التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
على الرغم من أن سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين كان زلزالًا هز أوروبا كلها والعالم، إلا أنه كان زلزالًا بلا توابع! أو كانت توابعه يسيرة.
على الرغم من أنَّ سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين كان زلزالًا هزَّ أوروبَّا كلَّها والعالم، إلَّا أنَّه كان زلزالًا بلا توابع! أو كانت توابعه يسيرة بالقياس إلى حجمه؛ ذلك أنَّ الغرب الكاثوليكي لم يُعبِّر عن غضبه إلَّا من خلال المرثيَّات والخطابات والبكاء والنحيب، ولم يكن هناك ردُّ فعلٍ عسكريٍّ يُوازي الحدث، وكذلك فعل الأرثوذكس في الدولة العثمانية وحولها، وهذا أعطى بقيَّة عام 1453م -عام الفتح- طابعًا هادئًا تمامًا.
وفي الوقت نفسه فإنَّ الدولة العثمانية نفسها كانت تحتاج إلى فترةٍ مناسبةٍ من الراحة والسكينة؛ وذلك لتستعيد نشاطها وعافيتها بعد الجراح الكثيرة التي أصابتها أثناء الحصار الطويل، وكانت تحتاج وقتًا كذلك لإعادة بناء تحصينات القسطنطينيَّة المنهارة، وأيضًا لإعمار المدينة وإعدادها لتكون عاصمةً للدولة.
لهذه الأسباب ليس عجيبًا أن نجد أنَّ الدولة العثمانيَّة قَبِلَت في أبريل عام 1454م أن تعقد معاهدةً تجاريَّةً مع البندقيَّة، بل تُعطيها الامتيازات التجاريَّة نفسها التي كانت تجنيها البندقيَّة من الدولة البيزنطيَّة، وذلك مقابل ضريبة سنويَّةٍ يدفعها البنادقة إلى الدولة العثمانيَّة[1]، وفعلت الشيء نفسه مع جزيرة ناكسوس Naxos في بحر إيجة، وهي جزيرةٌ تُقاد ببنادقة مستقلِّين عن الجمهوريَّة، ولكنَّهم يُحالفونها[2]، وكان من الواضح أنَّ السلطان محمدًا الفاتح يُريد تهدئة الأجواء في بحر إيجة، ويُريد كذلك تحييد القوى الإيطاليَّة المؤثِّرة؛ وذلك لأنَّه كان يستعدُّ لجولةٍ جديدةٍ في صراعه مع القوى المعادية للدولة العثمانيَّة، وكانت القوى التي قرَّر أن يُواجهها في الفترة القادمة هي قوَّة المجر، وكانت ساحة الصدام معها على أرض صربيا!
كانت المجر هي القوَّة الكبرى في شرق أوروبَّا إلى جوار الدولة العثمانيَّة، وكان من الطبيعي أن يجري التنافس بينهما على الهيمنة على هذه المنطقة الواسعة. والواقع أنَّ الوضع كان معقَّدًا؛ فشرق أوروبَّا كلُّه تقريبًا أرثوذكسي، أمَّا المجر فهي كاثوليكيَّة، والعثمانيُّون مسلمون، فكان على الأقطار الأرثوذكسيَّة الكثيرة في شرق أوروبَّا أن تخضع لسيادة كاثوليك أو مسلمين! ولمـَّا كان العثمانيُّون لا يتعرَّضون لدين الناس، ولا يُكْرِهونهم على تغيير شرائعهم، ولا يُمارسون معهم أيَّ ضغوطٍ عقائديَّة، وذلك كله على عكس الكاثوليك، كانت الشعوب الأرثوذكسية بشكلٍ عامٍّ ترغب في سيادة العثمانيِّين بدلًا من المجر، لكنَّ هذه الشعوب -على الأغلب- لم يكن لها حولٌ ولا قوَّة؛ إنَّما كانت تتبع الأقوى رغمًا عن إرادتها، اللهمَّ إلا بعض المحاولات التي كانت تُبْذَل من آنٍ إلى آخر، كتلك التي رأيناها في هذه الفترة من صربيا!
كانت صربيا تاريخيًّا إحدى القوى المؤثِّرة في المنطقة، وكانت تراودها أحلامٌ بإقامة إمبراطوريَّةٍ صربيَّةٍ كبيرةٍ تُسيطر على شرق أوروبَّا كلِّه، بل كانت ترغب في ابتلاع الدولة البيزنطيَّة نفسها، ولكن على مدار القرون الأخيرة، ونتيجة نموِّ الدولة العثمانيَّة، وكذلك نموِّ المجر، بالإضافة إلى الخلافات الداخليَّة في صربيا والانشقاقات- تفكَّكت صربيا ولم يعد لها شأنٌ يُذْكَر، ومع ذلك فمنذ ولاية زعيمها الحالي چورچ برانكوڤيتش George Branković عام 1427م والإمارة تُحاول أن تجد لها مكانًا بين الكبار!
