القرصنة البحريَّة، وكانت تحصينات الجزيرة تُعَدُّ من أقوى تحصينات القرون الوسطى[10]، وسيأتي الحديث عنها لاحقًا في أحداث عام 1480م، وكان الأمير بيير دي أوبسون -وهو من أصول فرنسيَّة- من أكثر الأمراء حرصًا على مواجهة الدولة العثمانيَّة وضرب مصالحها، وقد أخذ على عاتقه منذ ولايته عام 1476م زيادة قوَّة تحصينات الجزيرة استعدادًا لهجومٍ عثمانيٍّ مرتقب[11]، وعلى هذا فيُعَدُّ هذا الأمير وهذه الجزيرة، مِنْ ألدِّ أعداء الفاتح رحمه الله في هذه المرحلة.
2. دوق دوقيَّة ناكسوس Naxos چياكومو الثالث الكرسبي Giacomo III Crispo، ودوقيَّة ناكسوس هي الدوقيَّة التي تحتلُّ عددًا كبيرًا من جزر بحر إيجة تُعْرَف بجزر السيكلادس The Cyclades، وچياكومو ينتمي إلى عائلة كرسبو Crispo، وهي عائلة من جمهوريَّة البندقية؛ ولكنَّها غير تابعة للجمهورية، ومع ذلك، فكما هو متوقَّع، فإنَّها كانت متعاونة مع البندقية في حربها الكبرى ضدَّ الدولة العثمانيَّة[12]، التي بدأت -كما مرَّ بنا- عام (867هـ= 1463م). لم تكن قوَّة هذه الدوقيَّة كبيرة، ومع ذلك فغزوها كان صعبًا؛ لأنَّ عدد الجزر التي تُسيطر عليها كبيرٌ للغاية (حوالي 220 جزيرة)، ممَّا يجعلها نقطة تحدٍّ للدولة العثمانيَّة.
3. ملكة قبرص كاثرين كورنارو Catherine Cornaro، وعلى الرغم من ضعف هذه المملكة النصرانية في ذلك الوقت فإنَّها كانت تُمثِّل خطورةً على الدولة العثمانيَّة لعدَّة أسباب؛ منها الموقع الاستراتيجي الذي يمنع الأساطيل العثمانيَّة من السير آمنة في البحر الأبيض المتوسط، ومنها أنَّ هذه الملكة كانت من أصولٍ بندقيَّة من ناحية أبيها، بل إنَّها حفيدة أحد رؤساء جمهوريَّة البندقية، وأيضًا لها علاقة بالبندقيَّة من ناحية الأم؛ فجدُّها لأمِّها هو نيكولاس كرسبو Nicholas Crispo، دوق دوقيَّة ناكسوس الأسبق[13]، وهكذا فالملكة كاثرين يهمُّها أمر البندقية بشكلٍ كبير، فضلًا عن أنَّ قبرص كانت تُدار في ذلك الوقت بالتجَّار البنادقة. يُضاف إلى أسباب خطورة قبرص أنَّها في تاريخها القريب اشتركت في الحرب الصليبيَّة ضدَّ الدولة العثمانيَّة عام 1472م، وهي الحرب التي دعا إليها البابا سيكستوس الرابع (Pope Sixtus IV) مستغلًّا حرب أوزون حسن مع السلطان محمد الفاتح[14]، والجدير بالذكر أنَّ مملكة قبرص كانت تدفع الجزية بشكلٍ مستمرٍّ لدولة المماليك المصريَّة منذ عام (829هـ= 1426م)[15]، ومع ذلك فلم تنقل الكتب اعتراضًا من دولة المماليك على اشتراك قبرص في الحملة الصليبيَّة على الدولة العثمانيَّة في عام 1472م، وقد يكون هذا السكوت من المماليك نتيجة التوتُّر الحادث بين المماليك والعثمانيِّين، الذي سنتناول جذوره بعد قليلٍ بإذن الله. وعمومًا فإنَّ جبهة قبرص لم تكن مرعبة للدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت على الرغم من خطورتها؛ وذلك لضعفها من ناحية، ولانشغال البندقية بنفسها في حربها مع العثمانيِّين، وبالتالي لا تتوفَّر لقبرص الحماية الكافية، ممَّا يجعل خطواتها محسوبة، ومن المستبعد أن تُقْدِم على هجومٍ على الدولة العثمانيَّة.
4. شركة معونة خيوس الچنويَّة: وهي شركة تابعة لجمهورية چنوة، وكانت تحكم جزيرة خيوس Chios، وكان لها أسطولٌ حربيٌّ يحمي أملاكها؛ ولكنَّها لم تكن بالقوَّة التي تُمثِّل خطرًا على الدولة العثمانيَّة[16]. ويُستخلص من تحليل أعداء الجبهة الجنوبيَّة أنهم جميعًا -باستثناء فرسان القديس يوحنا- مرتبطون بالبندقيَّة، التي تمتلك بدورها عدَّة ثغورٍ وجزرٍ في المنطقة، وعليه فإنَّ أخطر هؤلاء الأعداء هم البنادقة، ويأتي بعدهم فرسان القديس يوحنا، وسنأتي لتحليل موقف البندقية عند الحديث عن أعداء الجبهة الغربيَّة للدولة العثمانيَّة.
هذا كلُّه تحليلٌ لأعداء الجبهة الجنوبيَّة من ناحية البحر، أمَّا الحدود الجنوبيَّة الشرقيَّة للدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح فكانت برِّيَّة، وهي إمارتان تركمانيَّتان؛ هما إمارة ذي القادر، وإمارة بني رمضان، وهي إماراتٌ تفصل الدولة العثمانيَّة عن دولة المماليك في الشام، وكانت دولًا حاجزة بين الدول الكبرى Buffer states، وبسبب هاتين الإمارتين وكذلك إمارة قرمان، توتَّرت العلاقة بين المماليك والعثمانيِّين، وهذا يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل.
بعد سقوط دولة سلاجقة الروم انقسم الأناضول إلى عدَّة إمارات منفصلة، وكانت كلُّ إمارةٍ تبحث عن أحد الأقوياء في المنطقة الذي يُمكن أن تُعطي له الولاء، في مقابل أن يقوم هذا القويُّ بحمايتها، واختارت ثلاث إماراتٍ من هذه الإمارات الجديدة أن يكون ولاؤها للمماليك؛ وهي إمارات: قرمان، وذو القادر، وبنو رمضان. وهي الإمارات الواقعة في الجنوب الشرقي من الأناضول، ويرجع اختيارها للمماليك إلى الوضع الجغرافي أوَّلًا؛ لأنَّ المماليك كانوا يُسيطرون على الشام كلِّه وأجزاء من جنوب شرق الأناضول، وبالتالي فهم قريبون جدًّا من حدود هذه الإمارات الثلاثة، كما يرجع اختيارهم للمماليك إلى الظروف التاريخيَّة التي نشأت فيها كلُّ إمارة؛ حيث كان المماليك موجودين بالأناضول لعمليَّاتٍ عسكريَّةٍ خاصَّةٍ بهم، بل إنَّ إمارة ذي القادر كانت هبةً من المماليك لمؤسِّس الإمارة زين الدين بن قراجا نتيجة حسْن بلائه في معركة من معارك المماليك[17][18].
هذه الإمارات الثلاثة كانت إمارات تركمانيَّة، بمعنى أنَّ أهلها كلَّهم من الأتراك، ولكنَّهم ليسوا من العثمانيِّين، بل على العكس، كانت لهذه الإمارات نظرات توجُّسٍ من ناحية الدولة العثمانيَّة؛ نظرًا إلى نموِّ الأخيرة بمعدَّلاتٍ سريعة، خاصَّةً إمارة قرمان أقوى إمارات الأناضول قبل ظهور العثمانيِّين.
كانت العلاقات بين العثمانيِّين والمماليك قليلةً وهادئة خلال القرن الأوَّل من نشأة الدولة العثمانيَّة، ولكن توتَّرت العلاقات فجأة في زمن بايزيد الأول الشهير بالصاعقة، وكان سبب التوتُّر هو طموح بايزيد الصاعقة في التوسُّع في الأناضول على حساب الإمارات الأخرى، غير آبهٍ بولاء هذه الإمارات لدولٍ كبرى مثل دولة المماليك.
نتج عن هذه الرغبة التوسُّعيَّة ضمُّ إمارة قرمان إلى الدولة العثمانيَّة في عام 1397م، ثم اجتياح إمارة ذي القادر وضمُّ عددٍ كبيرٍ من مدنها إلى العثمانيِّين في 1398م، ومِنْ ثَمَّ أعلنت الإمارة ولاءها للدولة العثمانيَّة عام 1399م، بل فعل بايزيد الصاعقة ما هو أكثر من ذلك؛ إذ ضمَّ مدينة ملطية للدولة العثمانيَّة، وهي المدينة التي تُدار بشكلٍ مباشرٍ بالمماليك؛ أي أنَّه تعدَّى على حدود الدولة ذاتها وليس فقط على حدود الإمارات الموالية لها[19].
والواقع أنَّني أرى أنَّه مهما كانت مسوِّغات بايزيد الصاعقة لهذه الإجراءات فإنَّها غير مقنعة؛ حيث أدَّت هذه العمليَّات الجبرية إلى إحداث شرخٍ بين الدولتين لا يُصْلَح مع مرور الزمن، وأكثر من هذا أنَّ هذه العمليَّات أكَّدت المخاوف التي لدى المماليك من نموِّ العثمانيِّين، وأنَّ المستقبل قد يحمل هجومًا عثمانيًّا صريحًا على دولة المماليك ذاتها في الشام ومصر، وليس في الأناضول فقط، ولعلَّ هذه الأحداث جعلت المماليك يستدعون قول سلطانهم الأسبق الظاهر برقوق، الذي قال فيه عندما سأله الناس عن مخاوفه من الزعيم التتري الخطر تيمورلنك: «لا أخاف من اللنك، فإنَّ كلَّ أحدٍ يُساعدني عليه، وإنَّما أخاف عثمان»، وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله أنَّه سمع ابن خلدون مرارًا يقول: «ما يُخشى على مُلْكِ مصر إلَّا من ابن عثمان»[20].
