التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
قال رَسُول اللهِ ﷺ: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»
مع أنَّ الجيش العثماني سيطر على محاور المدينة برًّا وبحرًا في الساعات الأولى من الصباح في يوم الثلاثاء 29 مايو، فإنَّ السلطان محمد الثاني لم يدخل المدينة إلَّا بعد الظهيرة من اليوم نفسه[1][2]، ويبدو أنَّ هذا التأخير كان لإعطاء الفرصة للجنود للتأمين الكامل لتجوال السلطان داخل المدينة، ولاكتشاف أيِّ جيوب مقاومةٍ خفيَّةٍ هنا أو هناك، ويذكر بابينجر أنَّ دخول السلطان قد تأخَّر لليوم الثاني؛ أي 30 مايو[3]، ولكنَّ الأدقَّ أنَّه دخل في يوم دخول الجيش نفسه؛ أي في 29 مايو وهو الموافق للعشرين من جمادى الأولى عام 857 هجرية.
اهتمَّ المؤرِّخون بهذه اللحظة التاريخيَّة التي عَبَرَ فيها السلطان وجيشه بوَّابة أدرنة Edirne Gate[4]، وهي نفسها بوَّابة كاريسياس Charisius بالقرب من بوَّابة سان رومانوس. لقد اهتمُّوا بهذه اللحظة إلى درجة أنَّهم وصفوا شيئًا من لباسه وجواده! فذكروا أنَّه كان يلبس عمامةً ملكيَّة، وفي قدمه حذاءٌ أزرقُ سماوي، رافعًا سيفه[5] ممتطيًا جوادًا أبيض[6]، ومتقدِّمًا على عددٍ كبيرٍ من الجنود تجاوزوا السبعين ألفًا يصيحون: «لله الحمد.. نحن فاتحو القسطنطينية»[7]!
نعم.. لله الحمد..
لقد أدرك هذا الأمير، وهذا الجيش، أنَّهم هم الممدوحون بشكلٍ مباشرٍ من رَسُول اللهِ ﷺ!
عَلِمُوا أنَّهم نِعْمَ الناس!
قال رَسُول اللهِ ﷺ: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»[8].
ومن هذه اللحظة عُرِفَ السلطان محمد «الثاني» بالسلطان محمد الفاتح! وعلى الرغم من أنَّ مئات وآلاف المدن قد فُتِحت في التاريخ، وأنَّ مئات وآلاف القادة قد قاموا بهذا العمل العسكري -فَتْح المدن والبلاد- فإنَّ وصف «الفاتح» صار عَلَمًا على هذا القائد المسلم الرائع، فلا يُقال «الفاتح» إلا ويُعْلَم أنَّ المقصود هو هذا السلطان الكبير، وهذا من عظيم فضل الله عليه.
دخل «الفاتح» مدينة القسطنطينيَّة..
لا أدري ما أحاسيسه وهو يمتطي جواده يسير به في هدوءٍ وسط هذه الجموع!!
في أيِّ شيءٍ كان يُفكِّر؟!
هل هي مشاعر الفرح لتحقيق الفتح بعد أربعةٍ وخمسين يومًا كاملةً من الحصار؟
أم مشاعر الحزن لفقد عددٍ كبير من الأصدقاء والجنود وإصابة آخرين؟
أم مشاعر الفخر للنجاح فيما فشل فيه كلُّ السابقين؟
أم مشاعر الخشوع لله، والرهبة من كونه «نِعْمَ الأميرُ»، الذي بشَّر به رَسُول اللهِ ﷺ؟
أم مشاعر القلق من ردود فعل كثيرة قد تحدث في العالم؟
أم كلُّ ذلك معًا في خليطٍ لا يتكرَّر كثيرًا في مشاعر الناس؟
إنَّه يومٌ من أيَّام التاريخ المعدودة!
أو قل: إنه يومٌ من أيام الله.
قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5].
اخترق محمد الفاتح المدينة من غربها إلى شرقها عبر أكبر طرقها، وهو الطريق المعروف بالميزي Mese، أو الطريق الأوسط، الذي يصل مباشرةً إلى كنيسة آيا صُوفيا في شرق المدينة[9]، وهذا هو الطريق الذي كان يسير فيه الأباطرة في استعراضاتهم الشرفيَّة بعد الانتصارات، ولذلك يُعْرَف بطريق النصر، ويبلغ طوله أكثر من خمسة كيلو مترات، وعرضه حوالي خمسة وعشرين مترًا، ويمرُّ بالكثير من القصور الملكيَّة، والكنائس، والمباني العريقة[10].
في هذا الطريق المملوء بعبق التاريخ نظر الفاتح إلى القصور المهجورة، والمباني المتهالكة التي مرَّت عليها السنون والقرون فجعلتها حطامًا، ولم تكن الحالة الاقتصاديَّة للمدينة خلال القرنين الماضيين تسمح بإصلاحاتٍ أو ترميمات، فبدا الإهمال على مبانٍ كانت من أعظم بيوت الدنيا يوم بُنِيَت! حَزِن الفاتح للمنظر، وتذكَّر من فوره أبياتًا شعريَّةً باللغة الفارسيَّة للشاعر الفارسي الشهير السعدي الشيرازي، فتنهَّد وقالها، وهي بهذا المعنى:
لتنسج العنكبوت خيوطًا على قصر قيصر
ولتنعق البوم عند قبَّة مجلس أفرسياب[11][12]!