كانت صربيا تابعةً للدولة العثمانيَّة منذ هزيمتها أمام السلطان مراد الأول عام 1389م في موقعة كوسوڤو الأولى، ومع ذلك فقد تكرَّرت محاولاتها لنقض العهد مع العثمانيِّين، وكانت أكبر هذه المحاولات اشتراك صربيا في الحملة الصليبيَّة الغادرة على الدولة العثمانيَّة عام 1444م في موقعة ڤارنا الشهيرة، التي انتهت بخسارةٍ فادحةٍ للصليبيِّين، وعودة صربيا إلى سيادة الدولة العثمانيَّة، ومع ذلك فقد مرَّ بنا أنَّ چورچ برانكوڤيتش استغلَّ موت السلطان مراد الثاني وولاية ابنه محمد الفاتح عام 1451م ليغزو الأراضي العثمانيَّة، ويحتلَّ مدينة كروشيڤاتس، وعلى الرغم من هذا التعدِّي لم تتحرَّك الجيوش العثمانيَّة صوبه؛ وذلك لانشغال السلطان الجديد بتدبير أمور الدولة في الأناضول، ثم انشغاله بعد ذلك بفتح القسطنطينيَّة، بل قَبِل السلطان الفاتح بأن تدفع صربيا الجزية له بعد فتح القسطنطينية في مقابل بقاء چورچ برانكوڤيتش أميرًا على المناطق التي كان يحكمها أيَّام مراد الثاني، ولكن لم يكن متوقَّعًا من السلطان محمد الفاتح أن ينسى التعدِّيَّات الصربيَّة الأخيرة على الدولة العثمانيَّة؛ إنَّما كانت المسألةُ مسألةَ وقتٍ وأولويَّات، والآن بعد هدوء الحال بعد فتح القسطنطينيَّة حان وقت استرداد ما فقدته الدولة العثمانيَّة من أراضٍ في شرق صربيا.
صار توجُّه السلطان محمد الفاتح إلى شرق صربيا حتميًّا إذن! فمهمَّة استرداد الأراضي العثمانيَّة هناك مع مهمَّة إيقاف المدِّ المجري هناك جعلت الحرب هناك ضروريَّة، خاصَّةً أنَّ المجر قد نكثت عهدها مع الدولة العثمانيَّة أثناء حصار العثمانيِّين للقسطنطينيَّة، وقد مرَّ بنا أنَّها أرسلت إلى السلطان محمد الفاتح تُخبره بأنَّها لن تُكْمِل هدنة السنوات الثلاث التي اتَّفق عليها الطرفان قبل حصار القسطنطينيَّة، وكان الموقف حرجًا للغاية؛ لأنَّ المجر كانت تُهدِّد كذلك بغزو الدولة العثمانيَّة إن لم ترفع الحصار عن القسطنطينيَّة، لكن لم تسعفها الظروف للقيام بهذا الغزو.
يُضاف إلى ما سبق أنَّ مملكة المجر كانت تحتلُّ بلجراد، وهي المدينة الرئيسة في صربيا، بل المدينة الرئيسة في وسط أوروبَّا كلِّه، وذلك منذ عام 1427م[3]، فهذا يُعطيها فرصةً للتوسُّع في صربيا، خاصَّةً أنَّ هناك خلافًا كبيرًا بين قائدها العسكري هونيادي وزعيم صربيا چورچ برانكوڤيتش، وقد مرَّ بنا قيام برانكوڤيتش بأسر هونيادي بعد موقعة كوسوڤو الثانية عام 1448م، ممَّا وتَّر العلاقة جدًّا بين المجر وصربيا.
كل هذه الملابسات جعلت السلطان الفاتح يُعطي أولويَّةً واضحةً لملفِّ صربيا بعد انتهائه من فتح القسطنطينيَّة، ومُقَدِّمًا هذا الملفَّ المهمَّ على ملفِّ ألبانيا وقائدها المتمرِّد إسكندر بك، على أساس أنَّ صربيا قريبةٌ جدًّا من عمق الأراضي العثمانيَّة على عكس ألبانيا البعيدة، كما أنَّ دخول المجر في المعادلة جعل الأمر محسومًا، وسنرى أنَّ السنوات الخمس القادمة -أي من سنة 1454 إلى سنة 1459م- ستشهد نشاطًا ملحوظًا من الدولة العثمانيَّة في منطقة صربيا، إلى جوار اهتمامها ببعض الملفَّات الأخرى.
كانت صربيا في هذه المرحلة التاريخيَّة من أهمِّ الدول في شرق ووسط أوروبَّا؛ لأنَّها تقع في مفترق الطرق، ومن الصعب على إمبراطوريَّةٍ واسعةٍ أن تتكوَّن دون أن تحلَّ مشكلة صربيا؛ إمَّا عن طريق الضمِّ، أو التحالف والتبعيَّة، وتقع المجر في شمال صربيا، وتقع بلغاريا وكوسوڤو -التابعتان في ذلك الوقت للدولة العثمانيَّة- في شرق وجنوب صربيا، وبالتالي فصربيا فاصلة بين أكبر قوَّتين في المنطقة: الدولة العثمانيَّة والمجر، وكان من المتوقَّع أن يتنافسا على ضمِّها، وعلى الرغم من نجاح الدولة العثمانيَّة في جعل صربيا تابعةً لها منذ نهايات القرن الرابع عشر فإنَّ المجر كانت لها الهيمنة الكبرى على النصف الشمالي من صربيا وإلى مدينة بلجراد.
يُمكن تقسيم صربيا إلى قسمين متقاربين في المساحة: شمالي وجنوبي، ويفصل بينهما نهر الدانوب ونهر ساڤا، وعند التقاء النهرين تقع مدينة بلجراد المهمَّة، التي يصفها چيمس بيل James Bell، وهو جغرافي اسكتلندي من علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بأنَّ المدينة محصَّنة من كلِّ جانب، وتُعَدُّ مفتاح شمال صربيا، ولها أهميَّةٌ في التاريخ العسكري لأوروبَّا[4]. هذا يعني أنَّ الضمَّ العسكري الحقيقي لصربيا لن يكون كاملًا إلَّا بعد السيطرة على هذه المدينة المنيعة، ولهذا كانت هذه المحطَّة هي الهدف الاستراتيجي الأبعد للسلطان محمد الفاتح للوصول إلى صربيا، بل إنَّ بعض المصادر التاريخيَّة تُطلق على بلجراد «مفتاح المجر»[5]؛ لأنَّ السيطرة عليها تجعل الطريق مفتوحًا إلى العاصمة المجرية بودابست الموجودة على بعد حوالي مائتي كيلو متر إلى الشمال منها، وهذا يعني أنَّ الصدام مع المجر يتطَّلب سيطرةً كاملةً على بلجراد.