ومع هذا التوتُّر الذي حدث في أخريات القرن الرابع عشر الميلادي، إلَّا أنَّ الله أراد هدوءًا بين الدولة العثمانيَّة والمماليك لمدَّة نصف قرنٍ كاملٍ بعد ذلك، وذلك رغمًا عن إرادة الطرفين! والسبب أنَّ هجمة تيمورلنك على الدولة العثمانيَّة عام (804هـ= 1402م) أدَّت إلى انهيارها انهيارًا شبه كامل، وبالتالي خرجت الإمارات الأناضوليَّة من تبعيَّتها، وعادت مواليةً للمماليك بشكلٍ تلقائي، ثم لمـَّا استعادت الدولة العثمانيَّة عافيتها في زمن السلطان محمد چلبي بن بايزيد الصاعقة، لم يشأ هذا السلطان الحكيم أن يُعيد تجديد المشكلات التي أحدثها أبوه قبل ذلك، فأقام علاقات ودٍّ مع هذه الإمارات، وكانت طريقة المصاهرة هي أحد أنجح طرق التواصل في هذا الزمن؛ فتزوَّج محمد چلبي ابنة الأمير سولي بك أمير ذي القادر، وعلى الطريق نفسه سار السلطان مراد الثاني بن محمد چلبي؛ فزوَّج خمسة من كبار رجال دولته لخمس بنات من إمارة ذي القادر، وكانت أهم هذه الزيجات هي زواج محمد الفاتح من ست شاه مكرمة خاتون Sitti Şah Hatun (Mükerreme) ابنة سليمان بك أمير ذي القادر، وكان هذا الزواج قبيل وفاة مراد الثاني بقليل، أي في بدايات عام (855هـ= 1451م)، وبعدها صار محمد الفاتح سلطانَ الدولة العثمانيَّة[21].
في النصف الأوَّل من عهد الفاتح كانت العلاقات على هدوئها السابق بين الدولتين، بل أظهر المماليك الفرح بفتح القسطنطينية كما مرَّ بنا، وإن كان علوُّ نجم العثمانيِّين أثار مخاوف المماليك من جديد، وقد ظهر ذلك في غضب سلطان المماليك خشقدم من طريقة رسول الفاتح في تقديم التحيَّة له؛ حيث لم يتحدَّث على النحو الذي اعتاده من التوقير المبالغ فيه، كما لم تأتِ رسالةُ الفاتح مكتوبةً بالطريقة التي يُخاطَب بها السلاطين المماليك، وكان ذلك في عام (868هـ= 1463م)، وكان هذا بداية توتُّرٍ يسيرٍ بين الدولتين ما لبث أن ازداد[22]، ومع ذلك فقد مرَّت هذه الأزمة الصغيرة بسلام، وتجاوزت الدولتان الحدث، لكن حدث تفاقمٌ كبيرٌ في العلاقات بعد ذلك بعامين، وتحديدًا في (ربيع الأوَّل عام 870هـ الموافق نوفمبر 1465م)، وذلك عندما قُتِل ملك أرسلان أمير ذي القادر[23]، (ويُكتب في بعض المصادر: ملك أصلان) في مدينة البستان Elbistan، عاصمة إمارته، وهي مدينة الأبلستين نفسها كما ورد في بعض المصادر، وكان رسوله في القاهرة آنذاك يطلب من المماليك نجدةً لحرب السلطان أوزون حسن الذي احتلَّ مدينة خربوت[24] (الآن اسمها معمورة العزيز Elazığ)؛ حيث خلا منصب أمير الإمارة، فتطلَّعت الدولتان، المملوكيَّة والعثمانية، لتعيين خَلَفٍ للأمير المقتول، وكانت كلُّ دولةٍ ترغب في أن يكون الأمير الجديد مواليًا لها.
والحقيقة أنَّني أرى أنَّ هذا الموقف هو من أكبر أخطاء الفاتح في كلِّ قصَّته! بل أكبر من ذلك ما حدث من تداعيات نتيجة هذا الموقف، وقبول الفاتح بهذه التداعيات!
فالذي حدث هو أنَّ سلطان المماليك خشقدم اختار أحد إخوة الأمير المقتول ملك أرسلان -وهو الأمير شاه بوداق- لولاية إمارة ذي القادر خلفًا لأخيه، واختيار سلطان المماليك لأمير ذي القادر أمرٌ طبيعي؛ لأنَّ الإمارة تابعةٌ للمماليك منذ نشأتها، بل كانت الإمارة كلُّها هديَّة من سلطان المماليك لمؤسِّس الإمارة كما بيَّنَّا، ولم تنتقل إلى تبعيَّة العثمانيِّين إلَّا ثلاث سنوات فقط من عام 1399م إلى عام 1402م، ثم عادت إلى تبعيَّة المماليك بعد كارثة أنقرة (804هـ= 1402م)، ولهذا فإنَّ تعيين أمرائها يعود بشكلٍ تلقائيٍّ لدولة المماليك، ولكن بعد مقتل ملك أرسلان، وبعد تعيين السلطان خشقدم لأخيه شاه بوداق، دعم محمد الفاتح أخًا ثالثًا للأخوين، وهو شاه سوار؛ وذلك ليُطالب بعرش إمارة ذي القادر، وهو يدين بالولاء للدولة العثمانيَّة[25].
هنا حدث الصراع الذي ما كنَّا نتمنَّى حدوثه! لقد حدث الصراع بين شاه بوداق مدعومًا بالمماليك، وبين أخيه شاه سوار مدعومًا بالدولة العثمانيَّة، فسيطر شاه بوداق على مدينة مرعش (Kahramanmaraş) جنوب الإمارة، وسيطر شاه سوار على مدينة البستان Elbistan، وهي في شمال إمارة ذي القادر[26].
هكذا دار الصراع بين الأخوين، وهو في الحقيقة بين الدولتين الكبيرتين؛ المماليك والعثمانيَّة، ولكن بشكلٍ غير مباشر، وانتهى الأمر بفرار شاه بوداق في (871هـ= 1466م)، وسيطر شاه سوار الموالي للعثمانيِّين على كامل الإمارة[27].
غضب السلطان المملوكي خشقدم جدًّا لهذا الإجراء، وعزم على استرداد الإمارة، لكن لم يُمهله الموت؛ إذ تُوفِّي في العام التالي عام (872هـ= 1467م)، وحدث بعده اضطراب في دولة المماليك، فتولَّى الظاهر سيف الدين بلباي مدَّة شهرين فقط، ثم تولَّى الظاهر تمر بغا الرومي شهرين آخرين، وأخيرًا تولَّى السلطان القوي الشهير قايتباي، وذلك في (رجب 872هـ الموافق آخر يناير 1468م)[28].
كان همُّ السلطان قايتباي الأوَّل منذ ولايته استرداد إمارة ذي القادر، والانتقام من شاه سوار الذي عُدَّ متمرِّدًا على دولة المماليك، ومِنْ ثَمَّ أعدَّ قايتباي عدَّة حملات لحرب شاه سوار، ولكن كانت المفاجأة أنَّ هذه الحملات تعرَّضت لهزائم متكرِّرة، بل تجرَّأ شاه سوار على اجتياح دولة المماليك نفسها، فهاجم حلب وضواحيها، وحقَّق عدَّة انتصارات[29]!
استمرَّ الوضع على هذه الصورة أكثر من أربع سنوات، وكان هذا يُمثِّل ازعاجًا كبيرًا للسلطان قايتباي، ممَّا دعاه في النهاية لإعداد جيشٍ ضخمٍ أنفق عليه أموالًا طائلة، وحقَّق هذا الجيش النصر على شاه سوار في (876هـ= نوفمبر 1471م)، وفرَّ الأمير المهزوم عدَّة أشهرٍ إلى أن تمكَّن المماليك من أسره في (877هـ= يونيو 1472م)، وأُرسِل إلى القاهرة، حيث أعدم في (877هـ= أغسطس 1472م)، وعُلِّق على باب زويلة، وولَّى قايتباي شاه بوداق -أخا القتيلين: ملك أرسلان، وشاه سوار- على إمارة ذي القادر[30].
هدأت الأمور بولاية شاه بوداق، وإن كان التوتُّر بين الدولة العثمانيَّة والمماليك كالنَّار تحت الرماد؛ حيث لم تظهر في هذه الفترة علامات تدلُّ على الشِّقاق بين البلدين، لكن لا شَكَّ أنَّ دعم العثمانيِّين لشاه سوار -الذي أرهق دولة المماليك جدًّا- كان له أثرٌ سلبيٌّ كبيرٌ في هذه الدولة الكبيرة..
والسؤال: لماذا فعل الفاتح ذلك، وهو الذي اشتُهر عنه محاولة تجنُّب الصدام مع المسلمين قدر الإمكان؟
هناك عدَّة احتمالات، لعلَّ بعضها أو كلَّها، كان يدور في ذهن الفاتح..
أوَّلًا: سَرَتْ شائعات بأنَّ السلطان خشقدم هو الذي أمر بقتل ملك أرسلان، وحيث إنَّ ملك أرسلان هو أخو زوجة الفاتح ست شاه مكرمة خاتون فإنَّ هذا أثار الفاتح ضدَّ دولة المماليك، وقد كتب المؤرِّخ زين الدين الملطي -وهو معاصرٌ للأحداث- عند توصيفه لحادث القتل ما يلي: «ثُمَّ أُشيع في القاهرة بأنَّ قَتْلَه كان بدسيسة السلطان، وكان ذلك أشأم رأي؛ فإنَّه حصل عقيب ذلك من الفتن والشرور ما هو باقٍ إلى يومنا هذا»[31]. ويقصد زين الدين الملطي بالفتن والشرور ما حدث من صداماتٍ كبيرةٍ بين جيش المماليك وجيش شاه سوار بعد مقتل ملك أرسلان، ويقصد كذلك الفتن بين المماليك والعثمانيِّين، التي ظلَّت موجودةً بين الفريقين بعد هذه الحادثة لمدَّة نصف قرنٍ كامل، وكتب ابن تغري بردي المؤرِّخ المشهور، وهو أيضًا معاصر للحدث، بل هو من سكَّان القاهرة، وكان يعيش فيها وقت حادثة القتل: «وذكروا أنَّه قتله فداويٌّ (أي فدائي، بمعنى أنَّه قتله في وسط العامَّة معرِّضًا نفسه للقتل)، ولا يلزمني -والكلام لابن تغري بردي- ذكر اسم مَن أرسل إليه الفداوي»[32]. ويبدو أنَّ الذي منع ابن تغري بردي من التصريح باسم القاتل هو معرفته، أو على الأقل شكُّه، في أنَّ الذي أرسل الفدائي هو السلطان خشقدم نفسه، وجزم القَرماني بأنَّ الذي سلَّط القاتل هو خشقدم نفسه[33]، وعمومًا، وفي كلِّ الأحوال، فإنَّ الشائعة انتشرت، بل قيل: إنَّ التركمان في إمارة ذي القادر نفسها كانوا يرفضون ولاية شاه بوداق عليهم؛ لأنَّه مشاركٌ للسلطان خشقدم في قتل أميرهم ملك أرسلان[34].