تذكَّر الفاتح هذه الأبيات الحزينة التي تنعي قصور قيصر ملك الروم وأفرسياب أحد أعظم ملوك وسط آسيا وإيران، وهو يرى هذه الحالة المتهالكة للمدينة، ويفهم المؤرِّخون الغربيُّون هذا الحزن من السلطان على أنَّه نوعٌ من الندم لكونه -فيما يدَّعون- السبب في هذه الحالة المتهالكة للمدينة! وذلك بدعوى أنَّ القصف المستمرَّ للمدينة والتدمير الذي قام به الجنود عند دخول القسطنطينيَّة هو الذي أدَّى إلى هذا الخراب[13][14][15]، وهذا في الواقع محض افتراء! فليس الجيش العثماني هو الذي قام بهذا الدمار؛ بل كانت المدينة على هذه الحالة المتهالكة منذ عشرات السنين، وأدلَّتنا على ذلك متوافرة! فقد أورد المؤرِّخ الأميركي ول ديورانت Will Durant عدَّة مشاهدات لرحَّالة وسياسيِّين زاروا القسطنطينيَّة قبل الفتح بعشرات السنين، وتحدَّثوا عن خرابها وأطلالها؛ منهم أحد الرحَّالة المسلمين الذي زارها عام 1330م وتحدَّث عن كثرة البيوت المهدَّمة فيها، ومنهم السفير الإسباني كلاڤيچو Clavijo الذي زار المدينة حوالي عام 1409م وأفاد أنَّ كلَّ مكانٍ بالمدينة يحوي قصورًا عظيمةً وكنائس وأديرة، ولكن معظمها أطلال[16]، فهذه الشهادات هي دليلنا الأوَّل على أنَّ المدينة كانت خرابًا قبل أن يدخلها الفاتح. ودليلنا الثاني هو أقدم خريطةٍ محفوظةٍ للقسطنطينيَّة، وهي مجسَّمةٌ رسمها القس الإيطالي الفلورنسي الفنان كريستوفورو بيونديلمونتي Cristoforo Buondelmonti، وقد رسمها إثر زيارةٍ له للقسطنطينيَّة عام 1422م؛ أي قبل الفتح العثماني بإحدى وثلاثين سنة، وفيها تظهر المباني المتهالكة والمتآكلة للمدينة[17][18]. أمَّا دليلنا الثالث فهو المنطق! فكيف للفاتح وجيشه أن يتمكَّنوا من إحداث الخراب بالمباني العملاقة، والقصور الشامخة، والكنائس التي تبدو كالقلاع، وهم لم يدخلوا المدينة إلَّا منذ ستِّ ساعاتٍ فقط؟ هل دمَّروها بالمدافع؟! إنَّ طلقات المدافع كانت تصل بمشقَّة إلى الأسوار، حتى أكبر المدافع -وهو مدفع أوربان- لم يكن يتجاوز مداه أكثر من كيلو متر ونصف، فكيف تُدمَّر مباني المدينة خلف الأسوار بها؟ وكيف للجنود أن يفعلوا ذلك في ستِّ ساعات؟ إنَّ تدمير مثل هذه الإنشاءات الصخريَّة العملاقة يحتاج إلى أسابيع وشهور، كما أنَّهم لم يكونوا ليُفرِّغوا أوقاتهم لهذا في الوقت الذي يتتبَّعون فيه الجنود البيزنطيِّين هنا أو هناك، أو يهتمُّون فيه بجمع الغنائم النفيسة. أمَّا دليلنا الرابع فهو الواقع المشاهد الذي سجَّله المؤرِّخون البيزنطيُّون وغيرهم؛ فقد ذكرنا قبل ذلك أنَّ الفاتح نبَّه الجنود أنَّ مباني القسطنطينيَّة وأسوارها ستئول إلى الدولة، وأنَّ الغنائم للجيش، فلن يتجرَّأ الجنود إِذَنْ على هدم ممتلكات الدولة والسلطان، ولقد حدثت حادثةٌ واحدةٌ من هذا التخريب، فكان الردُّ صارمًا وحاسمًا من السلطان؛ فلقد رأى أحد الجنود وهو يُحطِّم أرضيَّةً من الرُّخام في كنيسة آيا صُوفيا، ويبدو أنَّه كان بها صورة أو ما شابه ذلك، شعر الجندي أنَّها من الممكن أن تُؤذي السلطان، فغضب الفاتح لهذا الفعل غضبًا شديدًا، دفعه إلى ضرب الجندي ليمنعه من إكمال التحطيم، وسأله لماذا تفعل ذلك؟ قال: لأجلك أيُّها السلطان، فقال: ألم أقل لكم إنَّ الغنائم لكم والمباني والأسوار لي؟! ولقد حملوا الجندي مرعوبًا من هذا الغضب، وكما تقول الرواية وكأنَّه ميِّت[19][20]! هل يُمكن مع هذا الغضب الشديد للسلطان من حادثة تدميرٍ يسيرة رآها في أرضيَّة كنيسة آيا صُوفيا أن يُحدث التدمير في مدينةٍ عريقةٍ يُريد السلطان أن يتَّخذها عاصمةً له؟!
إنَّ هذه الادِّعاءات الغريبة يُمكن أن يكون مردُّها إلى بعض الكلمات التي كتبها المؤرِّخ البيزنطي كريتوبولوس، وذكر فيها حزن الفاتح عندما رأى هذا الخراب[21]، ولكن ماذا يُنْتَظر من مؤرِّخٍ بيزنطيٍّ معاصرٍ وهو يُشاهد إمبراطوريَّته العريقة تسقط في يد الفاتح؟!
لقد حسم المؤرِّخ الأميركي برنارد لويس Bernard Lewis المسألة بعد تحقيق، وقال في إيجاز: «عند فتح القسطنطينية عام 1453م لم تكن المدينة إلَّا خرائب، أو أحسن حالًا منها قليلًا»[22]!
وتعليقٌ آخر بخصوص مسألة الشعر الذي قاله الفاتح عند رؤية خرائب القسطنطينيَّة، وفيه أختلف مع المفكِّر السويدي لارس هولجر هولم Lars Holger Holm، الذي يرى أنَّ الفاتح قال هذه الأبيات حزنًا على بذل الجهد الكبير للحصول على هذه المدينة المتهالكة، وأنَّ الفاتح قال لنفسه: هل كانت حقيقة تستحقُّ كلَّ ذلك؟ «Was it really worth it»[23]، والواقع أنَّ السلطان لم يكن يُريد المدينة من أجل مبانيها وفخامة معمارها؛ إنَّما كانت تُمثِّل خطرًا داهمًا على دولته بموقعها الجغرافي، وأهميَّتها الدينيَّة، والسياسيَّة، والاستراتيجيَّة، ومِنْ ثَمَّ فالجهد المبذول في فتحها لا يُقارن بالنتائج الإيجابيَّة المتحصَّلة، حتى لو كانت المدينة خرائب وأطلالًا.
وأكمل الفاتح طريقه حتى وصل في النهاية قبيل وقت العصر إلى كنيسة آيا صُوفيا، معقل الأرثوذكسيَّة في العالم، ومركز القيادة الروحي للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، فكان أوَّل ما فعله هو أن ترجَّل عن جواده، ونزل على ركبتيه، ثم أخذ حفنةً من تراب الأرض ووضعها فوق رأسه تواضعًا لله عز وجل[24][25][26]!
كان الشعب البيزنطي قد تجمَّع في ميدان آيا صُوفيا انتظارًا لِمَا سيفعله السلطان، فتأثَّروا من هذا المشهد المتواضع له، فاندفعوا نحوه وسجدوا عند قدميه، فقال لهم: «انهضوا.. لا تخشوا بعد هذه اللحظة على حياتكم ولا حريَّتكم»[27]، ثم أمر بأن يعودوا إلى ديارهم آمنين! ولقد لفتت هذه الرحمة أنظار المؤرِّخين، حتى قال عنها كراولي: «إنَّها رحمةٌ لم تكن متوقَّعة»[28]!
دخل الفاتح كنيسة آيا صُوفيا، وفور دخوله أعلن واحدًا من قراراته الأولى بعد فتح المدينة، وهو قرار تحويل الكنيسة إلى مسجد[29]، وأطلق عليه اسم «الجامع الكبير لآيا صُوفيا»[30].