وإذا كانت بلجراد هي مفتاح شمال صربيا والمجر، فإنَّ جنوب صربيا مليءٌ هو الآخر بالمدن المهمَّة والاستراتيجيَّة، وكان معظم هذا الجنوب في متناول القوَّة العسكريَّة العثمانيَّة، إلَّا أنَّ التطوُّرات الأخيرة في نهاية عصر مراد الثاني وبدايات عصر الفاتح جعلت السيطرة عليه ضعيفة، وهذا أدَّى إلى التعدِّيَّات التي قام بها چورچ برانكوڤيتش على المدن التابعة للدولة العثمانيَّة في جنوب صربيا.
وعليه، فإنَّه وإن كان الهدف الاستراتيجي الأكبر للسلطان الفاتح هو الوصول إلى بلجراد، إلَّا أنَّ تحقيق هذا الهدف لن يكون إلَّا بالسيطرة الحقيقيَّة الجادَّة على جنوب صربيا، ومِنْ ثَمَّ كان الهدف الأوَّل والمرحلي في هذه الفترة هو وضع قدمٍ ثابتةٍ في هذا الجنوب.
لم يشأ الفاتح أن يُخْرِج حملةً كبيرةً لهذا الهدف، وكان يطمع في أن تُؤدِّي هذه الخطوة العسكريَّة إلى انصياع صربيا إلى سيادته دون قتالٍ كثير، ومع ذلك فقد أعطى الفاتح للحملة أهميَّةً كبرى بخروجه بنفسه على رأسها[6]. استطاعت الحملة في صيف 1454م أن تُسيطر على قلعتين مهمَّتين في جنوب شرق صربيا؛ وهما: قلعة أوستروڤيتسا Ostrovitsa، وقلعة أومول Omol[7]. ومع أنَّ السلطان الفاتح كان حريصًا على أن تتحرَّك قوَّاته العسكريَّة في المناطق التي يُطالب بها فقط، التي أخذها چورچ برانكوڤيتش عند موت مراد الثاني، وكان حريصًا على بقاء المعاهدة التي يدفع بها الزعيم الصربي الجزية إلى الدولة العثمانيَّة، على الرغم من هذا الحرص فإنَّ برانكوڤيتش لم يطمئن لهذه الحملة العسكريَّة، واضطرَّ إلى الهرب إلى المجر لحين انتهاء الحملة، مع أنَّه لم يكن على وفاقٍ مع هذه المملكة[8].
لم يكن الفاتح مستعدًّا لحربٍ طويلةٍ في صربيا في هذا العام، ولذلك ترك حاميةً صغيرةً في هذه المنطقة وعاد أدراجه إلى عاصمته، ويبدو أنَّ الحامية الصغيرة أغرت المجر وصربيا للهجوم عليها بعد عودة السلطان، وهذا ما حدث حيث تعرَّضت الحامية العثمانيَّة لهزيمتين غير كبيرتين، فكانت الأولى عند مدينة ليسكوڤاك Leskovac في 24 سبتمبر، والأخرى عند مدينة كروشيڤاتس Kruševac في 2 أكتوبر من عام 1454م[9]، والذي يدعونا إلى عدم تضخيم الهزيمة العثمانيَّة هو أنَّ الدولة العثمانيَّة لم تفقد القلعتين اللتين سيطرت عليهما في صيف هذا العام، ولكن كانت الهزيمتان إنذارًا للفاتح بإعطاء أهميَّةٍ أكبر لهذه المنطقة. كان النجاح في هذه الحملة جزئيًّا إذن؛ فقد وضع العثمانيُّون قدمًا في جنوب صربيا، لكنَّها لم تكن قدمًا ثابتة، ومع ذلك فقد حقَّق الجيش العثماني نصرًا آخر في هذا العام، حيث تحرَّك الأسطول البحري في البحر الأسود، فوصل إلى ميناء كفة في شبه جزيرة القرم شمال البحر الأسود وهدَّده بقوَّة، وهذا الميناء تابعٌ لجمهوريَّة چنوة[10]، بل أهمُّ من ذلك؛ استطاع الأسطول أن يُسيطر على مدينة أكرمان Akkerman البغدانيَّة[11]، وكانت إمارة البغدان تابعةً للمجر، وبالتالي فهي طرفٌ في الصراع، وهذه المدينة مهمَّةٌ للغاية لأنَّها تقع بالقرب من مصبِّ نهر الدانوب في البحر الأسود، وبالتالي فهي مخرج المجر (الواقعة على نهر الدانوب في وسط أوروبَّا) إلى البحر الأسود، والسيطرة العثمانيَّة عليها ستخنق التجارة البحريَّة للمجر، كما أنَّها ستُؤثِّر سلبًا في البغدان، ممَّا قد يدفعها إلى تغيير ولاءها من المجر إلى العثمانيِّين، وهو ما حدث بالفعل في عام 1455م ممَّا مثَّل نجاحًا كبيرًا للدولة العثمانيَّة[12].
هكذا مرَّ عام 1454م دون أحداثٍ كبرى، وإن كان قد ظهر توجُّه الدولة العثمانيَّة في الفترة القادمة؛ إذ كان من الواضح أنَّ اهتمامًا كبيرًا سيُوَجَّه إلى أمرين في الأساس: الأوَّل هو حسم السيطرة على منطقة جنوب صربيا، والثاني هو الاهتمام بالأسطول البحري ومحاولة تنفيذ عمليَّاتٍ نوعيَّةٍ خاصَّةٍ على الممتلكات الچنويَّة؛ حيث ما زالت الجمهوريَّة في عداءٍ معلنٍ مع الدولة العثمانيَّة -باستثناء جالاتا- بينما أدَّت المعاهدة التجاريَّة مع البندقيَّة إلى تهدئة العلاقات معها، ولو بشكلٍ مؤقَّت.