قد تكون هذه الشائعات إِذَنْ إحدى الأمور التي دفعت الفاتح إلى دعم شاه سوار في طلبه لعرش الإمارة، على أساس أنَّه مطلبٌ شعبيٌّ في الإمارة ذاتها، وعلى أساس أيضًا عدم قبوله بولاية مَن اتُّهم بقتل أخي زوجته ملك أرسلان.
وثانيًا: قد يكون دعم الفاتح لشاه سوار راجعًا إلى ما اشتهر به هذا الأمير من صلاح، وتقوى، وعلم، ودراية بالسياسة والحرب؛ فقد كان معروفًا بكثرة قراءة القرآن، وصيام الاثنين والخميس[35]، كما ذكر القَرماني في صفته أنَّه كان أديبًا عاقلًا ذا رأيٍ وشجاعة[36]، ولعلَّ الفاتح رأى أنَّ في هذه الصفات ما يُصلح حال الإمارة من ناحية، ويُحقِّق التعاون المرجوَّ مع الدولة العثمانيَّة، من ناحيةٍ أخرى.
وثالثًا: قد يكون توقيت قتل ملك أرسلان هو السبب وراء ردِّ فعل الفاتح؛ فقد وقعت حادثة القتل في (نوفمبر 1465م)، وهو وقتٌ متزامنٌ مع فتنٍ كثيرةٍ كانت واقعةً في إمارة قرمان إثر وفاة أميرها إبراهيم بك في أغسطس 1464م؛ حيث دار صراعٌ بين الأخوين إسحاق وأحمد على عرش إمارة قرمان كما مرَّ بنا، وانتهى بانتصار أحمد نتيجة دعم الفاتح له، ثم غَدَرَ أحمد بالفاتح، ممَّا دفعه إلى أن يُجرِّد حملةً همايونيَّة لضمِّ قرمان إلى الدولة العثمانيَّة بشكلٍ كاملٍ في 1468م؛ هذا يعني أنَّ الفاتح كان يتعامل مع ملفِّ إمارة ذي القادر وهو في ذهنه ما يحدث في إمارة قرمان، وحيث إنَّ إمارة قرمان كانت كثيرة التمرُّد في كلِّ تاريخها، وكانت على علاقةٍ طيِّبةٍ وصداقةٍ مع المماليك، فإنَّ هذا كان يشغل الفاتح؛ لكي لا يتكرَّر من إمارة ذي القادر ما حدث من إمارة قرمان، على الرغم من أنَّه لم يثبت مطلقًا أنَّ المماليك ساعدوا قرمان على التمرُّد على العثمانيِّين.
ورابعًا: كان الفاتح يخشى من قوَّة السلطان أوزون حسن زعيم الآق قوينلو، ويعلم أنَّه لا يُريد ضمَّ إمارة ذي القادر فقط؛ إنَّما يطمع في الدولة العثمانيَّة ذاتها، وخاصَّةً بعد أن فتحت الدولة العثمانيَّة إمبراطورية طرابزون الموالية لأوزون حسن، وبالتالي وسَّعت حدودها شرقًا حتى صارت ملاصقةً لدولة الآق قوينلو من ناحية شمال الأناضول، والآن بعد احتلال أوزون حسن لمدينة خربوت في إمارة ذي القادر صار من الممكن له أن يتمدَّد غربًا تجاه الدولة العثمانيَّة، فلعلَّ الفاتح أراد أن يضع شاه سوار في الحكم ليكون مواليًا له في حرب أوزون حسن إذا تطلَّب الأمر، أو يستخدم إمارة ذي القادر قاعدةً أماميَّةً تفصله عن دولة الآق قوينلو، ممَّا يُخفِّف من احتمال الصدام المباشر، الذي قد يكون مروِّعًا.
هذه أسبابٌ أربعةٌ قد تكون مشجِّعةً للفاتح على أخذ القرار الصعب بدعم شاه سوار للوصول إلى عرش إمارة ذي القادر متحدِّيًا بذلك دولة المماليك، ومع ذلك فنحن لا يُمكن أن نستثني السبب الخامس، وهو شعور الفاتح أنَّ الصدام العسكري مع المماليك أمرٌ واقعٌ حتمًا في يومٍ ما؛ وذلك لتنامي قوَّة الدولتين العسكريَّة، وتجاورهما بهذا الشكل في الأناضول والشام، وعادةً ما ترفض القوى الكبرى وجود قوى منافسة لها إلى جوارها، بل تسعى دومًا للتوسُّع وفرض السيطرة، فالحرب -إن آجلًا أو عاجلًا- واقعةٌ بين المماليك والعثمانيِّين، فكانت هذه خطوات استباقيَّة من الفاتح لدفع نقاط الصدام مع المماليك إلى الشام (جنوب إمارة ذي القادر)، بدلًا من أن تكون في الأناضول إذا كانت إمارة ذي القادر مواليةً للمماليك..
هذه هي الاحتمالات التي أرى أنَّ بعضها أو كلَّها كانت في ذهن الفاتح يوم قرَّر أن يدعم شاه سوار، ويُغْضِب بهذا الدعم -مضطرًّا- دولة المماليك.
هل هذه الأسباب منطقيَّة ومقبولة؟!
الواقع أنَّني -كما ذكرت من قبل- أعُدُّ قرار دعم شاه سوار في الوصول لعرش ذي القادر، ثم الوقوف بجانبه في حربه ضدَّ جيوش دولة المماليك، ثم دعمه في اجتياح حلب، ولو اضطرارًا، هو من أكبر أخطاء الفاتح التاريخيَّة؛ لأنَّه مهما كانت المصالح المتحقَّقة من وراء ولاء إمارة ذي القادر الصغيرة فإنَّ مضارَّ التوتُّر والصراع مع دولةٍ ضخمةٍ ومهمَّةٍ كدولة المماليك أكبرُ بكثيرٍ من هذه المنافع المتوقَّعة..
إنَّ التضحية بعلاقاتٍ طيِّبةٍ هادئةٍ مع دولة المماليك من أجل شائعاتٍ لم تثبت على وجه اليقين، أو من أجل تولية من يراه الفاتح أفضل، أو من أجل توسعة الدولة عدَّة كيلو مترات مربَّعة أخرى، كل ذلك لا يتَّفق مع روح الشريعة التي ندين بها، ولا مع قواعد الأخوَّة والمحبَّة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين، ولا مع أصول السياسة الصحيحة التي ينبغي أن تُدار بها الدول.
لقد كان منتظَرًا من رجلٍ عظيمٍ كالفاتح أن يُصْلِح ما فعله أبو جدِّه بايزيد الصاعقة، فيُحاول أن يُداوي الجروح العميقة التي أحدثها هذا السلطان بغزوه الأراضي المسلمة للإمارات التركمانيَّة ولدولة المماليك، وأن يُحافظ على النهج السليم لأجداده في الاكتفاء بحرب المحاربين لهم من غير المسلمين، وأن يسعى للتعاون الحقيقي والمجدي مع الدول الإسلاميَّة المحيطة به، وأن يلتمس الأعذار للمخطئين منهم، خاصَّةً أنَّ الأعداء متربِّصون به وبهم..
وماذا كانت النتيجة؟!
لقد حدث ما ذكره المؤرِّخ المعاصر زين الدين الملطي: «فإنَّه حصل عقيب ذلك من الفتن والشرور ما هو باقٍ إلى يومنا هذا»! وقد تُوفِّي زين الدين الملطي عام (1514م= 920هـ)[37]، فمعنى ذلك أنَّ الفتن والشرور ظلَّت باقية عشرات من السنين بعد الحدث، بل ستزيد الفتن والشرور عن تلك التي رآها زين الدين الملطي، ولو قدَّر الله له أن يعيش بضع سنوات أخرى لرأى الحرب الشاملة الكبرى بين العثمانيِّين والمماليك في عامي 1516م و1517م، ولكن وافته المنيَّة فلم يشهد اكتمال الصورة..
ولنتدبَّر قليلًا في جانبٍ من هذه الفتن والشرور..
من هذه الفتن مقتل عددٍ كبيرٍ من المسلمين في حربٍ لا ضرورة لها، وعلى سبيل المثال نأتي بتوصيف المؤرِّخ المعاصر علي بن يوسف البصروي، الذي تُوفِّي عام (1499م= 905هـ)[38]، فقال في وصف إحدى المعارك التي دارت بين المماليك وشاه سوار: «حصل للعسكر المصري والشامي والحلبي وغيرهم كسرةٌ من شاه سوار، وقُتِل من الأمراء خلائق، وأُسِر خلائق، وحصل بين الفريقين قتلٌ عظيم، نسأل الله العافية»[39]!
ومن هذه الفتن أيضًا الخسارة الاقتصاديَّة العظيمة التي تكبَّدها المسلمون في هذه الحروب، ويذكر السخاوي، وهو مؤرِّخٌ معاصرٌ للأحداث تُوفِّي في عام (1497م= 902هـ)[40]، وصفًا لسعادة السلطان قايتباي ودولته عند أسْر شاه سوار فيقول: «فَسُرَّ السلطان فَمَنْ دونه بإحضاره؛ لكثرة ما تَلَفَ بسببه من العَدَد، والعُدَد، والأموال التي تفوق الوصف»[41].