كان وقت العصر قد دخل، فأمر السلطان برفع الآذان، فرُفِع، ثم صلَّى السلطان وحاشيته العصر بالمسجد الجديد[31]. وبعد الصلاة صعد السلطان إلى أعلى سطح الكنيسة، وهي من أعلى الأبنية في القسطنطينيَّة، وبذلك صار قادرًا على رؤية معظم معالم المدينة من هذا المكان المرتفع، فنظر هنا وهناك ليرى تفاصيل المدينة التي ستكون عمَّا قريب عاصمةً لدولته[32]، ثم بعد ذلك قفل راجعًا إلى معسكره[33] ليأخذ قسطًا من الراحة بعد هذا اليوم الطويل!
مكث السلطان الفاتح في القسطنطينيَّة لمدَّة ثلاثة أسابيع بعد الفتح قبل أن يعود إلى عاصمته الحاليَّة أدرنة[34]، وفي هذه الأسابيع الثلاثة أخذ عدَّة قرارات مهمَّة، وقام ببعض الأعمال الكبرى، وحيث إنَّ هذه الأعمال كانت تتداخل مع بعضها البعض وتتقاطع تفصيلاتها مع تفاصيل أخرى فإنَّني إيثارًا للتوضيح سأُناقش هذه القرارات والأعمال في هيئة مسائل منفصلة؛ حتى يُمكن استيعاب كلِّ مسألةٍ بشكلٍ كامل، وهذه المسائل تشمل ما يلي:
المسألة الأولى: تحويل كنيسة آيا صُوفيا إلى مسجد:
أمر السلطان محمد الفاتح بسرعة تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد[35]؛ فالفتح كان اليوم الثلاثاء 29 مايو، ولم يَبْقَ إلَّا ثلاثة أيَّام على يوم الجمعة، وكان الفاتح يُريد أن تكون صلاة الجمعة الأولى في المدينة في هذا المسجد الجديد، لذلك ففور الأمر بهذا التحويل بُنِيَت مئذنةٌ خشبيَّةٌ للمبنى، ووُضِع فيه منبر الخطيب، وحُدِّدت القبلة، وبُنِي فيها محرابٌ ليُصلِّي فيه الإمام[36].
إنَّ هذا التحويل للكنيسة يحمل الكثير من التساؤلات عند المؤرِّخين، ويرى بعضهم أنَّ هذا مخالفٌ لشريعة الإسلام لأنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يفعل ذلك عندما فتح القدس، ولم يُحوِّل كنيسة القيامة إلى مسجد[37]، والأمر يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل.
أوَّلًا: فرَّقت الشريعة الإسلاميَّة بين البلاد التي تُفْتَح صلحًا والبلاد التي تُفْتَح عنوة؛ فالبلاد المفتوحة صلحًا -كالقدس- لا تُحوَّل كنائسها إلى مساجد أبدًا؛ بل تكون أحكام البلد كلِّها متطابقةٍ مع البنود التي اتٌّفِق عليها بين الطرفين قبل الفتح، ولهذا لم يكن جائزًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يُحَوِّل كنيسة القيامة أو غيرها إلى مسجد، أمَّا البلاد التي تُفْتَح عنوة -أي بالحرب- مثل القسطنطينيَّة، فإنَّ المسلمين يملكون «كلَّ» ما فيها، ومنها الكنائس، ولهذا يجوز للحاكم المسلم أن يُحَوِّل ما شاء من كنائس هذا البلد إلى مساجد[38]، وقد حذَّر الفاتحُ إمبراطورَ الدولة البيزنطيَّة من هذه العاقبة إذا رفض تسليم البلد صلحًا، ولكنَّ الإمبراطور رفض التسليم، ومِنْ ثَمَّ دارت الحرب، فكان هذا من نتائجها الطبيعيَّة.
ثانيًا: يأتي هذا الفعل من قبيل المعاملة بالمثل؛ فهذه أحكام الحروب في العالم بشكلٍ عامٍّ، وخاصَّةً في هذه الحقبة، ولقد قام الإسبان في الأندلس بتحويل «كلِّ» مساجد البلد إلى كنائس بعد السيطرة على مدنها، بل فعلوا أكثر من ذلك؛ إذ غدروا بالمسلمين الذين فُتِحَت مدنهم «صلحًا»، وقاموا بنكث العهد الذي قطعوه على أنفسهم بعدم تحويل مساجد المدن إلى كنائس[39]، وهذا ما لم يفعله الفاتح قط مع أيِّ مدينةٍ أوروبِّيَّة فُتِحَت صلحًا.
ثالثًا: إذا فهمنا هذه الحقيقة الشرعيَّة أدركنا أنَّ الأمر ليس قاصرًا على كنيسة آيا صُوفيا أو غيرها؛ إنَّما هو حكمٌ عامٌّ يشمل كلَّ الكنائس، ولهذا فلا حرج أن تذكر المصادر أنَّ هناك كنائس أخرى قد تحوَّلت إلى مساجد في القسطنطينيَّة؛ فقد ذكر بعضهم أنَّ الفاتح حوَّل نصف كنائس المدينة إلى مساجد[40]، وحصر البعض الكنائس التي حوَّلها الفاتح إلى مساجد في كلِّ تاريخه، وفي كلِّ المدن المفتوحة، فوجدها سبعة[41]، وارتفع المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو بهذا الرقم إلى سبعة عشر[42].
رابعًا: مع أنَّ الفاتح كان قادرًا -من الناحية الواقعيَّة والشرعيَّة- على تحويل «كلِّ» كنائس القسطنطينيَّة إلى مساجد فإنَّه لم يفعل ذلك؛ لأنَّه كان يُريد لأهل المدينة من النصارى أن يُمارسوا عباداتهم بشكلٍ طبيعي، وبحُريَّةٍ كاملة، بل ترك لهم كنيسة الرسل المقدَّسة، وهي كنيسةٌ عظيمةٌ عندهم، وتُوَازي كنيسة آيا صُوفيا في القداسة، وسوف نرى علاماتٍ أخرى كثيرةً في سياق القصَّة تُؤكِّد حِرْص الفاتح على إعطاء الحرِّيَّة الدينيَّة للنصارى في المدينة.
خامسًا: لا بُدَّ أن ننظر إلى عامل «الحاجة إلى دور العبادة»؛ فالكنائس الموجودة في المدينة الآن أكثر بكثيرٍ من حاجة السكان النصارى، بينما سيقطن في المدينة الآن عددٌ كبيرٌ من المسلمين، خاصَّةً بعد تحويلها إلى عاصمةٍ للدولة العثمانية، وهؤلاء ليست لهم مساجد تكفي لحاجاتهم، ويكفي أن نُقارن بين عدد الجيش البيزنطي في البلد، وهو خمسة آلاف تقريبًا، بعدد الجيش العثماني، وهو على أقلِّ تقدير يزيد على مائة ألف، والنسبة بين الشعبين قد تكون هي النسبة نفسها بين الجيشين، فحاجة السكان المسلمين إلى المساجد الكثيرة ستكون كبيرة، فلم يكن تحويل الكنائس إلى مساجد نوعًا من النكاية في النصارى، ولا نوعًا من إظهار عزَّة الإسلام وقوَّته، بل كانت حاجةً ملحَّة اقتضتها التركيبة الديموجرافيَّة الجديدة للمدينة.