في ربيع 1455م استقبل العثمانيُّون خبرًا غير سارٍّ من روما!
لقد تولَّى بابا جديد أمور الڤاتيكان بعد موت البابا نيكولاس الخامس يوم 24 مارس 1455م! كان البابا الجديد هو كاليكستوس الثالث Callixtus III، وقد انتُخِب في 8 أبريل 1455م كأوَّل بابا من أصول إسبانيَّة[13]. لقد كان البابا الراحل غير مهتمٍّ بالأمور السياسيَّة، ومِنْ ثَمَّ لم يكن داعمًا بشكلٍ مناسبٍ لحرب الدولة العثمانيَّة، ورأينا تراخيه في مسألة حصار القسطنطينيَّة، وهذا الفتور الذي كان يُعانيه كان ينتقل بشكلٍ تلقائيٍّ إلى زعماء أوروبَّا وأمرائها، فلم نجد لهم حماسةً تُذْكَر في مواجهة النموِّ العثماني، وهذا ولا شَكَّ كان في صالح الدولة العثمانيَّة. الآن تولَّى البابا الجديد كاليكستوس الثالث، وهو على النقيض تمامًا من البابا السابق له؛ فقد كان من أكثر الباباوات في تاريخ الڤاتيكان حماسةً لحرب المسلمين، وقد بلغ من درجة حماسه أنَّه كتب إلى ملك المجر يدعوه إلى إخراج العثمانيِّين ليس من القسطنطينية فقط؛ ولكن من أوروبَّا كلِّها، وليس العجيب في حجم الهدف الذي يتحرَّك من أجله، ولكن العجيب حقًّا هو توقيته! فقد كتب هذا الخطاب لملك المجر في يوم 14 أبريل 1455م؛ أي بعد انتخابه بستَّة أيَّامٍ فقط، بل قبل أن يُنصَّب رسميًّا، حيث نُصِّب في يوم 20 أبريل[14]! إلى هذه الدرجة نراه مدفوعًا لحرب العثمانيِّين. لعلَّ هذه الحماسة ترجع إلى أصوله الإسبانيَّة؛ فقد كانت إسبانيا في ذلك الوقت تشهد حروب الاسترداد، وكان التوجُّه الديني العام في إسبانيا يدفع في اتِّجاه كراهية وحرب المسلمين إلى أقصى درجة، وكانت هذه هي الأيَّام الأخيرة من عمر الأندلس المسلمة. ولم تقف حماسة هذا البابا عند حدِّ الخطب والمقالات؛ إنَّما أخذ قراراتٍ حاسمةً كان لها أكبر الأثر في علاقة أوروبَّا بالدولة العثمانيَّة، فقد ألغى فور تنصيبه عدَّة مشاريع إعمار في روما، ووجَّه كلَّ الأموال التي خُصِّصت لهذه الأغراض إلى تجهيز حملةٍ صليبيَّةٍ على العثمانيِّين، ثم أخرج القساوسة الرسل إلى زعماء أوروبَّا في إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، والمجر، والبرتغال، وأراجون الإسبانيَّة يدعوهم جميعًا إلى المشاركة بقوَّةٍ في حملةٍ صليبية جديدةٍ على العثمانيِّين، ويدعوهم كذلك إلى توجيه الصلوات في الكنائس الأوروبِّيَّة كلِّها إلى التركيز في الدعاء لأجل نجاح هذه الحملة الصليبيَّة[15]، لقد لخَّص البابا كاليكستوس الثالث بنفسه الغرضَ من انتخابه في جملةٍ واحدة: «لقد انتُخِبْتُ لإبادة أعداء الإيمان»[16]!
كان هذا هو الوضع الجديد، ولا شَكَّ أنَّ على الدولة العثمانيَّة أن تأخذ ردود الفعل المناسبة لهذا التطوُّر الجديد في الأحداث. نعم نحن لا نُدرك بَعْدُ ردودَ الفعل عند الأوروبِّيِّين لهذه الحماسة الدينيَّة عند البابا الجديد، ولكن لا بُدَّ من فرض احتمال أن يتعاون الكلُّ -أو البعض- معه، وبالتالي إعداد العدَّة لمواجهة ذلك.
كان تركيز الفاتح الأساس في هذه المرحلة هو السيطرة على جنوب صربيا، وقد وسَّع الفاتح دائرة اهتمامه؛ فشمل بها الجنوب الأقصى لصربيا، وهي منطقة نوڤو بردو Novo Brdo، وهي منطقةٌ تابعةٌ لكوسوڤو الآن، وتقع في شمال شرقها، وكانت من المناطق الغنيَّة بمناجم الفِضَّة، وكانت أحد مصادر ثراء چورچ برانكوڤيتش، بالإضافة إلى كونها فاصلةً بين صربيا وألبانيا، وبالتالي فالسيطرة عليها تقطع طرق التعاون بين المجر وصربيا من ناحية، وبين إسكندر بك في ألبانيا من ناحيةٍ أخرى[17].