ومن هذه الفتن أيضًا انشغال المسلمين ببعضهم البعض، وانصراف أذهانهم إلى تدبير المكائد لكلِّ فريق، ويصف زين الدين الملطي حال السلطان المملوكي خشقدم عندما سمع بأمر خروج شاه سوار عن طاعته بقوله: «ولمـَّا تحقَّق السلطان هذه الأخبار، وعرف هذه الحوادث، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأخذ في تعيين تجريدة (حملة عسكريَّة) إلى البلاد الحلبيَّة»[42]، واستمرَّ هذا الانشغال طويلًا، بل لعلَّه كان الشغل الشاغل الأوحد لدولة المماليك في كلِّ عمرها المتبقِّي؛ فقد استمرَّت الفتن بعد إعدام شاه سوار؛ إذ لم يقبل الفاتح طويلًا إمارة شاه بوداق، وسيسعى لتغييره كما سيأتي في أحداث عام 1479م، وبعد وفاة الفاتح وولاية ابنه بايزيد الثاني ستقوم حربٌ حقيقيَّةٌ مباشرةٌ بين المماليك والعثمانيِّين لمدَّة 6 سنواتٍ كاملة، من سنة 1485م إلى سنة 1491م، ثُمَّ في عهد حفيد الفاتح، سليم الأول، ستقوم حربٌ أعنف وأشدُّ في عامي 1516م و1517م، وستكون نهاية دولة المماليك في هذه الحرب، فهذا يعني أنَّ المسلمين شُغِلوا بأنفسهم ما يزيد على خمسين سنةً بسبب هذه الحادثة..
ومن هذه الفتن أيضًا وَأْدُ أيِّ فرصةٍ للتعاون بين الدولتين الكبيرتين المماليك والعثمانيَّة، وكانت المجالات التي يُمكن أن يحدث فيها التعاون كثيرة، وأقربها هجوم السلطان أوزون حسن على المماليك والعثمانيِّين معًا، فقاتله كلُّ واحدٍ منهما منفردًا، وعلى الرغم من أنَّ الفاتح عَرَض على قايتباي أن يُساعده على حرب أوزون حسن عام (877هـ= 1472م) فإنَّ قايتباي رفض ذلك، وردَّت دولة المماليك ردًّا مؤدَّبًا على الفاتح[43]، لكن حالة التوتُّر حالت دون التعاون الحقيقي بين الطرفين، كذلك لم يحدث التعاون ضدَّ الدولة الصفويَّة التي ستظهر بعد ذلك، وهي أخطر من أوزون حسن، وكذلك لم يحدث التعاون في شأن فرسان القديس يوحنا، وهم يُمثِّلون خطرًا مزدوجًا على العثمانيِّين والمماليك معًا، ولن يحدث التعاون في مسألة مملكة قبرص، التي سيأخذها البنادقة عام 1489م، ولن يحدث التعاون في مسألة أوروبا الغربيَّة التي كانت تشنُّ الحملاتِ الصليبيَّةَ على العثمانيِّين والمماليك معًا..
ومن هذه الفتن أيضًا عدم الانتباه إلى الكوارث التي تحدث في الأمَّة الإسلاميَّة في توقيت هذه الأحداث نفسها، ومن أشهرها آنذاك سقوط الأندلس، وقد روى المؤرِّخ المعاصر مجير الدين الحنبلي والمتوفَّى عام (1521م= 927هـ)[44] قصَّةَ استنجاد القاضي الأندلسي شمس الدين بن الأزرق بقايتباي، فقال: «فحضر إلى السلطان الأشرف قايتباي -نصره الله تعالى- وكان منشغلًا بقتال سلطان الروم بايزيد بن عثمان»[45]. فهذا الانشغال منعه من تحقيق طلب النجدة، ثم ضاعت الأندلس!
هذه كلُّها فتنٌ حدثت نتيجة هذا التصعيد المستمرِّ في الصدام بين الدولتين الكبيرتين..
ومع ذلك تبقى أحدُ أهمِّ الفتن من جرَّاء هذه الأحداث؛ الانطباع السلبي الذي انتشر في مصر والشام عن الدولة العثمانيَّة، بل عن السلطان الفاتح نفسه! فبينما كانت أسهم الدولة العثمانيَّة -وخاصَّةً الفاتح- في ارتفاعٍ نتيجة انتصارات العثمانيِّين على الأوروبيِّين، خاصَّةً بعد فتح القسطنطينية، إذا برؤية الناس تتبدَّل، وحكمهم على الأمور يتغيَّر، ولقد نقل زين الدين الملطي حال «الناس»، أي حال شعوب مصر والشام، عندما انتصر قايتباي على شاه سوار، وقبل أن يُؤْسَر، فقال: «ثم زاد كلام الناس في أمر سوار، فمِن قائل: إنَّه يفرَّ إلى ابن عثمان. ومِن قائل: إنَّه سيجمع جموعه ويعود. ومن قائل: إنَّه يتحصَّن ببعض المعاقل. ومن قائل: إنَّه يؤخذ»[46]. فلعلَّنا لاحظنا أنَّ كلام «الناس» يُشير إلى أنَّ فرار هذا المتمرِّد سيكون إلى «ابن عثمان»، وهو السلطان الفاتح، فكان الناس يتداولون فيما بينهم أنَّ السبب في اشتداد شوكة هذا المتمرِّد هو الدعم المباشر من سلطان العثمانيِّين، فإذا نظرنا إلى الخسائر التي خسرتها دولة المماليك خلال فترة شاه سوار؛ في الأموال، والأسلحة، والأرواح، والجهد، علمنا أنَّ الشعوب الشاميَّة والمصريَّة كانت مشحونةً بشكلٍ كبيرٍ ضدَّ العثمانيِّين، ولا شَكَّ أنَّ هذا الشحن قد تزايد في زمن ابن الفاتح بايزيد الثاني نتيجة الحرب الفعليَّة التي قامت، ثم تزايد الشحن أكثر وأكثر عندما اجتاح سليم الأول الشام ومصر في عامي 1516 و1517، ولا نستغرب إنْ ظلَّ هذا الشحن مستمرًّا عدَّة قرونٍ بعد ذلك، بل لعلَّه موجودٌ عند بعضهم إلى زماننا هذا!
لقد صدقت كلمة زين الدين الملطي التي أشار فيها إلى بقاء الفتن والشرور إلى زمانه، وهو المتوفَّى في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، ونزيد عليها أنَّ هذه الفتن بقيت إلى زماننا نحن، في أوائل القرن الحادي والعشرين! وصدق القائل: «مُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ»[47].
وأخيرًا، وقبل غلق هذا الملفِّ الشائك، لا أريد أن أُحمِّل الفاتح رحمه الله كلَّ ما حدث من شقاقٍ بين المماليك والعثمانيِّين، بل نجزم أنَّه كان متحفِّظًا في دعمه لشاه سوار، ولم يُقاتل بجيوشٍ عثمانيَّةٍ مباشرةً ضدَّ المماليك، وكان يُحاول التلطُّف في رسائله لقايتباي، ولم يفعل مثلما فعل بايزيد الصاعقة في اجتياحه المباشر للأراضي المسلمة حوله، ولم يفعل مثلما فعل سليم الأول بعد ذلك من سعيٍ حثيثٍ لإسقاط دولةٍ عظيمةٍ كدولة المماليك.. نعم لم يفعل الفاتح كلَّ ذلك، ولكنَّه أخطأ بالمشاركة في هذه الأحداث على الصورة التي ذكرناها، ومع أنَّ خطأه يُعَدُّ يسيرًا بالقياس إلى أخطاء غيره من السلاطين والحكَّام، وخاصَّةً الأقوياء منهم، فإنَّنا نُعظِّم من أخطاء الفاتح لأنَّه عظيم، وقد قال المتنبِّي:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتيِ الْعَزَائِمُ وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ المكَارِمُ
وَتَعْظُمُ في عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا وَتَصْغُرُ في عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ[48].
فهذه الأمور التي يُمكن أن نتقبَّلها من غير الفاتح لا نتقبَّلها منه هو، خاصَّةً أنَّ هفوات العظماء والعلماء وكبار القوم يكون لها من الآثار -كما شرحنا- أكبر كثيرًا من هفوات عامَّة الناس، وما أروع ما قاله الفقيه أبو المنصور الدمياطي في ذلك:
هَفْوَةُ الْعَالِمِ مُسْتَعْظَمَةٌ إنْ هَفَا أَصْبَحَ فِي الْخَلْقِ مَثَلْ
وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ فِبهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأَ وَزَلْ
لَا تَقُلْ يُسْتَرُ عَلَى زَلَّتِي بَلْ بِهَا يَحْصُلُ فِي الْعِلْمِ الْخَلَلْ
إنْ تَكُنْ عِنْدَك مُسْتَحْقَرَةً فَهِيَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ جَبَلْ[49]
هذه هي حالة الحدود الجنوبيَّة الشرقيَّة من الدولة العثمانيَّة في الوقت الذي نقوم بدراسته؛ فعلى إمارة ذي القادر آنذاك شاه بوداق الموالي لدولة المماليك، وهو يتولَّى الإمارة منذ عام (877هـ= 1472م)، إثر مقتل شاه سوار، ونحن الآن في عام 1477م على الحال نفسه، وكان قايتباي قلقًا دومًا بشأن هذه الحدود الشماليَّة مع الدولة العثمانيَّة، بل تنقل المصادر أنَّه -وتحديدًا عام 1477م- قد جاء بنفسه ليطمئنَّ على حصونه في أورفة Şanlıurfa، وغازي عنتاب Gaziantep[50]، وهذه هي القلاع التي تفصل دولة المماليك عن إمارة ذي القادر، وبالتالي عن الدولة العثمانيَّة، وهذا يعكس حالة القلق عند دولة المماليك، كما يضع الدولة في مصافِّ «الأعداء» بالنسبة إلى الدولة العثمانيَّة، وإن لم يكن هذا العداء معلنًا بشكلٍ صريحٍ حتى هذه اللحظة.
وبهذا نكون قد انتهينا من تحليل الوضع في الجبهة الجنوبيَّة من الدولة العثمانيَّة، ويبقى لدينا أن نبحث الوضع في الجبهة الغربيَّة والأخيرة من جبهات الدولة الكبيرة..