سادسًا: سنأتي لاحقًا للحديث عن استسلام جالاتا الچنويَّة دون قتال، أي صلحًا، وسنرى أنَّه مع أهميَّة المدينة الاستراتيجيَّة إلَّا أنَّ الفاتح لم يقمْ بتحويل أيِّ كنيسةٍ من كنائسها إلى مسجد[43]، وهذا يُؤكِّد أنَّه كان حريصًا على التعامل مع المسألة بشكلٍ فقهيٍّ سليم، وسيظلُّ الوضع في جالاتا على هذا الحال حتى عام 1475م، وعندها سيحتاج المسلمون لمسجدٍ في جالاتا لتغيُّر بعض الظروف السياسيَّة والديموجرافيَّة التي قد نأتي لها لاحقًا، حتى في هذه الظروف فلن يأخذ المسلمون كنيسةً يُحوِّلونها إلى مسجدٍ هناك إلَّا على سبيل الهبة من قيادة جالاتا النصرانيَّة[44]، وهذا في الواقع من أروع الأمثلة على اهتمام الفاتح بالشريعة، وكذلك اهتمامه بحفظ حقوق الآخرين.
سابعًا: لا بُدَّ عند النظر إلى مسألة تحويل كنيسة آيا صُوفيا على وجه التحديد إلى مسجد أن ننظر إلى البعد السياسي في القضيَّة؛ فكنيسة آيا صُوفيا ليست مجرَّد مكان يُؤدِّي فيه النصارى العبادة، وإنَّما هي قيادةٌ روحيَّة، ورمزٌ لكلِّ شعوب الأرثوذكس في العالم. أَلَا ترى كيف يكون أثر الراية في الجيوش والمعارك؟ إذا سقطت الراية خارت قوى الجنود، مع أنَّ الذي يحمل الراية جنديٌّ واحدٌ قد لا يكون أقوى الجنود، ولكنَّها رمزٌ للجيش كلِّه. هكذا كانت كنيسة آيا صُوفيا. إنَّها راية الأرثوذكس في الدنيا! فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الأرثوذكس في الدولة العثمانيَّة كثيرون جدًّا، سواءٌ في القسطنطينيَّة نفسها، أم في بقيَّة الولايات العثمانيَّة الأوروبِّيَّة -كبلغاريا، واليونان، ومقدونيا، وصربيا- أدركنا قيمة أن يقوم السلطان محمد الفاتح بعملٍ ليكون مثل إسقاط الراية، وهو تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد! هكذا أدرك الأرثوذكس في الدولة أنَّ المسألة قد حُسِمَت، ولعلَّ هذا هو الذي يُفسِّر عدم وجود أيِّ ردِّ فعلٍ من داخل الدولة لسقوط القسطنطينيَّة، حتى الردود الخارجيَّة لم تأتِ قط على مستوى الحدث، ومرجع ذلك إلى الإحباط من إمكانيَّة التغيير أو المقاومة، وهذا يرجع إلى فضل مثل هذه الأعمال الاستثنائيَّة.
ثامنًا: لم يَسْعَ الفاتح إلى إحداث تغييراتٍ كثيرةٍ في مبنى كنيسة آيا صُوفيا؛ بل حافظ على شكله البيزنطي المعروف، ولم يُضِف له إلَّا مئذنةً واحدة، أمَّا بقيَّة مآذنه فقد أُضيفت في عهودٍ لاحقة، وكانت كنيسة آيا صُوفيا مليئةً بالصور والأشكال، وكان الكثير منها للكائنات الحيَّة، فلم يكن جائزًا أن تبقى بهذا الوضع بعد تحوُّل المبنى إلى مسجد، فلم يقم الفاتح بتحطيمها؛ إنَّما اكتفى بتغطيتها بطبقةٍ من الكلس[45][46]، وإنَّما حرص الفاتح على عدم القيام بأعمالٍ جذريَّةٍ تُغيِّر من شكل المبنى منطلقًا من رغبته في عدم استفزاز النصارى، فكان بذلك حريصًا على الوسطيَّة؛ إذ قلَّص فرصة قيام النصارى بثورةٍ أو مقاومة، وذلك بإحداث أقلِّ ضررٍ ممكن، وهذا من حُسْن سياسته.
المسألة الثانية: التعامل مع شعب القسطنطينيَّة:
يُسْهِب كثيرٌ من المؤرِّخين الغربيِّين في الحديث عن استباحة القسطنطينيَّة بعد فتحها، ويُسْرِفون في الحديث عن كثرة قتل العثمانيِّين لشعب القسطنطينيَّة وعن استعبادهم[47][48]، والحقُّ أنَّ كلامهم فيه الكثير من التناقض ممَّا يجعله غير دقيقٍ من الناحية العلميَّة، وهو خلاف الواقع الذي جرت عليه الأمور.
إنَّ مَرَدَّ هذا التصوُّر ما جاء في كتابات كريتوبولوس عن أحداث ما بعد الفتح؛ حيث ذكر أنَّ العثمانيِّين قتلوا أربعة آلاف واستعبدوا خمسين ألف مواطن[49]، وقد نقل عنه المؤرِّخون الغربيُّون هذه الأرقام، ولنا معها وقفة!
أوَّلًا: هل يُمكن تصوير قتل أربعة آلاف على أنَّه استباحةٌ بشعةٌ للمدينة؟! إنَّ الجيش البيزنطي وحده خمسة آلاف، بالإضافة إلى ألفين من الإيطاليِّين كما ذكرنا في وصف المدافعين عن المدينة، فأَلَا يُتَوَقَّع أن يقتل منهم أربعة آلاف عند اجتياح المدينة؟ إنَّ النظر لهذه الأرقام التي ذكرها كريتوبولوس يُؤكِّد أنَّ الجنود العثمانيِّين لم يقتلوا أحدًا من المدنيِّين، وإلَّا فمِنْ غير المعقول أن يتَّجهوا لقتل الأطفال والنساء كما يُصوِّر البعض ويتركوا الجنود والمقاتلين. إنَّ هذا الرقم لو كان صادقًا فهو دليلٌ واضحٌ على عدم التعرُّض لشعب القسطنطينيَّة بالقتل.
ثانيًا: إنَّ استعباد خمسين ألفًا مستحيل؛ لأنَّ سكان المدينة بكاملهم يصلون بصعوبة إلى هذا الرقم، والمدينة ظلَّت عامرةً بالسكان بعد الفتح، فكيف يُقال إنَّ أهلها جميعًا قد بِيعُوا في الأسواق؟!
وثالثًا: هل كان القتل الذي حدث عند الفتح من طرفٍ واحد؟ يذكر المؤرِّخ فيلدمان Feldman أنَّ مياه الدردنيل كانت تموج بأجساد النصارى والأتراك معًا[50]، فهذه نتيجةٌ طبيعيَّةٌ للحروب، وضحايا العثمانيِّين في الحصار يتجاوز العشرين ألفًا بلا جدال.