تحرَّك الفاتح بنفسه على رأس حملةٍ همايونيَّةٍ في صيف 1455م إلى صربيا[18]، وكانت وجهته واضحةً في هذه الحملة؛ إذ حاصر مدينة نوڤو بردو فور وصوله لصربيا، وبعد أربعين يومًا من المقاومة سقطت المدينة في أوَّل يونيو 1455م[19]. كانت السهولة التي سقطت بها المدينة الغنيَّة بمناجم الفضَّة مخيفةً لچورچ برانكوڤيتش، وعَلِم أنَّ الخطوة القادمة قد تكون تجاوز المناطق التي يُطالب بها الفاتح إلى المناطق التي يحكمها برانكوڤيتش أيَّام مراد الثاني، ولذلك طلب برانكوڤيتش التفاوض مع السلطان حول الوضع الجديد. عُقِدَت معاهدة سلامٍ بين الدولة العثمانيَّة وصربيا، وفيها أُقِرَّ الوضع الحالي؛ حيث تُسيطر القوَّات العثمانيَّة على جنوب صربيا، وتبقى أراضي برانكوڤيتش الشماليَّة في يده، بالإضافة إلى بعض المناطق جنوب الدانوب، منها مدينة سمندريَّة Smederevo المهمَّة، كما ستُعيد الدولة العثمانيَّة قلعتي أوستروڤيتسا وأومول إلى الصرب، وذلك في مقابل أن تزيد الجزية المفروضة على صربيا إلى ثلاثين ألف دوكا ذهبيَّة[20]. كانت هذه النتائج مهمَّةً للدولة العثمانيَّة؛ حيث رسَّخت وجود قواعد لها في جنوب صربيا، وسيطرت على مناجم الفضة، وقطعت الاتصالات بين المجر وألبانيا بالسيطرة على نوڤو بردو الواقعة في الطريق بينهما، وهذا كله يجعل الطريق إلى بلجراد أسهل، آخذين في الاعتبار أنَّ بلجراد كانت محتلَّةً من المجر، وبالتالي لم تدخل في المعاهدة التي بين السلطان الفاتح وبرانكوڤيتش، وسيظلُّ من حقِّ الدولة العثمانيَّة أن تُهاجمها في الوقت الذي تُريد.
أثار هذا النصر العثماني مخاوفَ الأوروبِّيِّين، وأدركوا أنَّ تحذيرات البابا كاليكستوس الثالث جادَّة، ومع ذلك فمِنْ لطف الله عز وجل بالدولة العثمانيَّة أنَّ المشاكل الداخليَّة بين الممالك والدول الأوروبِّيَّة كانت عميقة، وبالتالي لم يكن سهلًا أن تتكوَّن حملةٌ صليبيَّةٌ موحَّدة لحرب الدولة العثمانيَّة، ولقد كان الشقاق كبيرًا بين إمبراطور النمسا فريدريك الثالث وملك المجر لاديسلاس، ممَّا جعل التعاون بينهما مستحيلًا، ولم يستطع مبعوث البابا إليهما أن يُحقِّق الصلح بينهما[21]، والذي ذكرناه عن علاقة النمسا بالمجر نذكره -أيضًا- عن علاقة الممالك الإيطاليَّة ببعضها البعض، وعن علاقة إنجلترا مع فرنسا، وكذلك عن علاقة فرنسا مع إسبانيا، وهذا الشقاق هوَّن إلى حدٍّ كبيرٍ من غضبة الأوروبِّيِّين من توسُّعات الدولة العثمانيَّة. ومع ذلك لم تُضْعِف هذه النزاعات الأوروبِّيَّة من عزيمة البابا الجديد، فقرَّر أن يتولَّى هو بنفسه بناء أسطولٍ خاصٍّ به ليُستخدم في الحملة الصليبيَّة إنْ أبى زعماء أوروبَّا المشاركة، وجَمَع التبرُّعات لهذا الأسطول، ومِنْ ثَمَّ أصدر أوامره ببناء ثلاث عشرة سفينةً عسكريَّةً لهذا الغرض[22].
لم تكن هذه الاستعدادات الباباويَّة تتمُّ في الخفاء، بل على العكس كانت تسبقها دعايات قويَّة لتشجيع الجميع، قادة وجنود، على المشاركة في الحملة، ومِنْ ثَمَّ فقد وصلت الأنباء إلى السلطان محمد الفاتح، وكان عليه أن يأخذ ردَّ الفعل المناسب.
كان من الضروري أن يُحْكِم السلطان محمد الفاتح السيطرة على بحر إيجة، أو على الأقل على الجزء الشمالي منه، وذلك لتأمين المضايق البحريَّة التي تقود إلى إسطنبول، كما تقود إلى البحر الأسود؛ لأنَّه من المتوقَّع أن يضرب الأسطول الباباوي هذه المنطقة ويُحاول اجتياز المضايق لاحتلال إسطنبول، أو للتواصل مع المستعمرات الچنويَّة الموجودة في البحر الأسود، ولذلك كان على الفاتح أن يبذل قصارى جهده في السيطرة على شمال بحر إيجة، وكذلك على الموانئ المطلَّة عليه، سواءٌ على الساحل الأناضولي، أم الساحل الأوروبِّي.
بالإضافة إلى مخاوف السلطان من هجوم الأسطول الباباوي على المضايق كانت هناك مخاوف عثمانيَّة أخرى من فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس؛ فهؤلاء يتبعون البابا بشكلٍ مباشر، ومن المتوقَّع أن يُشاركوا معه في الحملة، ولهم قواعد قريبة في جنوب بحر إيجة، ولهم قلاعٌ قويَّة من الصعب اختراقها، بالإضافة إلى خبرتهم البحريَّة الكبيرة، هذا كله دفع الفاتح إلى محاولة احتواء هؤلاء الفرسان قبل الصدام، فأرسل إليهم يُجدِّد طلبه السابق بأن يدفعوا الجزية كعلامةٍ على سيادته عليهم، ولكنَّهم قابلوا هذا الطلب بالرفض كما فعلوا بعد فتح القسطنطينيَّة[23].
لم يكن أمام السلطان محمد الفاتح إلَّا أن يُخْرِج أسطوله الكبير بقيادة حمزة بك لأداء مهمَّتين كبيرتين: الأولى هي مواجهة فرسان القديس يوحنا ومحاولة إخضاعهم للدولة، والثانية هي السيطرة على بعض القواعد في بحر إيجة للاستعداد لقدوم الأسطول الباباوي[24].