رابعًا: أعداء الجبهة الغربيَّة:
تُعَدُّ الجبهة الغربيَّة هي أصعب الجبهات العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ لأكثر من سبب؛ فمن هذه الأسباب أنَّها أبعد الجبهات عن المركز الأمِّ للدولة العثمانيَّة، أعني الأناضول، وبالتالي فإنَّ الكثافة السكانيَّة المسلمة فيها قليلة، وهذا يجعل ولاء السكَّان للدولة ضعيفًا، وأيضًا هذا البعد عن المركز الرئيس للدولة الذي تخرج منه الكتائب العسكريَّة، يجعل وصول الجند والسلاح إلى هذه المناطق النائية أمرًا صعبًا، خاصَّةً إذا اعتبرنا بظروف العصر الذي ندرسه، ومن هذه الأسباب كذلك أنَّ هذه الجبهة الغربيَّة متَّصلة بشكلٍ مباشرٍ مع الغرب الصليبي، الذي اعتاد على الشحن المستمرِّ ضدَّ المسلمين، نتيجة الصدامات التاريخيَّة الدائمة، سواءٌ في الأندلس، أم في صقلية، أم في الحروب الصليبيَّة على مصر والشام.
ومن هذه الأسباب أيضًا أنَّ هذا الغرب الصليبي القريب من الجبهة الغربيَّة كان قويًّا جدًّا من الناحية العسكريَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة بخلاف منطقة البلقان وشرق أوروبا، وكذلك بخلاف روسيا في هذه الفترة؛ فهذه القوَّة كانت تُعطي مددًا خطرًا بشكلٍ دوريٍّ للدول والإمارات النصرانية المواجهة للجبهة الغربيَّة، وأيضًا فإنَّ الجبهة الغربيَّة كانت ذات طبيعةٍ جغرافيَّةٍ صعبةٍ للغاية؛ إذ تمتدُّ فيها جبال الألب الديناريَّة Dinaric Alps من إيطاليا في الشمال الغربي إلى ألبانيا في الجنوب الشرقي، مرورًا بسلوڤينيا، وكرواتيا، والبوسنة، والهرسك، وصربيا، والجبل الأسود، وهي جبالٌ مرتفعةٌ ووعرةٌ للغاية[51]، وهذا ولا شَكَّ يُصَعِّب أيَّ عمليَّةٍ عسكريَّة، كما أنَّ هذه الجبال تكون مهربًا للجيوش من أهل المنطقة، وهم بطبيعة الحال يعرفون دروبها ومخابئها أكثر من العثمانيِّين، وأخيرًا فإنَّ هذه المنطقة هي أكثر مناطق أوروبا أمطارًا[52]، وهذا يُضيف إلى صعوبة اختراقها، وصعوبة حمل الأسلحة الثقيلة في هذه الأرض الموحلة.
هذه هي طبيعة الجبهة الغربيَّة للدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت، أعني عام 1477م، وأعتقد أنَّه من المناسب أن نُعطي توصيفًا دقيقًا لهذه الحدود آنذاك، لنعرف من هم الأعداء على هذه الجبهة.
كانت الدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت تشمل بلغاريا بكاملها، وكذلك نصف صربيا الجنوبي (أي كل ما هو جنوب بلجراد)، ثم تشمل إلى الغرب من ذلك نصف البوسنة الشرقي، أي إلى شرق مدينة يايسي Jajce، حيث كانت يايسي تابعةً للمجر آنذاك، فهكذا تُمثِّل المجر أقصى حدود الدولة العثمانيَّة في شمالها الغربي، ثم تقع إلى الغرب من يايسي دوقيَّة سانت ساڤا، وهي شمال منطقة الهرسك الآن من جمهوريَّة البوسنة والهرسك، فهذا يعني أنَّ هذه الدوقيَّة تُمثِّل الحدود الغربيَّة في هذه المنطقة، ثم إلى الجنوب منها تقع إمارة زيتا وهي في جمهوريَّة الجبل الأسود الآن، فهذه أيضًا حدود غربيَّة للدولة العثمانيَّة، ثم إلى الجنوب من زيتا تقع ألبانيا، فهذه هي الحدود الغربيَّة الأخيرة للدولة العثمانيَّة، مع العلم أنَّ شمال ألبانيا كان تابعًا للبندقيَّة، وجنوبها كانت تحت سيطرة نبلاء ألبانيا، فهذا يُضيف إلى الحدود دولتين في الحقيقة، هما البندقية وألبانيا. ثم ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أنَّ كلَّ هذه الدول والدوقيَّات تقع على ساحل البحر الأدرياتيكي الشرقي، وهذا البحر يفصل البلقان عن إيطاليا، التي لا تخلو من أعداء للدولة العثمانيَّة، وعلى رأسهم في هذه المرحلة البابا في دولته الباباويَّة، وكذلك مملكة نابولي المسيطرة على جنوب إيطاليا، وعلى هذا يُمكن رصد أعداء الدولة العثمانيَّة على هذه الجبهة على النحو التالي، من الشمال إلى الجنوب، بعد استثناء ملك المجر الذي تحدَّثنا عنه عند حديثنا عن الجبهة الشماليَّة.
1. دوق دوقيَّة سانت ساڤا ڤلاديسلاڤ هيرسيجوڤيتش (الهرسكي) Vladislav Hercegović: وكانت هذه الدوقيَّة تشغل معظم شمال الهرسك، وكانت تدفع الجزية للدولة العثمانيَّة ابتداءً من عام 1463م؛ ولكن ڤلاديسلاڤ غيَّر ولاءه لملك المجر ماتياس، وفي مقابل ذلك أهداه ملكُ المجر مقاطعتين من مقاطعات البوسنة المجاورة ليايسي المحكومة بالمجر[53]، فهو بذلك عدوٌّ صريحٌ للدولة العثمانيَّة، وإن كانت إمكاناته العسكريَّة محدودةً إلى حدٍّ ما.
2. حاكم إمارة زيتا Zeta إيڤان كرنويڤيتش Ivan Crnojević: وإمارة زيتا إمارةٌ صغيرةٌ في جنوب غرب جمهوريَّة الجبل الأسود الآن، وكان حاكمها يُعطي ولاءه لجمهوريَّة البندقية، بل قاتل معهم العثمانيِّين في حصار شقودرة عام 1474م[54]؛ ومِنْ ثَمَّ فهو مثل ڤلاديسلاڤ هيرسيجوڤيتش عدوٌ صريح، وعلى الرغم من قلَّة إمكاناته العسكريَّة فإنَّ موقعه الاستراتيجي بالقرب من مدينتي شقودرة وكرويه المهمَّتين جعل لإمارته أهميَّةً خاصَّة، كما أنَّ الطبيعة الجبليَّة لإمارته تجعل بلاده صعبة المنال لمن يسعى لغزوها.
3. رئيس جمهوريَّة البندقية أندريا ڤيندرامين Andrea Vendramin: كان قد انتُخِب رئيسًا للجمهوريَّة منذ عامٍ واحدٍ فقط، أي في عام 1476م، وكانت قضيَّته الرئيسة هي حرب الدولة العثمانيَّة؛ فالحرب دائرةٌ معها منذ عام (867هـ= 1463م)، وقد شهدت السنوات الأخيرة تفوُّقًا عثمانيًّا ملحوظًا، ولهذا كان لا بُدَّ من شحن طاقات الجمهوريَّة لمواجهةٍ مرتقبةٍ مع العثمانيِّين، على الرغم من أنَّ انتخاب هذا الرئيس أحدث انقسامًا في الجمهوريَّة؛ نتيجة رفض بعضهم قيادته على أساس أنَّه كان تاجرًا وليس سياسيًّا محترفًا[55].
كانت البندقية تُسيطر على شمال ألبانيا وأجزاء من جنوب الجبل الأسود، منذ فترةٍ طويلةٍ (منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي)، وقد عُرِفَت هذه المنطقة باسم «أَلبانيا البُندقية» Venetian Albania، وكانت أهمُّ مدنها مدينة شقودرة Shkodër، وتُعرف أيضًا باسم اسكوتاري Scutari[56].
لم تكن «أَلبانيا البُندقية» كبيرة المساحة؛ ولكنَّها كانت منيعةً بشكلٍ كبير، كما أنَّها تطلُّ على ساحل البحر الأدرياتيكي، وهذا يُعطيها مددًا بحريًّا مستمرًّا، وهذا المدد يأتيها من المدينة الأم «البندقية»، التي يُمكن أن تتحرَّك أساطيلها في الأدرياتيكي دون إعاقةٍ تُذكر، ومع هذا فلم تكن خطورة البندقية على الدولة العثمانيَّة راجعةً إلى حدودها الغربيَّة معها؛ إذ إنَّ هذه الحدود صغيرةٌ كما هو واضح؛ ولكن ترجع الخطورة إلى أنَّ البندقية تُسيطر على أماكن كثيرة استراتيجيَّة تُحيط بالدولة العثمانيَّة من أكثر من نقطة، خاصَّةً في الناحية الغربيَّة والجنوبيَّة، كما أنَّ تحالفات البندقية متعدِّدة ممَّا يُعطيها خطورةً أكبر، وقدرةً على المناورة في الحروب والمفاوضات قد لا تتوفَّر لغيرها من الدول آنذاك، وسنأتي بعد قليلٍ على تفصيل الأماكن التي تُسيطر عليها البندقية ويُمكن أن تُؤثِّر في الدولة العثمانيَّة.
4. نبلاء ألبانيا: بعد وفاة إسكندر بك عام 1468م لم يظهر في ألبانيا قائدٌ ألبانيٌّ يُمكن أن يتولَّى قيادة البلد، وكان نبلاء ألبانيا بشكلٍ عامٍّ يقودون أتباعهم بشكلٍ منفردٍ في كلِّ قطاعٍ من قطاعات البلد، ولهذا فقوَّتهم كانت ضعيفةً للغاية، وكانوا يعتمدون بشكلٍ شبه كاملٍ على الدَّعم الخارجي، الذي يأتي بشكلٍ أساسيٍّ من البندقية، ثم من مملكة نابولي، وبابا الڤاتيكان.