ثم رابعًا: ذكرت المصادر أنَّ العائلات اليونانيَّة التي غادرت المدينة قد عادت بعد ذلك للسكن فيها بعد انتهاء العمليَّات العسكريَّة[51]، فهل كانت هذه العائلات تُفكِّر في العودة إذا كانت هناك مجزرةٌ كما يقولون؟! بل أعلن الفاتح ما هو أكثر من ذلك؛ حيث دعا المهاجرين القدماء من اليونانيِّين الذين تركوا المدينة قبل أحداث الحصار لسنوات أن يعودوا -إنْ أرادوا- للمدينة، ويُشاركوا في إعمارها، فعادوا بأعدادٍ غفيرةٍ[52][53]، فهل كانوا سيفعلون ذلك وهم يتوقَّعون أن يعيشوا تحت حكم برابرة همجيِّين يسفكون الدماء بهذه الصورة؟!
وخامسًا: يشهد كثيرٌ من المؤرِّخين الغربيِّين على سماحة الفاتح تجاه شعب القسطنطينيَّة عند فتحها، فتقول المؤرِّخة الأميركيَّة ماري باتريك Mary Patrick: «والواقع أنَّ السلطان محمدًا الفاتح قد أظهر تسامحًا عظيمًا مع المسيحيِّين»[54]. ويُؤكِّد المؤرِّخ الألماني هانز كيسلينج Hans Kissling على أنَّ نصارى القسطنطينيَّة كانوا يُمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعيٍّ بعد الفتح، وكانوا يُمارسون عبادتهم دون مساس، بل كانوا يُمارسون لغتهم مع اختلافها عن لغة الحكَّام[55]، ويقول المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو بشكلٍ صريح: «لم يتحقَّق فتح السلطان محمد الثاني للقسطنطينيَّة بشكل التدمير أو القتل كما يدَّعي الوطنيُّون اليونانيُّون حتى اليوم في محاولاتهم لرسم الترك كقومٍ همج، ولكن على العكس اتُّبِعَت سياسة زيادة السكان وتأسيس المدينة من جديد؛ لتكون مركزًا لسلطنةٍ كبيرةٍ متعدِّدة العناصر»[56]. ويقول المؤرِّخ الإنجليزي بول كولز Paul Coles: «بسقوط القسطنطينيَّة أصبح قَدَر المسيحيَّة اليونانيَّة الأرثوذكسيَّة بأيدي العثمانيِّين، وكان تصرُّف محمد الثاني بعد الفتح مقياسًا لمدى النقلة الحضاريَّة التي حقَّقها العثمانيُّون مبتعدين عن تراثهم البدوي»[57].
بل العجيب أنَّنا نجد بعض أولئك الذين اتَّهموا الفاتح باستباحة المدينة يتناقضون مع أنفسهم ويمدحون سماحة السلطان! فالمؤرِّخ الإنجليزي فيليب مانسيل Philip Mansel يذكر أنَّ محمدًا الفاتح قد استعبد ثلاثين ألفًا من شعب القسطنطينيَّة[58]، ثم يذكر في موضعٍ آخر تسامحه مع النصارى، وإقراره للحرِّيَّة الدينيَّة، ويصفه بقوله: «كان الفاتح هو الحاكم الأكثر استنارةً في زمانه»[59]! أمَّا كراولي الذي أسرف في وصف استباحة المدينة[60] نجده في موضعٍ آخر يقول: «لم تكن مدينة القسطنطينيَّة بالنسبة إلى الفاتح مدينةً للاستباحة؛ إنَّما كان يُريدها مركزًا لدولته، ولذلك كان حريصًا على سلامتها»[61]! وهذا التناقض الذي نراه في الكتابات لَمِنْ أكبر الأدلَّة على التخبُّط في الرؤية، واضطراب المعلومات.
إنَّ تسامح الفاتح المفرط في تعامله مع شعب القسطنطينيَّة قد جعلت البعض -كما يقول المؤرِّخ الألماني كيسلينج- يعتقد أنَّ الفاتح مسيحيٌّ من الداخل ويُظهر الإسلام! لأنَّه ليس من المفهوم في مثل هذه الحقبة التاريخيَّة أن يكون تعامل القادة مع الشعوب المنهزمة بهذه الصورة[62]! وهذا من أعجب ما قرأتُ عن هذا الفاتح الإسلامي العظيم!
وسادسًا وأخيرًا: لكي نفهم سماحة الفاتح الحقيقيَّة عند فتح القسطنطينيَّة يجب مقارنة ما فعله بما فعله الفاتحون الأخرون لنُدرك مدى نبل أخلاقه، ويكفي أن نُراجع ما وصف به المؤرِّخ الإنجليزي استيڤين رنسيمان Steven Runciman استباحة اللاتين لمدينة القسطنطينيَّة عام 1204م حيث ذكر الكثير من المآسي غير المتخيَّلة، وختم بأن قال: «إنَّ هذه الاستباحة لا يُوازيها شيءٌ في التاريخ كلِّه»[63]! وما قاله رنسيمان في حقِّ اللاتين في القسطنطينيَّة يُقال كذلك في حقِّ الحملة الصليبية على القدس[64]، ويُقال -أيضًا- في حقِّ ما فعله الإسبان في الأندلس، أو في أميركا اللاتينيَّة، وما فعله الأوروبِّيُّون مع الهنود الحمر في أميركا الشماليَّة، أو ما فعله الكاثوليك في البروتستانت في باريس عام 1572م، أو ما فعله الفرنسيُّون في الجزائر، أو ما فعله الصينيُّون في التركستان، أو ما فعله اليابانيُّون في الصين[65]، والقائمة لا نهاية لها! وبضدِّها تَتَبَيَّن الأشياء!
المسألة الثالثة: محاكمة العسكريِّين ورجال البلاط:
لم يكن معنى التسامح عند الفاتح أن يترك القيادات الكبرى في البلد دون محاكمة وحساب؛ فكان تسامحه الكامل مع الشعب المدني فقط، أمَّا هذه القيادات فخضعت لمحاكمات عسكريَّة، وكانت نتيجة هذه المحاكمات إعدامًا لبعض القيادات، وأسرًا لمجموعة أخرى انتظارًا لافتدائهم بالمال، وعفوًا عن مجموعةٍ ثالثة.
كان من الذين حوكموا في البداية القائد العسكري الأعلى للجيش البيزنطي لوكاس نوتاراس Loukas Notaras، الذي حاول أن يفتدي نفسه بتقديم ثروةٍ ضخمة للفاتح، ولكنَّ الفاتح قال له إنَّه كان من الأَولى أن يُقدِّم هذه الثروة للإمبراطور ليشتري بها طعامًا للشعب الفقير بدلًا من أن يحتفظ بها لنفسه، وبعد محاكمةٍ وحوارٍ سجَّلته الكتب أَمَرَ الفاتح بإعدامه ومصادرة أمواله[66].