مع أنَّ بدايات حركة الأسطول كانت تبدو ناجحة، فإنَّه في النهاية خسر أمام فرسان القديس يوحنا في جزيرة كوس Kos التابعة لهم، بل تتبَّعوا الأسطول العثماني فأسقطوا منه سفينةً عند جزيرة خيوس، ووصلت الأنباء المزعجة إلى السلطان الفاتح، فعَزَل قائد الأسطول حمزة بك، ووضع مكانه يونس بك ليبدأ المحاولات من جديد[25].
لم يكن خبر هزيمة الأسطول العثماني هو الخبر السيِّء الوحيد الذي وصل إلى أدرنة في هذه الفترة؛ إنَّما وصل إليها كذلك خبر حصار قوَّات إسكندر بك الألباني لمدينة بيرات Berat الاستراتيجيَّة، وهي مدينة في شرق ألبانيا كانت تحت سيطرة الجيش العثماني، ويبدو أنَّ إسكندر بك قد هاله ما حقَّقه السلطان محمد الفاتح من نجاحٍ في جنوب صربيا وشمال كوسوڤو، فقرَّر القيام بخطوةٍ استباقيَّةٍ بحصار هذه المدينة تحسُّبًا لاقتحام الجيش العثماني لألبانيا. كان الموقف صعبًا على الدولة العثمانيَّة، وبسرعةٍ أرسل السلطان محمد الفاتح كتيبةً عسكريَّةً بقيادة عيسى بك إيڤرينوز Issa beg Evrenoz، ومكوَّنة من عشرين ألف مقاتل، وذلك في منتصف يوليو 1455م، وقد استطاعت هذه الفرقة بعد عدَّة أيَّامٍ مباغتة الجيش الألباني، ودخلت معه في صراعٍ عنيفٍ كانت ضحاياه أكثر من خمسة آلاف ألبانيّ من جيش إسكندر بك، ورُفِع الحصار عن المدينة العثمانيَّة[26][27]. حقَّق انتصار العثمانيِّين في بيرات -وكان في يوم 26 يوليو- أصداءً واسعةً في أوروبَّا، خاصَّةً في إيطاليا، وقرَّر ألفونسو الخامس ملك نابولي تقديم كلَّ ما يُمكنه لمساعدة إسكندر بك[28].
وعلى المستوى العثماني، فقد رفع هذا النصر من معنويَّات الجيش العثماني بعد انخفاضها نتيجة الهزيمة من فرسان القديس يوحنا، وهذا أعطاهم دفعةً إيجابيَّةً لمحاولة إعادة الكَرَّة للسيطرة على شمال بحر إيجة، ولكن قبل هذه الخطوة آثر الفاتح أن يطمئنَّ إلى وضع إمارة البغدان الواقعة على الشاطئ الغربي للبحر الأسود، والمتحكِّمة في مصبِّ نهر الدانوب في البحر الأسود، فعلى الرغم من سيطرة العثمانيِّين على ميناء أكرمان الاستراتيجي في هذه المنطقة فإنَّ تعاون البغدانيِّين مع المجر يُمكن أن يدفع المجر إلى إرسال أساطيل عسكريَّة نهريَّة عبر الدانوب، ومِنْ ثَمَّ إلى البحر الأسود، لتشترك مع أسطول البابا في الضغط على إسطنبول من ناحيتين: البحر الأسود، وبحر إيجة. لهذا أرسل الفاتح إلى أمير البغدان بيتر آرون Peter Aaron يعرض عليه الدخول تحت سيادته في مقابل جزيةٍ يدفعها الأمير إلى الدولة العثمانيَّة، وفي المقابل ستكون هناك حمايةٌ من الدولة العثمانيَّة للإمارة، بالإضافة إلى تسهيلات تجاريَّة كبيرة، وقد تردَّد البغدانيُّون في البداية، مع كونهم يُؤثرون السيادة الإسلاميَّة على السيادة الكاثوليكيَّة المجريَّة؛ لأنَّهم من الأرثوذكس، ولكنَّهم في النهاية وافقوا على هذه السيادة العثمانيَّة، وبذلك أَمَّن السلطان الفاتح هذا الجانب ولو بشكلٍ مؤقَّت، ولقد جاءت موافقة البغدان النهائيَّة في عام 1456م، وإن كانت العلاقات التجاريَّة كانت قد بدأت بالفعل من عام 1455م، وكانت الجزية المقرَّرة عليهم ألفي دوكا ذهبيَّة كلَّ عام[29][30]، وهكذا تفرَّغ الفاتح في بقيَّة عام 1455م لعمليَّاته البحريَّة في بحر إيجة.
جاءت الظروف مواتيةً للسلطان محمد الفاتح في هذه الفترة؛ إذ تُوفِّي دورينو الأول Dorino I، وهو الحاكم الچنوي الذي كان السلطان قد قَبِل بولايته على جزيرتي ثاسوس وليمنوس، بالإضافة إلى جزيرة ليسبوس التي كان يحكمها من أيَّام الدولة البيزنطيَّة. كانت هذه الوفاة في 30 يونيو 1455م، وتولَّى حكم الجزر بعد وفاة دورينو الأول ابنه دومينيكو جاتيلوسي Domenico Gattilusi، ومتَّخذًا لقب أمير على هذه الجزر. أغضب ذلك التنصيب السلطانَ محمدًا الفاتح؛ لأنَّه لم يتم بموافقته حسب قواعد السيادة العثمانيَّة المفروضة على الجزر، وبالتالي دارت مفاوضات عصبيَّة بين الطرفين، وفيها ضغط السلطان الفاتح على دومينيكو حتى سلَّمه جزيرة ثاسوس، وزاد الجزية المفروضة عليه من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف دوكا ذهبيَّة في العام[31][32].