5. البابا الكاثوليكي سيكستوس الرابع Sixtus IV: الذي لم يكن مركزه دينيًّا فقط؛ إنَّما كان سياسيًّا كذلك؛ لأنَّه يحكم الدولة الباباويَّة في وسط إيطاليا Papal State، وله إمكاناته العسكريَّة والاقتصاديَّة الخاصَّة به، ولم يكن هذا البابا معتزلًا لمسألة الدولة العثمانيَّة؛ إنَّما كان متحفِّزًا للتعامل الجادِّ معها، وقد دعا بالفعل إلى حربٍ صليبيَّةٍ عام 1472م، وتحرَّكت أساطيل أوروبيَّة لمهاجمة سواحل الأناضول أثناء حرب السلطان الفاتح مع أوزون حسن[57]، لكن استطاعت الدولة العثمانيَّة دحر هذه الحملة. كان هذا التاريخ العدائي يعني أنَّه في أيِّ لحظةٍ يُمكن للبابا أن يُحرِّك الجيوش من جديدٍ ليضرب الدولة العثمانيَّة في مكانٍ ما، وحيث إنَّ علاقات البابا كانت متعدِّدة ومتنوِّعة، فإنَّ هذا كان يُعطيه خطورةً خاصَّةً حيث يصعب التنبُّؤ بالمكان الذي سيقوم بالهجوم عليه.
6. ملك نابولي فرديناند الأول Ferdinand I: الذي على الرغم من عدم وجود تقاطعات كبيرة مع الدولة العثمانيَّة فإنَّه كان يُمثِّل خطرًا عليها؛ إذ إنَّه كان داعمًا للتمرُّد الألباني من ناحية[58]، وكان مشتركًا في الحملة الصليبيَّة على سواحل الأناضول عام 1472م من ناحيةٍ أخرى[59]، بالإضافة إلى علاقته الوثيقة في هذه المرحلة (التي ستتغيَّر بعد ذلك) مع البابا، ممَّا يجعل احتمال مشاركته في حربٍ صليبيَّةٍ قريبةٍ أمرًا واردًا جدًّا.
هؤلاء هم أعداء الجبهة الغربية للدولة العثمانية في عام 1477م..
وبهذا نكون قد استعرضنا أعداء الدولة العثمانيَّة في كلِّ الجبهات، ومن الصعب أن نتخيَّل كيف كان الفاتح رحمه الله يتعامل مع كلِّ هذه الملفَّات المعقَّدة والمتشابكة، وكيف كان يختار أولويَّات الدولة في مواجهة مثل هذه التحدِّيَّات!
ولكي نفهم الخطوة القادمة في خطَّة الفاتح في المرحلة القادمة ينبغي أن نُعيد تلخيص وحصر القوى المعادية للدولة، ثم عندها يُمكن أن نُدرك أيَّ هذه القوى يُمثِّل خطورةً أشدَّ، وبالتالي تكريس الجهود لحربه..
أوَّلاً: أعداء الجبهة الشماليَّة:
1. أمير البغدان استيفين الثالث.
2. ملك المجر ماتياس.
3. ملك بولندا كازيمير الرابع.
4. أمير الإفلاق باساراب الرابع.
ومع أنَّ أمير البغدان ما زال متمرِّدًا، ومع أنَّه ما زال يُحاول تغيير العرش في الإفلاق لحسابه، فإنَّ هذه الجبهة هادئةٌ الآن؛ وذلك على إثر انتصارات الفاتح على أمير البغدان في معركة الوادي الأبيض، وانتصاراته على ملك المجر في سمندرية، كما أنَّ العلاقات متوتِّرة للغاية بين المجر وبولندا ممَّا يجعل إمكانيَّة تحالفهم في عملٍ مشتركٍ بعيدةً..
ثانيًا: أعداء الجبهة الشرقيَّة:
5. سلطان الآق قوينلو الإيرانيَّة أوزون حسن.
6. خان القبيلة الذهبيَّة أحمد كتشوك.
7. أمير موسكو إيڤان الثالث.
8. ملك چورچيا باجرات السادس.
وهذه الجبهة هادئة كذلك، وخاصَّةً بعد انضمام خانية القرم إلى الدولة العثمانيَّة عام 1475م، وقبلها انكسار السلطان أوزون حسن في أوتلق بلي Otlukbeli عام 1473م، بالإضافة إلى أنَّ هؤلاء الأعداء كانوا منقسمين على أنفسهم، بل متصارعين، وكان هذا يُقلِّل من خطورة هذه الجبهة في هذه المرحلة.
ثالثًا: أعداء الجبهة الجنوبيَّة: (الجزء البحري منها)
9. أمير رودس (فرسان القديس يوحنا) بيير دي أوبسون.
10. دوق ناكسوس چياكومو الثالث.
11. ملكة قبرص كاثرين كورنارو.
12. شركة معونة خيوس الچنويَّة.
وهذه الجبهة هادئةٌ أيضًا وإن كانت خَطِرة، وليست الخطورة في الأعداء السابقين؛ إنَّما في جمهوريَّة البندقية التي تملك بعض النقاط الحيويَّة في هذه الجبهة الجنوبيَّة، وسنأتي على ذكرها بعد قليل، بالإضافة إلى أنَّ فرسان القديس يوحنا غير مأمونين، ويُسبِّبون مضايقات مستمرَّة للأساطيل التجاريَّة والعسكريَّة للدولة العثمانيَّة وزوَّارها من الدول الأخرى.
وللأسف فإنَّنا مضطرُّون في ظلِّ ما شرحناه من علاقة الدولة العثمانيَّة بدولة المماليك في هذه المرحلة أن نُضيف عدوَّين جديدين في هذه الجبهة من الناحية البرِّيَّة؛ وذلك لاستكمال الصورة:
13. أمير ذي القادر شاه بوداق.
14. سلطان المماليك قايتباي.
مع العلم أنَّ هذه الجبهة البرِّيَّة (الجنوبيَّة الشرقيَّة للأناضول) كانت هادئة في هذا التوقيت، وإن لم تكن على هوى الفاتح لاستقرار شاه بوداق في إمارة ذي القادر، وهو محاربٌ سابقٌ لصديق الدولة العثمانيَّة شاه سوار.
رابعًا: أعداء الجبهة الغربيَّة:
15. دوق سانت ساڤا ڤلاديسلاڤ هيرسيجوڤيتش.
16. حاكم إمارة زيتا إيڤان كرنويڤيتش.
17. رئيس جمهوريَّة البندقية أندريا ڤيندرامين.
18. نبلاء ألبانيا.
19. بابا الڤاتيكان سيكستوس الرابع.
20. ملك نابولي فرديناند الأول.
هذه هي أخطر الجبهات في هذه المرحلة؛ حيث إنَّ بها جمهوريَّة البندقية، وهي الجمهوريَّة التي ما زالت في حربٍ معلنةٍ مع الدولة العثمانيَّة منذ عام (867هـ= 1463م)؛ أي منذ أربعة عشر عامًا كاملًا، كما أنَّ البندقية هي الداعم الرئيس لتمرد ألبانيا، وساعدت استيفين الثالث أمير البغدان على تمرُّده، وكانت تدعم السلطان أوزون حسن في حربه ضدَّ العثمانيِّين، وهي كذلك مواليةٌ لدوقيَّة ناكسوس في بحر إيجة، بالإضافة إلى علاقاتها الطيِّبة مع دولة المماليك بمصر، وعلاقتها الطيِّبة كذلك مع مملكة قبرص، وكذلك مع البابا.. يُضاف إلى كلِّ هذه العوامل أنَّ البندقية ما زالت تملك عدَّة قلاعٍ ومدنٍ في شبه جزيرة المورة اليونانيَّة، أي في عمق الأراضي العثمانيَّة، وهذا يُمثِّل خطورةً كبيرةً على الدولة.
هذا الحصر لهؤلاء الأعداء العشرين الذين يتربَّصون بالدولة العثمانيَّة يُوضِّح أنَّ العدوَّ الأكبر في هذه المرحلة هو جمهوريَّة البندقية، فإذا أضفنا إلى هذه المعلومات ما ذكرناه من قبل من أنَّ الوضع السياسي للبندقيَّة كان مضطربًا نتيجة الانقسامات الداخليَّة عقب انتخاب أندريا ڤيندرامين رئيسًا للجمهوريَّة، أدركنا أنَّ تركيز الفاتح في المرحلة القادمة سيكون على هذه الجمهوريَّة العنيدة؛ ولكن يبقى السؤال: أين سيكون الصدام؟ وهل سيكون الصدام دبلوماسيًّا أم عسكريًّا؟ وماذا عن حلفاء البندقية؟ هل سيصطدم الفاتح معهم أيضًا أم سيُؤجِّل ذلك؟ وماذا عن الأعداء التِّسعة عشر الآخرين؟ هل سيكتفون بمراقبة الأحداث أم سيتدخلون في وقتٍ قد تكون الدولة العثمانيَّة فيه منشغلةً بالصدام مع البندقية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة سنستعرض أوَّلًا الأماكن الحيويَّة التي كانت تُسيطر عليها البندقية في هذا التوقيت، أعني عام 1477م، وخاصَّةً تلك الأماكن المؤثِّرة في علاقاتها بالدولة العثمانيَّة، وقد جاء حصر دقيق لتلك الممتلكات في كتاب «رفيق لتاريخ البندقية» A Companion to Venetian History، وهو كتاب قيم يشمل عدة بحوث تحت إشراف المؤرِّخ الأميركي، والمتخصِّص في تاريخ إيطاليا الحديث، إيريك درستلر Eric Dursteler، وسنأخذ مقتطفات من هذا الحصر لتوضيح الصورة[60]، مع الاستعانة ببعض المصادر الأخرى لشرح حجم البندقية في هذا العصر..
كانت جمهوريَّة البندقية مقسَّمة إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسة (خريطة رقم 12):
القسم الأوَّل: وهو المركز الرئيس الأم للجمهوريَّة، وهو مدينة البندقية نفسها، ومعها شريطٌ ساحليٌّ يزيد قليلًا عن 120 كم، يربط بين مدينتي جرادو Grado شرقًا، ولوريو Loreo غربًا، وهذا المركز الرئيس كان يُطلق عليه اسم Dogado، أو بالإنجليزيَّة Duchy of Venice، أو دوقيَّة البندقية، وهي مقرُّ الحكومة ورئيس الجمهوريَّة، ويُعَدُّ هذا القسم -مع أهميَّته- هو أصغر أقسام جمهوريَّة البندقية.