ووجَّه الفاتح إلى قنصل البندقيَّة في القسطنطينيَّة چيرولامو مينوتو Girolamo Minotto تهمة خرق المعاهدة التي أبرمتها الدولة العثمانيَّة مع البندقيَّة، التي بموجبها ينبغي له ألَّا يُساعد القسطنطينيَّة عسكريًّا، ومِنْ ثَمَّ أعدمه[67].
كذلك أُعدِم القنصل الكتالوني (الإسباني) بيري چوليا Pere Julia، الذي كان مسئولًا عن قيادة الفرقة المدافعة عن القصر العظيم The Great Palace في الناحية الجنوبيَّة الشرقيَّة من المدينة على ساحل بحر مرمرة[68][69].
ومن الذين أُعْدِموا -أيضًا- كان الأمير العثماني أورخَان، الذي وُجِّهت إليه تهمة الخيانة العظمى للدولة العثمانيَّة[70].
وعلى الناحية الأخرى وافق الفاتح على افتداء عددٍ من نبلاء البندقيَّة بالمال بفديةٍ تتراوح بين ثمانمائة دوكا ذهبيَّة إلى ألفي دوكا، وكان عددهم تسعة وعشرين، وقد ذكرهم باربارو بأسمائهم، وقد تمَّ فداؤهم على مدار سنةٍ كاملة[71].
كذلك احتفظ الفاتح بالوزير والمؤرِّخ البيزنطي چورچ فرانتزس George Sphrantzes أسيرًا، حتى افتُدي بالمال في أول سبتمبر عام 1453م[72]، ويبدو أنَّ الفاتح رأى أنَّ دوره لم يكن عسكريًّا فلم يأمر بإعدامه.
ونجت كذلك القيادات الدينيَّة في المدينة؛ فقد افتُدي قس خيوس ليوناردو الچنوي بالمال عن طريق أحد أثرياء جالاتا[73]، وهرب الكاردينال إيزيدور مبعوث البابا في ثياب متسوِّل[74]! أمَّا چورچ سكولاريوس George Scholarius، وهو كبير قساوسة الأرثوذكس بالمدينة، وكان ضدَّ اتحاد الأرثوذكس مع الكاثوليك، لذلك كان منبوذًا قبل الفتح، وتاركًا لكرسي الأرثوذكسيَّة، أمَّا هذا الرجل فقد وقع في الأسر والاسترقاق دون أن يعرفه أحد، واشتراه تاجرٌ تركيٌّ من أدرنة، ولمـَّا عَلِم أنَّه شخصيَّةٌ مرموقةٌ في الكنيسة عامله باحترامٍ شديد، وسيسعى الفاتح بعد ذلك إلى استقدامه من أدرنة، وإعادته إلى كرسي الأرثوذكسيَّة[75]، وسنتعرَّض لقصَّته لاحقًا.
وفي موقفٍ في غاية النبل قام الفاتح على الفور بإطلاق سراح بنات العائلة المالكة، وكذلك بنات العائلات النبيلة الكبرى في القسطنطينيَّة، بل أعطاهم أموالًا كثيرةً ليقوموا بافتداء من يُريدون من عائلاتهم[76]! أمَّا شباب هذه العائلات الكبرى فقد خيَّرهم الفاتح بين الافتداء بالمال، أو اعتناق الإسلام والانضمام إلى طاقمه الحاكم، وكان من أولئك الذين اختاروا الإسلام وانضمُّوا للفاتح ابنان لتُوماس أخي الإمبراطور قُسطنطين الحادي عشر، وقد تسمَّى أحدهما بمسيح والآخر بمراد[77]، وقد اهتمَّ بهما الفاتح جدًّا حتى وصل مسيح إلى درجة وزير وقائد للبحريَّة في عهد الفاتح، ثم إلى منصب الصدر الأعظم في عهد ابن الفاتح بايزيد الثاني[78]، بينما وصل مراد إلى منصب حاكم الروملي[79]! ومن الجدير بالذكر أنَّه لو لم تُفْتَح القسطنطينيَّة فإنَّ أحد هذين الرجلين كان سيرث عرش الدولة البيزنطيَّة بعد موت قُسطنطين الحادي عشر لكونه بلا أولاد[80]! فانظر إلى المقادير، وكيف تَغَيَّر مسارهما من قادةٍ للدولة البيزنطيَّة الأرثوذكسيَّة إلى قادة الدولة العثمانيَّة الإسلاميَّة، وما يعلم جنود ربِّك إلَّا هو!
المسألة الرابعة: غنائم القسطنطينيَّة:
وفَّى الفاتح بعهده إلى جنوده وترك غنائم المدينة كلَّها لهم، وتتضارب الروايات في توقيت وقف عمليَّة جمع الغنائم؛ فبعضهم يقول: «إنَّ الفاتح أوقف هذه العمليَّة في مساء يوم الفتح نفسه»[81]، وبعضهم يذكر أنَّ هذا استمرَّ ثلاثة أيَّام[82]، وعلى كلٍّ فقد كانت الغنائم كثيرة، وتشمل: ذهبًا، وفضَّة، وأحجارًا كريمة، وثيابًا فاخرة. وقد تحوَّل الجيش بكامله إلى أثرياء بالغي الثراء[83]، ولم ينسَ الفاتح أن يُعطي أولئك الذين لم يشتركوا في عمليَّة الاقتحام ودخول المدينة، مثل أولئك الذين كانوا يصحبونه ويحرسونه، أو أولئك الذين يعملون في إطلاق المدافع، أو المشتركين في عمليَّات تأمين البوَّابات، أو غيرهم[84].
أمَّا ما أُشيع عن حرق كتب المكتبات أو تدميرها[85] فهذا ممَّا لا شَكَّ في بطلانه؛ لأنَّ الفاتح بخلفيَّته الثقافيَّة الكبيرة، وبشغفه الكبير بالكتب، وبإنفاقه الغزير على شراء أيِّ كتابٍ من أيِّ مكانٍ في العالم، لم يكن ليفعل ذلك قط؛ وإنَّما هي مجرَّد افتراءاتٍ لتشويه الصورة العثمانيَّة، ولإظهارهم بمظهر الهمج الذين لا يعرفون قيمة العلوم.
المسألة الخامسة: الموقف من أهل جالاتا الجنويِّين:
كانت هذه مشكلةً شائكةً وتحتاج إلى موازناتٍ مهمَّة؛ لقد كان الاتفاق بين الفاتح ومحافظ المدينة Podesta The على أن تقف جالاتا على الحياد، فلا تُساعد أحد الطرفين على الآخر، وأنَّها بوقوفها على الحياد سوف تأمن جانب العثمانيِّين، أمَّا إذا ثبت عكس ذلك فاجتياح الجيش العثماني لها سيكون محقَّقًا. هذا ما كان الچنويون في جالاتا فد اتَّفقوا عليه، ولكن ما حدث كان غير ذلك، وهذا ما أثار غضب الفاتح لدرجةٍ كبيرة!