لم يكتفِ السلطان محمد الفاتح بهذا الوضع العسكري الجيِّد؛ حيث إنَّ السيطرة على جزيرة ثاسوس تُؤمِّن قاعدةً بحريَّةً قويَّةً لحماية المضايق؛ إنَّما أمر القائد البحري الجديد يونس بك بضمِّ مدينة فوكايا الجديدة New Phocaia على ساحل الأناضول شمال إزمير، وكانت المدينة تابعةً لجمهوريَّة چنوة، فنجح في ذلك في أول نوفمبر 1455م، ثم بعد ذلك بستَّة أسابيع ضمَّ مدينة فوكايا القديمة Old Phocaia، وهي تابعةٌ لچنوة كذلك، وتقع إلى الجنوب من فوكايا الجديدة، وبذلك أضاف الفاتح قواعد بحريَّة قويَّة لحماية المضايق في شمال بحر إيجة[33].
ومن عجيب الأمور أنَّه في الوقت نفسه الذي مات فيه دورينو الأول، وأدَّت تداعيات موته إلى إعطاء الفرصة لمحمد الفاتح أن يُسيطر على جزيرة ثاسوس، وإلى ضمِّ مدينتي فوكايا الجديدة والقديمة، في هذا الوقت نفسه، وفي عام 1455م مات زعيم الفرع الآخر من عائلة جاتيلوسي الچنويَّة، وهو بالاميديس Palamedes، وحدث صراعٌ على الحكم من بعده، ولمـَّا كان الفاتح هو الذي سمح لهم بحكم مدينة إنيز Enez (وتُعْرَف -أيضًا- باسم إينوس Ainos)، وكذلك جزيرتي إمبروس وساموتراس، فإنَّه عدَّ هذا الحكم مُنْتَهٍ بوفاة بالاميديس، ومِنْ ثَمَّ قاد حملةً عسكريَّةً همايونيَّةً بنفسه لضمِّ ميناء إنيز المهم، ونجح في ذلك فعلًا دون مقاومة في أوائل عام 1456م، كما استطاع أسطوله بقيادة يونس بك أن يُسيطر على جزر إمبروس، وساموتراس، وليمنوس[34][35]، وبذلك سُيْطِر بشكلٍ جيِّدٍ جدًّا على مداخل المضايق في شمال بحر إيجة.
اطمئنَّ الفاتح إلى الوضع العسكري للدولة العثمانيَّة في هذه المرحلة؛ فمداخل إسطنبول صارت آمنـة، والقاعدة العسكريَّة له في صربيا صارت قويَّة، ومِنْ ثَمَّ استعدَّ للخطوة القادمة، وكانت بلا جدال غزو بلجراد، فهذا هو الذي سيفتح صربيا بشكلٍ حاسم، ويُعطي له الفرصة لمواجهة المجر مواجهة مباشرة، ويبدو أنَّ التردُّد الذي كانت تُعاني منه أوروبَّا تجاه القيام بحربٍ صليبيَّةٍ للدولة العثمانيَّة كان مشجِّعًا للفاتح على هذه الخطوة الجريئة، ومِنْ ثَمَّ بدأ السلطان في الإعداد لحملةٍ همايونيَّةٍ كبيرةٍ يخرج على رأسها إلى المدينة الحصينة.
وعلى الرغم من اهتمام الفاتح بمسألة بلجراد، فإنَّه قد عَرَضَ له عارضٌ جعله يُفكِّر في أمرٍ آخر على سبيل التوازي مع حملة بلجراد، وهذا العارض هو قدوم أحد النبلاء النصارى الألبان، وهو موسى جوليمي Moisi Golemi، وهو أحد قادة إسكندر بك، وهو في الوقت نفسه حاكم مدينة ديبرا Dibra الألبانيَّة، ولذلك يُعْرَف بموسى ديبرا Moisi of Dibra، وكان هذا القائد قد حسد إسكندر بك على شهرته، فقرَّر بعد هزيمة الألبان في موقعة بيرات عام 1455م أن يستغلَّ الحدث في الانضمام إلى الدولة العثمانيَّة[36]، وقد استقبله الفاتح، بل قَبِل منه عرضًا بأن يُعطيه جيشًا عثمانيًّا يستردُّ به ألبانيا لصالح الدولة العثمانيَّة! وقد وافق الفاتح على ذلك، وعَدَّها فرصةً لم يُرِد تأخيرها عن حملة بلجراد، التي كان يتوقَّع أن تأخذ منه وقتًا لحصانة المدينة، ولذلك أرسله الفاتح على رأس خمسة عشر ألف جنديٍّ عثمانيٍّ لقتال إسكندر بك، مستفيدًا من معرفته بدروب ألبانيا، وطُرُقِ حرب إسكندر بك. تقدَّم موسى جوليمي بجيشه حتى وصل إلى مدينة أورانيك Oranik، وهي في أقصى غرب مقدونيا على الحدود الشرقيَّة لألبانيا، وهناك التقى مع جيش إسكندر بك، ودارت معركةٌ عنيفةٌ عُرِفَت بمعركة أورانيك الثانية (كانت الأولى في عام 1448م، وفيها انتصر إسكندر بك على الجيش العثماني زمن السلطان مراد الثاني)، وكانت المعركة في يوم 18 مايو 1456م، وتحقَّق فيها النصر لإسكندر بك، وهرب موسى قافلًا إلى أدرنة، وكانت هزيمةً كبيرةً للجيش العثماني[37][38]، والجدير بالذكر أنَّه بعد عودتة إلى أدرنة بقي فيها فترةً قصيرةً ثم هرب إلى ألبانيا عائدًا إلى قائده الأوَّل إسكندر بك طالبًا عفوه! وقد عفا عنه إسكندر بك، وأعاده إلى مركز قيادته، ويبدو أنَّه فعل ذلك لكي يُشجِّع من حذا حذوه أن يعود مرَّةً أخرى إلى جيشه[39].