القسم الثاني: وهو «دولة البرِّ الرئيسة» «Mainland state»، وكان يُطلق عليها بالإيطاليَّة: «Stato da Tera»، وهو كلُّ شمال شرق إيطاليا، ويقع إلى الشمال من مدينة البندقية، ويمتدُّ على مساحاتٍ واسعةٍ من سهول الفريولي Friuli شرقًا، إلى دوقيَّة ميلانو Milan غربًا، وكان سهل الفريولي يُمثِّل الحدود الشرقيَّة لجمهوريَّة البندقية مع مملكة المجر، والحدود الشمالية مع إمبراطوريَّة النمسا، وهو من السهول الزراعيَّة الغنيَّة التي كانت تُمثِّل أهميَّةً كبرى للجمهوريَّة.
القسم الثالث: وهو «دولة البحر» «State of the sea»، أو ما يُعرف بالإيطاليَّة: «Stato da Màr»، وكان ممتلكاتٍ متعدِّدةً منتشرة في عدَّة بحار، وسوف نقوم هنا بذكر أهمِّ هذه الممتلكات، مع الأخذ في الاعتبار أنَّني لست معنيًّا -في هذا الحصر- بالممتلكات التي ضاعت من البندقية قبل عام 1477م، الذي نحن بصدد دراسته، ولا بالممتلكات التي حصلوا عليها بعد هذا العام، إنما أذكر فقط حجم دولتهم في عام 1477م، كما أنَّني لن أذكر كلَّ المدن والقلاع التي قد لا تكون لها علاقة مباشرة ببحثنا؛ وذلك منعًا للإطالة..
يُمكن إِذَنْ تقسيم دولة البحر البندقية إلى تسعة أقسام على النحو التالي؛ وذلك بذكر الأقرب من مدينة البندقية ثم الأبعد:
أوَّلًا: مستعمرات إستريا وشمال شرق البحر الأدرياتيكي:
تقع شبه جزيرة إستريا Istria، في أقصى شمال شرق البحر الأدرياتيكي، وهي الآن مقسَّمة بين ثلاث دول هي: كرواتيا، وسلوڤينيا، وإيطاليا. وأهمُّ المدن فيها هي: بولا Pula، وروڤينچ Rovinje.
ثانيًا: مستعمرات رومانا Romagna:
وهي تقع في شمال غرب الأدرياتيكي، في الناحية الأخرى من البحر تجاه مستعمرات إستريا، وهي بكاملها في إيطاليا، وأهمُّ مدنها راڤينا Ravenna.
ثالثًا: مستعمرات دالماسيا Dalmatia:
وهي مستعمراتٌ مهمَّةٌ للغاية؛ لأنَّها شريطٌ ضيِّقٌ طويل، بطول أكثر من 400 كم؛ ولذلك فهو يُسيطر سيطرةً شبه كاملة على الحركة في الأدرياتيكي، وحازت هذه المنطقة اهتمامًا كبيرًا من البندقية، فكانت تُسيطر عليه بالكامل تقريبًا، باستثناء جمهوريَّة راجوزا Ragusa (دوبروڤنيك Dubrovnik)، التي كانت مستقلَّةً وتابعةً للدولة العثمانيَّة، أمَّا بقيَّة ساحل دالماسيا فقد أنشأ فيه البنادقة حوالي 26 مستعمرةً حصينة، أهمها: سبليت Split، وزادار Zadar، وشيبينك Šibenik. وكانت هذه المستعمرات تُسيطر على الجزر المواجهة لها في البحر، وعدد هذه الجزر سبع وتسعون جزيرة! وكل هذه المنطقة تقع الآن في كرواتيا.
رابعًا: مستعمرات أَلبانيا البُندقية Venetian Albania:
وهذه مستعمرات في أهميَّة مستعمرات دالماسيا نفسها أو أكثر أهميَّة، وكانت البندقية تُولِيها اهتمامًا خاصًّا لكونها قريبةً من أملاك الدولة العثمانيَّة، وقد أخذت هذه المستعمرات زخمًا كثيرًا بعد تمرد إسكندر بك وانفصاله بألبانيا، فصارت حصونها ملجأً للفارِّين من الهجمات العثمانيَّة، وصارت المعونات العسكريَّة تتحرَّك من هذه المستعمرات إلى ألبانيا لمساعدة المتمرِّدين، وتُعَدُّ مدينة شقودرة Shkodër هي أهمُّ المدن وأحصنها، ومع ذلك فالمنطقة تضمُّ مدنًا أخرى في غاية الأهميَّة كذلك مثل مدينة ليزهي Lezhë، وتُعرف أيضًا باسم أليشو Alessio، وهي المدينة التي اجتمع فيها نبلاء ألبانيا مع إسكندر بك لتكوين تحالفهم الأوَّل ضدَّ الدولة العثمانيَّة عام 1444م، وعُرِف بتحالف ليزهي، ومدينة دوريس Durrës، ومدينة أولسيني Ulcinj، ومدينة أنتيباري Antibari، ومدينة كوتور Kotor، بالإضافة إلى أنَّ مدينة كرويه Kruje، وهي عاصمة إسكندر بك، وأهمُّ مدن ألبانيا آنذاك، تقع أيضًا في هذه المنطقة، وإن لم تكن تُدار بشكلٍ مباشرٍ من البندقية، إنَّما بمساعدةٍ كاملةٍ منها، وهذه المستعمرات تقع الآن في جمهوريتي ألبانيا والجبل الأسود.
خامسًا: مستعمرات الجزر الأيونيَّة The Ionian Islands:
هذه الجزر تقع في مواجهة ساحل اليونان الغربي، وعددها سبع جزر، وقد امتلكت البندقية كلَّ هذه الجزر؛ ولكن على مراحل تاريخيَّة مختلفة، وفي التوقيت الذي ندرسه -أعني عام 1477م- كانت البندقية تمتلك ثلاث جزرٍ فقط من الجزر الأيونيَّة؛ هي: جزيرة كورفو Corfu، وجزيرة باكسي Paxi، وهما أقصى الجزر شمالًا، وجزيرة كيثيرا Kythera، وهي أقصى الجزر جنوبًا. وهذه الجزر الأيونيَّة مهمَّة جدًّا؛ حيث إنَّها تقع في مدخل البحر الأدرياتيكي جنوبًا، وبالتالي فحركة الملاحة في هذا البحر المهمِّ مرتبطةٌ بالسيطرة على هذه الجزر، وهذه الجزر كلُّها الآن تابعةٌ لليونان.
سادسًا: مستعمرات إبيروس وغرب اليونان
Epirus & the western Greek Mainland:
كانت البندقية تُسيطر على ساحل اليونان الغربي، وتمتلك هناك عدَّة موانئ مهمَّة، على الرغم من أنَّ الدولة العثمانيَّة كانت تُسيطر على الأرض الداخليَّة في اليونان، وكانت أهمُّ الموانئ التابعة للبندقيَّة هي ليبانتو Lepanto، واسمها الآن نافباكتوس Nafpaktos، وميناء ساچيادا Sagiada، وبارجا Parga.
سابعًا: مستعمرات شبه جزيرة المورة: Morea.
وتُعرف أيضًا بمستعمرات البيلوبونيز The Peloponnese، وكانت الدولة العثمانيَّة قد ضمَّت شبه جزيرة المورة كلَّها، ومع ذلك ظلَّت بعض الموانئ تتبع البندقية، ولم يستطع العثمانيُّون حتى هذا العام أن يدخلوها، مثل ميناء ناڤارينو Navarino، ويُعرف أيضًا باسم بيلوس Pylos، وميناء مودون Modon، وميناء كورون Coron، وميناء برازو دي ماينا نوبليون Nauplion. تُعَدُّ هذه الموانئ خطرة بالنسبة إلى الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّها تمثل تهديدًا مباشرًا لشبه جزيرة المورة والمملوكة بكاملها -باستثناء هذه الموانئ- للعثمانيِّين.
ثامنًا: مستعمرات جزيرة كريت Crete:
وهي من أحصن مستعمرات البندقية، وبها أكثر من مدينة منيعة، أهمُّها قاطبة مدينة كانديا Candia، وكانت هذه المستعمرات تُمثِّل عَقَبة حقيقيَّة لأيِّ غازٍ مهما كانت قوَّته.
تاسعًا: مستعمرات بحر إيجة Aegean Island:
كانت الدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت تُسيطر على بعض جزر هذا البحر المهم، الذي يُعَدُّ المدخل للمضايق البحريَّة التي تُؤدِّي إلى إسطنبول والبحر الأسود، وأهمُّ الجزر التي امتلكتها الدولة العثمانيَّة في هذا البحر هي جزيرة نيجروبونتي Negroponte، التي سيطرت عليها في عام 1470م بعد حربٍ شرسةٍ مع البندقية، ومع ذلك فقد كانت هناك جزرٌ كثيرة في هذا البحر لا تزال خارج السيطرة العثمانيَّة، وكانت البندقية تمتلك من هذه الجزر جزيرة ميكونوس Mykonos، وجزيرة تينوس Tinos، ثم تمكَّنت البندقية عام 1464م وبعده -أي بعد بداية الحرب مع الدولة العثمانيَّة- من السيطرة على جزر ليمنوس Lemnos، وثاسوس Thasos، وإيڤروس Evros، وجدير بالذكر أنَّ دوقيَّة ناكسوس Naxos كانت تُسيطر على عددٍ كبيرٍ من جزر بحر إيجة، بينما كانت شركة معونة چنوة تُسيطر على جزيرة خيوس Chios.
هذه هي مكوِّنات «دولة البحر» البندقية في هذا التوقيت، وقد أغفلنا فيها ذكر المستعمرات التي ضاعت من البندقية قبل 1477م مثل مستعمرات ساحل اليونان الشرقي، ومثل مستعمرات البحر الأسود، كما أغفلنا ذكر المستعمرات التي ستُضاف إلى البندقية بعد هذا العام كمستعمرات قبرص، ومستعمرات جنوب إيطاليا.