لقد استوثق الفاتح من أنَّ جالاتا كانت تُساعد القسطنطينيَّة سرًّا أثناء الحصار؛ وذلك لأنَّ الجيش العثماني وَجَدَ بين قتلى المعركة الأخيرة -وكذلك بين الأسرى- بعض الچنويِّين المنتمين إلى جالاتا، وقد ذكر ذلك الفاتحُ في رسالته إلى السلطان إينال سلطان المماليك في مصر وهو يُبشِّره بفتح القسطنطينيَّة[86]؛ فالأمر عنده كان يقينيًّا، وكان نكثًا صريحًا بالاتِّفاق معه قبل ذلك، وقد أكَّد هذا الدعمَ السريَّ من جالاتا للقسطنطينيَّة كلٌّ من ليوناردو قس خيوس، والمؤرِّخ البيزنطي دوكاس، وذلك في كتاباتهما عن هذه الفترة[87]، فلم يكن الأمر توهُّمًا من السلطان. أضف إلى ذلك المساعدة الجادَّة التي قدَّمها الچنويُّون من خارج جالاتا للقسطنطينيَّة بقيادة زعيمهم الشهير چوستينياني، وكان الفاتح يشكُّ في وجود تعاونٍ بين الچنويِّين في جالاتا مع أولئك الموجودين في القسطنطينيَّة، وهذا ما دفعه لأن يقول: «لولا مساعدة جالاتا للقسطنطينيَّة لسقطت منذ اليوم الأوَّل للحصار»[88]! وغالبًا هو يقصد اتِّفاقها مع چوستينياني، أو على الأقل غضّ الطرف عنه.
كان الفاتح يشكُّ في هذا التعاون السريِّ بين جالاتا والمحاصَرين في القسطنطينيَّة، ولهذا أمر زاجانوس باشا أن يضع قوَّةً عسكريَّةً بالقرب من جالاتا قبيل الهجوم النهائي حتى يضمن عدم تحرُّكها بشكلٍ أكبر للمساعدة، وكان هذا الشكُّ هو الدافع له أن يذهب بنفسه ليُحذِّرهم من مغبَّة المخالفة قبل الهجوم النهائي بيومٍ واحد.
يُضاف إلى ما سبق أنَّ الچنويِّين في جالاتا استقبلوا السفينة التي استخدمها چوستينياني ورفقاؤه في الهروب من القسطنطينيَّة بعد إصابته، وأعطوا لها المجال للخروج إلى بحر مرمرة، ومِنْ ثَمَّ إلى جزيرة خيوس[89]، وهذه لا شَكَّ مخالفةٌ كبيرةٌ للاتفاق مع العثمانيِّين، خاصَّةً بعد الدور الكبير الذي قام به چوستينياني في الحصار.
لم يكن خافيًا على محافظ مدينة جالاتا والحكومة هناك أنَّ الفاتح يشكُّ في إخلاصهم، وخاصَّةً بعد قدومه بنفسه قبل الهجوم الأخير بيوم، وحديثه معهم بلهجةٍ تُوحي بعدم اطمئنانه لهم، لذلك أصابهم الفزع الشديد بعد تأكُّدهم من سقوط القسطنطينيَّة، وهذا دفعهم إلى إعداد وفدٍ برئاسة محافظ المدينة أنچلو لوميللينو Angelo Lomellino؛ ليذهب بسرعة إلى السلطان محمد الفاتح في خيمته بالمعسكر خارج أسوار القسطنطينية قبل دخوله الأول للمدينة؛ أي في صباح يوم الفتح نفسه 29 مايو! وذلك لتسليمه مفاتيح المدينة، وإعلامه أنَّها تابعةٌ له[90]!
كان الفاتح غاضبًا بشدَّةٍ من موقف الچنويِّين في جالاتا، وزاد من غضبه أنَّ زاجانوس باشا أرسل إليه بتحرُّك عدَّة سفنٍ من جالاتا بعد سقوط القسطنطينيَّة تحمل سكانًا من المدينة في طريقهم للهرب منها بعد تيقُّنهم من سقوط القسطنطينيَّة[91]، وهذا دعم الشكوك أكثر عند الفاتح، بالإضافة إلى أنَّه لم يكن يُريد للمدينة أن تُصبح خاوية، فليس في هذا مصلحة؛ إنَّما كان يُريدها تابعةً له وهي عامرةٌ قادرةٌ على التجارة والنشاط، ولقد حاول زاجانوس باشا إثناء الچنويِّين عن فكرة المغادرة، بل أمر الأسطول بالتحرُّك ناحيتهم لمنعهم من الفرار، بل أكَّد لهم أنَّهم ما زالوا في أمان، وأنَّ السلطان سيُعطيهم مزايا أفضل ممَّا كانوا يأخذونها من الإمبراطور البيزنطي[92]، ومع ذلك فقد أصرَّ بعضهم على المغادرة، وتُقدِّر بعضُ الدراسات أنَّ عدد الفارِّين من المدينة بلغ حوالي ثمانية بالمائة من تعداد سكَّانها[93].
ماذا كان ردُّ فعل السلطان؟!
لقد قرَّر السلطان عدم مقابلة محافظ جالاتا في هذا اليوم[94]! وبالتالي عاد الوفد إلى جالاتا بخفَّي حنين، وهم على وَجَلٍ من ردِّ فعل السلطان، ومع ذلك فقد فتحوا أبواب المدينة لزاجانوس باشا، فدخلها بجيشه، ولكنَّه لم يتعرَّض لأيٍّ من السكان بأيِّ نوعٍ من الأذى انتظارًا لِمَا سيُقرِّره السلطان[95].
كان السلطان الفاتح يعلم أنَّ وفد جالاتا ومحافظه لم يأتوا بهذه السرعة إلَّا لتجنُّب مصير القسطنطينيَّة؛ فالشريعة الإسلاميَّة لا تُعطي الحقَّ للجيش الإسلامي في أخذ الغنائم أو في استعباد الناس، إذا ما فَتحت المدينةُ أبوابها دون قتال، وهذا ما كان يبحث عنه محافظ جالاتا، ولكن في الوقت نفسه يكون للحاكم المسلم الحقَّ في أخذ المدينة إذا ما صدر منها ما يُخالف العهد بين الطرفين، وهذه هي الحالة التي نحن بصددها بعد مخالفات جالاتا.
إِذَنْ صار السلطان بين اختيارين!
إمَّا أن ينظر إلى «مصالح» الاتفاق السلمي مع الچنويِّين في جالاتا، فيغضُّ عندئذٍ الطرف عن مخالفاتهم في الفترة السابقة، ومِنْ ثَمَّ يعقد معهم اتِّفاقًا جديدًا؛ وإمَّا أن يتذرَّع بالمخالفات، ويُسيطر على المدينة، لتلحق بذلك القسطنطينيَّة! فإلى أيِّ الاختيارين ذهب الفاتح؟!
لقد تعامل الفاتح مع المسألة بهدوءٍ عجيب، وبتفكيرٍ منطقيٍّ رزين، وبمنطلقاتٍ سياسيَّةٍ بارعة، ليصل في النهاية إلى قرارٍ حكيم!