في الواقع أرى أنَّ الخطوة التي أخذها الفاتح في هذه المسألة كانت متسرِّعة! فليس مثل هذا القائد الذي دفعه حسده إسكندر بك بمأمونٍ في القتال، ولا في الصمود أمام أهله وأصدقائه القدامى، خاصَّةً أنَّه لم يتحوَّل إلى الإسلام حتى نفترض أنَّ عقيدته الجديدة ستدفعه لإكمال المعركة في أفضل صورها، ثم إنَّ التوقيت لم يكن مناسبًا كذلك؛ فالسلطان مشغولٌ في هذه الفترة بحملة بلجراد، ولن يكون هناك فرصةٌ لإرسال مددٍ لهذا الجيش في حال هزيمته، وبالتالي ستكون خسارته كبيرة، وهو ما حدث في هذه المعركة العابرة التي لم يُعَدُّ لها بشكلٍ جيِّد.
عمومًا كان هذا حدثًا عابرًا؛ إذ إنَّ الاهتمام الأكبر للفاتح كان بحملة بلجراد القادمة، التي خرج لها من أدرنة في أوائل صيف 1456م، ولقد كانت هذه الحملة من الأهمِّيَّة بمكان، وكانت لها آثارٌ كبرى على الدولة العثمانيَّة وأوروبَّا، وحملة بلجراد هذه هي موضوع المقال القادم![40].
[1] Lesaffer Randall Peace Treaties and International Law in European History: From the Late Middle Ages to World War One [Book]. - UK & New York : Cambridge University Press, 2004., p. 340.
[2] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973., p. 84.
[3] Ágoston Gábor and Masters Bruce Alan Encyclopedia of the Ottoman Empire [Book]. - New York, USA : Infobase Publishing, 2010, p. 400.
[4] Bell James A System of Geography [Book]. - Glasgog, UK : Popular and Scientific, Fullarton and Co, 1832., vol. 2, p. 548.
[5] Rogers Clifford J The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 2010., vol. 1, p. 45.
[6] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/149.
[7] İnalcık Halil Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time [Article] // Speculum. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1960., vol 35, no. 3, p. 417.
[8] Setton Kenneth Meyer, Hazard Harry W. and Zacour Norman P. A History of the Crusades [Book] / ed. Hazard Harry w. and Zacour Norman P.. - Madison, WI, USA : The University of Wisconsin Press, 1975, vol. 6, p. 322.
[9] Bak János M. [et al.] The Laws of the Medieval Kingdom of Hungary [Book]. - [s.l.] : Charles Schlacks, Jr, 1992, vol. 2, p. 236.
[10] أوزتونا، 1988م صفحة 1/149.
[11] İnalcık Halil and Quataert Donald An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1300-1600 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press,., 1994, vol 1, p. 289.
[12] أوزتونا، 1988م صفحة 1/150.
[13] Dillon Charles Those Naughty Popes and Their Children [Book]. - New York, USA : I-Universe Inc, 2004., p. 68.
[14] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, pp. 164- 165.
[15] Bower Archibald The History of the Popes [Book]. - London, UK : Printed by author, 1766, vol. 7, p. 283.
[16] Thompson Bard Humanists and Reformers: A History of the Renaissance and Reformation [Book]. - Grand, Rapids, MI, USA : William. B. Eerdmans Publishing Company, 1996, p. 71.
[17] Setton, 1975, vol. 6, p. 323.
[18] Tursun Beg The History of Mehmet the Conqueror [Book] / trans. Murphey Halil İnalcık and Rhoads. - Minneapolis and Chicago, USA : Bibliotheca Islamica,, 1978, p. 255.
[19] Setton, 1976, vol. 2, p. 172.
[20] İnalcık, 1960, vol 35, no. 3, p. 418.
[21] Setton, 1976, vol. 2, p. 172.
[22] Bower Archibald The History of the Popes [Book]. - London, UK : Printed by author, 1766., vol. 7, p. 283.
[23] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 84.
[24] أوزتونا، 1988م صفحة 1/149
[25] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press,, 2009, p. 60.
[26] Francione Gennaro Skënderbeu, një hero modern : (Hero multimedial) [Skanderbeg, a modern hero (Hero multimedia)] (in Albanian) [Book] / ed. Aliaj Donika and Aliaj Tasim. - Tiranë, Albania : Naim Frashëri, 2003, p. 119.
[27] Hodgkinson Harry Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero [Book]. - London, UK : Centre for Albanian Studies, 1999, p. 136.
[28] Setton, 1976, vol. 2, p. 192.
[29] İnalcık Halil and Quataert Donald An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1300-1600 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press., 1994, vol 1, p. 289.
[30] Brezianu Andrei and Spânu Vlad The A to Z of Moldova [Book]. - Lanham, UK : Scarecrow Press Inc., 2010, p. xxvi.
[31] Vacalopoulos Apostolos Euangelou History of Macedonia 1354–1833 [Book] / trans. Megann Peter. - Thessaloniki : Institute for Balkan Studies, 1973, p. 119.
[32] Miller William The Gattilusj of Lesbos, 1355-1462 [Book]. - Leipzig, Germany : B.G. Teubner, 1913, p. 430.
[33] Freely, 2009, p. 60.
[34] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 84.
[35] Freely, 2009, p. 60.
[36] Elsie Robert Historical Dictionary of Albania [Book]. - [s.l.] : The Scarecrow Press, 2010, p. 400.
[37] Francione Gennaro Skënderbeu, një hero modern : (Hero multimedial) [Skanderbeg, a modern hero (Hero multimedia)] (in Albanian) [Book] / ed. Aliaj Donika and Aliaj Tasim. - Tiranë, Albania : Naim Frashëri, 2003, p. 125.
[38] Hodgkinson Harry Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero [Book]. - London, UK : Centre for Albanian Studies, 1999, pp. 136-143.
[39] Brackob A. K Scanderbeg: A History of George Castriota [Book]. - las vegas, N V, USA : Histria, 2018, p. 103.
[40] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 331- 343.
التعليقات
إرسال تعليقك