يتبيَّن لنا من هذا الشرح أنَّنا أمام إمبراطوريَّة ضخمة، لها إمكانات عظيمة وقادرة، وخاصَّةً مع امتلاك هذه الجمهوريَّة لأعظم أسطول بحري في العالم في هذه الفترة، كما أنَّها تُعدُّ من أغنى إمبراطوريَّات العالم؛ حيث تذكر المصادر أنَّ ميزانيَّتها الماليَّة كانت مماثلة لتلك الخاصَّة بفرنسا، أو إنجلترا، أو إسبانيا[61]، ويُمكن الإشارة هنا إلى شهادة شكسبير William Shakespeare التاريخيَّة وهو يصف حال إمبراطوريَّة البندقية بقوله: «كان البندقي هو المثال الأوحد والأكثر إثارة لقوَّة الثروة التي تُوَلِّد الثروة، ووضعها الخارق في البحر هو رمزٌ لهذه القوَّة. البندقية هي المالك الذي لا يملك أرضًا على الإطلاق»[62].
ولاستكمال الصورة نذكر أنَّ البندقية كانت تُؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ في عددٍ من الإمارات والدول المعاصرة، التي لها علاقةٌ مباشرةٌ بقصَّة الدولة العثمانيَّة، وينبغي أن يأخذ السلطان الفاتح في الاعتبار أنَّ هذه الإمارات ستكون موالية بشكلٍ مباشرٍ للبندقيَّة في حال حدوث تصعيدٍ معها، ويُمكن ذكر أهمِّ هذه العلاقات بشكلٍ مختصرٍ على النحو التالي:
1. دوقيَّة ناكسوس في بحر إيجة.
2. مملكة قبرص.
3. إمارة البغدان.
4. مملكة الآق قوينلو.
5. نبلاء ألبانيا.
6. إمارة زيتا.
7. البابا.
8. مملكة المجر (احتمال أقل للتعاون).
ماذا سيفعل الفاتح إِذَنْ مع هذه الدولة العنكبوتيَّة؟ إنَّ الحلول الدبلوماسيَّة لن تُجدي بمفردها إزاء قوَّةٍ كقوَّة البندقية، وفي الوقت نفسه فإنَّ الصدام المحدود في منطقة من مناطق سيطرة الجمهورية لن يُؤثِّر في وضع الدولة العملاقة، ولهذا لا بُدَّ من وضع خطَّةٍ شاملةٍ تجمع بين الدبلوماسيَّة والحرب، كما تَضْرِب المصالح البندقية في أكثر من مكانٍ في آنٍ واحد، بالإضافة إلى القيام بأعمال تؤدِّي إلى تحجيم الحلفاء، أو على الأقل جعلهم يُفكِّرون قبل الخوض في صدامٍ مع العثمانيِّين..
هذه خطة متعددة الأهداف والوسائل، وينبغي أن تدرس بعناية! وهي موضوع مقالنا القادم![63].
[1] بيتر شوجر أوروبا العثمانية 1354 - 1804 [كتاب] / المترجمون عاصم الدسوقي. - القاهرة : دار الثقافة الجديدة، 1998م صفحة 190.
[2] Murray Hugh Historical account of discoveries and travels in Asia [Book]. - Edinburgh : Constable and Co,, 1820, p. 15.
[3] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، لبنان، دار الجيل، 1992م صفحة 3/113.
[4] Bushkovitch Paul A Concise History of Russia [Book]. - [s.l.] : cambridge university press,, 2012, pp. 42-43.
[5] Miller William Essays on the Latin Orient [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1921, pp. 508-509.
[6] Paul Michael C. Secular Power and the Archbishops of Novgorod up to the Muscovite Conquest [Book]. - [s.l.] : Kritika, 2007, pp. 264-268.
[7] Bushkovitch, 2012, p. 37.
[8] Suny Ronald Grigor The Making of the Georgian Nation [Book] / ed. 2. - [s.l.] : Indiana University Press Bloomington and Indianapolis, 1994, p. 45.
[9] Houtsma M. Th. [et al.] First Encyclopaedia of Islam: 1913-1936 [Book]. - The Netherlands : E.J.Brill, Leiden., 1993, vol. 3, p. 758.
[10] Kondis I. D. Recent Restoration and Preservation of the Monuments of the Knights in Rhodes [Book]. - [s.l.] : British School at Athens,, 1952, vol. 47, pp. 213-216.
[11] Bury J. B The Ottoman Conquest [Book Section] // The Cambridge Modern History / book auth. Ward Adolphus William, Prothero George Walter and Macmillan Stanley Mordaunt Leathes. - UK : Cambridge University Press,, 1902, vol. 1, p. 83.
[12] Miller, 1908, p. 612.
[13] Rice David Talbot, Gunnis Rupert and Rice Tamara Talbot The icons of Cyprus [Book]. - [s.l.] : G. Allen & Unwin ltd, et al., 1937, p. 180.
[14] Miller, 1908, p. 480.
[15] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في تاريخ مصر والقاهرة [كتاب]. - مصر : وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، ۱۹۳۹م صفحة 14/295.
[16] Finlay George The history of Greece under Othoman and Venetian Domination, A. D. 1453-1821 [Book]. - Edinburgh And London : William Blackwood and sons, 1856, pp. 86-89.
[17] ابن خلدون: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر (تاريخ ابن خلدون)، تحقيق: خليل شحادة، بيروت، لبنان: دار الفكر، 1988م الصفحات 5/634-635.
[18] أوزتونا: المدخل إلى التاريخ التركي، المترجمون أرشد الهرمزي. - [مكان غير معروف] : الدار العربية للموسوعات، 2005م الصفحات 387-401.
[19] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م الصفحات 1/105-106.
[20] ابن حجر العسقلاني: إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق: د حسن حبشي - مصر : المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1969م الصفحات 1/491-492.
[21] أوزتونا، 1988م صفحة 1/129.
[22] ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور، المترجمون محمد مصطفى. - فيسبادن : فرانز شتاينر، 1975م صفحة 2/420.
[23] ابن إياس، 1975م صفحة 2/434، 435.
[24] الملطي: نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري [كتاب]. - بيروت، لبنان : المكتبة العصرية للطباعة والنشر ، 2002م صفحة 6/229.
[25] ابن إياس، 1975م صفحة 2/436، 437.
[26] دهمان: بين المماليك والعثمانيين الأتراك [كتاب]. - دمشق : دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، 1986م صفحة 27.
[27] دهمان، 1986م صفحة 28.
[28] ابن إياس، 1975م الصفحات 2/455- 476.
[29] البصروي: تاريخ البصروي، تحقيق: أكرم حسن العلبي [كتاب]. - دمشق، سوريا : دار المأمون للتراث، 1988م الصفحات 28-53.
[30] الملطيّ، 2002م صفحة 7/22، 44.
[31] الملطيّ، 2002م صفحة 6/232.
[32] ابن تغري بردي، ۱۹۳۹م صفحة 16/292.
[33] القرماني: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: الدكتور أحمد حطيط، الدكتور فهمي السعيد- [مكان غير معروف]: عالم الكتب، 1992 صفحة 3/101.
[34] دهمان، 1986 صفحة 27.
[35] السخاوي، 1992م الصفحات 3/274-275.
[36] القرماني، 1992م صفحة 3/102.
[37] ابن إياس، 1975م صفحة 4/374.
[38] ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط- دمشق – بيروت : دار ابن كثير، 1986م صفحة 10/40.
[39] البصروي، 1988م صفحة 31.
[40] ابن العماد، 1986م الصفحات 10/23-24.
[41] السخاوي، 1992م صفحة 3/274.
[42] الملطيّ، 2002م صفحة 6/235.
[43] ابن إياس، 1975م صفحة 3/86.
[44] خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، إشراف وتقديم: أكمل الدين إحسان أوغلي تدقيق: صالح سعداوي صالح، إعداد الفهارس: صلاح الدين أويغور [كتاب]. - إستانبول – تركيا : مكتبة إرسيكا، 2010م صفحة 2/263.
[45] مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، تحقيق: عدنان يونس عبد المجيد نباتة- عمان: مكتبة دنديس، 1999م صفحة 2/255.
[46] الملطيّ، 2002م صفحة 7/22.
[47] ابن قيم الجوزية: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء)- المغرب: دار المعرفة، 1997م صفحة 153.
[48] المعري: اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي، تحقيق: محمد سعيد المولوي [كتاب]. - [مكان غير معروف] : مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2008م صفحة 1173.
[49] السبكي: معيد النعم ومبيد النقم [كتاب]. - بيروت - لبنان : مؤسسة الكتب الثقافية، 1986م صفحة 70.
[50] أوزتونا، 1988م صفحة 1/172.
[51] Wild Michael Baedeker's Constantinople and Asia Minor [Book]. - Nc, USA : Lulu Press, 2015.., 2017, p. 110.
[52] Woodward Jamie The Physical Geography of the Mediterranean [Book]. - [s.l.] : oxford university press, 2009, p. 358.
[53] Thallóczy Ludwig Jajcza (bánság, vár és város) története 1450–1527 [Jajce (Banate, fort and city) history 1450–1527] (in Hungarian) [Book]. - [s.l.] : Históriaantik Könyvesház Kiadó, reprint, 1915, p. 103.
[54] Maletić Mihailo [Montenegro] Crna Gora (in Serbian) [Book]. - Belgrade : Književne novine, 1976, p. 172.
[55] Lane Frederic C. Family Partnerships and Joint Ventures in the Venetian Republic [Journal]. - [s.l.] : Journal of Economic History, 1944, p. 179.
[56] Arbel Benjamin Venice's Maritime Empire in the Early Modern Period [Book Section] // A Companion to Venetian History, 1400-1797 / book auth. Dursteler Eric. - Leiden, The Netherlands : BRILL, 2013, p. 133.
[57] Miller, 1908, p. 480.
[58] Giusti Raffaello Historical archive of Malta [Archivio storico di Malta] in Italian [Book]. - Roma : [s.n.], 1929, p. 252.
[59] Miller, 1908, p. 480.
[60] Dursteler Eric R A Companion to Venetian History, 1400-1797 [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2013.
[61] Scott Bruce R. Capitalism: Its Origins and Evolution as a System of Governance [Book]. - [s.l.] : Springer Science & Business Media, 2011, p. 160.
[62] Nuttall A. D. A New Mimesis, Shakespeare and the representation of reality [Book]. - [s.l.] : London and New York: Methuen, 1983, p. 121.
[63] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 583- 617.
التعليقات
إرسال تعليقك