لا بُدَّ أنَّ الفاتح كان يسأل نفسه: لماذا يُساعِد الچنويُّون القسطنطينيَّة؟ وما الدوافع وراء المخالفات التي ارتكبوها؟!
إنَّه ليس الانتماء الوطني، أو الديني، بلا جدال! فهؤلاء الچنويُّون إيطاليُّون، والآخرون بيزنطيُّون يونانيُّون؛ وهؤلاء كاثوليك، والبيزنطيُّون أرثوذكس، وتاريخ اللاتين مع القسطنطينيَّة تاريخ سيِّء، والكراهية بينهما متبادلة، فلماذا هذا التعاطف الچنوي؟!
إنَّها «المصلحة»!
إنَّ القسطنطينيَّة مدينةٌ في غاية الأهميَّة من الناحية التجاريَّة، ليس لغناها أو اقتصادها فقط، ولكن لكونها تتحكَّم في المضايق البحريَّة الفاصلة بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسِّط، وحيث إنَّ لچنوة مستعمرات كثيرة في البحر الأسود فإنَّ حريَّة حركتها بين مستعمراتها في روسيا، وأوكرانيا، وچورچيا، والأناضول، وبين إيطاليا، معتمدةٌ تمامًا على علاقاتها السلميَّة مع القسطنطينيَّة، بالإضافة إلى أنَّ الدولة البيزنطيَّة دولةٌ عريقة، ولها علاقاتٌ كبرى مع كثيرٍ من تجَّار العالم، وهي نقطة اتِّصالٍ بين آسيا وأوروبَّا، وكلُّ هذا يجعل دولةً تجاريَّةً كچنوة لا تُقْدِم على التضحية بعلاقاتها مع القسطنطينيَّة. فإذا أضفنا إلى ذلك حصانة المدينة، وتوقُّعَ الچنويِّين في جالاتا لها أن تصمد أمام الحصار، وظنَّهم أنَّ حصار الفاتح لها هو إحدى المغامرات الحربيَّة المتكرِّرة في التاريخ، التي لا تنجح على الأغلب مع هذه المدينة الحصينة، فهذا كله دفعهم إلى شراء ودِّ البيزنطيِّين بهذه المساعدات التي تمَّت.
هذا التفكير المنطقي هدَّأ من روع الفاتح، وجعله يبحث عن «مصلحة» الدولة العثمانيَّة كما يبحث الچنويُّون عن مصلحتهم؛ فليس بين الطرفين عداءٌ قديمٌ كعداء العثمانيِّين للبيزنطيِّين، فأين تقع «مصلحة» الدولة العثمانية إِذَنْ؟!
إنَّ مصلحتها الحقيقيَّة تكمن في هذه المرحلة في أخذ موقع الدولة البيزنطيَّة من چنوة! فهذا سيُحقِّق عدَّة منافع للدولة العثمانيَّة؛ وأبرزها ثلاثة: أوَّلًا إنعاش التجارة في القسطنطينيَّة بشكلٍ خاص، وفي الدولة العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ، وربط التجارة في الدولة العثمانيَّة بالتجارة العالميَّة كلِّها مستفيدين من خبرة وعلاقات چنوة في هذا المجال، وثانيًا الاستفادة من الأسطول الچنوي الكبير، وهو أسطولٌ يتحرَّك لصالح مَنْ يدفع له أكثر! بمعنى أنَّه يُمكن تأجيره في عمليَّاتٍ عسكريَّة، أو تجاريَّة، أو غيرها، ولقد رأى الفاتح قبل ذلك كيف استغلَّ أبوه السلطان مراد الثاني هذا الأسطول في نقل قوَّاته عبر البوسفور لحرب الصليبيِّين في ڤارنا عام 1444م، أمَّا المنفعة الثالثة فهي ضبط موازين القوى في المنطقة لصالح الدولة العثمانيَّة؛ فالچنويُّون منافسون بقوَّةٍ للبنادقة، وجمهوريَّة البندقيَّة جمهوريَّةٌ خَطِرَةٌ للغاية، وأساطيلها قويَّة، ومستعمراتها في اليونان بالقرب من الدولة العثمانيَّة كثيرة، وقد أعدم الفاتح قنصلها في القسطنطينيَّة، وقد يحدث تصعيدٌ عسكريٌّ أو سياسيٌّ بينها والدولة العثمانيَّة قريبًا، وكلُّ هذا يدفع السلطان إلى البحث عن «حلفاء» على البنادقة، ولن يجد أفضل من الچنويِّين في هذه الظروف.
هذه الرؤية جعلت الفاتح راغبًا في عقد صلحٍ مع جالاتا، لكنَّه كان يُريد الحصول على أفضل المزايا، ولهذا آثر ألَّا يُقابل وفد الچنويِّين في اليوم الأوَّل لسببين: الأوَّل هو عدم مقابلتهم وهو في حالة الغضب؛ فقد يُؤثِّر ذلك في الاتفاق، والثاني هو إشعارهم بالقلق والرهبة؛ فهذا يُعطيه فرصةً لإملاء شروطٍ قد لا يستطيع إملاءها وهم مطمئنون.
تحقَّق ما يُريده السلطان الفاتح، وأعاد الچنويُّون المحاولةَ في التواصل الدبلوماسي، وذلك عن طريق إرسال سفيرين هما بابيلانو باللاڤيتشينو Babilano Pallavicino، وماركو دي فرانكو Marchio de Franko[96]، وقد وافق الفاتح على الاتفاق معهما، ولكنَّه كلَّف زاجانوس باشا بإتمام الاتِّفاقيَّة[97].
تمَّت هذه الاتفاقية بين الطرفين في الأوَّل من يونيو 1453م[98]، وهي ما زالت محفوظةً بالمتحف البريطاني في لندن إلى يومنا هذا[99]، وقد شملت هذه الاتِّفاقية بنودًا لصالح أهل جالاتا، وفي المقابل أعطت عدَّة مزايا للدولة العثمانيَّة، وقد جاءت هذه الاتِّفاقيَّة في شكل خطابٍ أو «عهد» بلسان السلطان، وإنْ كان الموقِّع هو زاجانوس باشا، وقد كُتِبَ العهد باللغة اليونانيَّة، وتُرجِم بعد ذلك إلى اللغتين الإيطاليَّة والتركيَّة، وتُعْرَف هذه الصيغة باسم «عهدنامة Ahidnama»، ويُعَدُّ هذا العهد نموذجًا جيِّدًا لمواثيق «الولاء» التي كانت تكتبها الدولة العثمانيَّة للولايات التابعة لها.
وهذا هو نصُّ العهد:
«أَرْسَل لبلاطي في الوقت الحالي أهلُ جالاتا ونبلاؤها مبعوثيهم بابيلانو باللاڤيتشينو وماركو دي فرانكو، ومعهم المترجم نيكولو باجليوزي Nicolò Pagliuzzi، بمفاتيح قلعتهم، وخضعوا لي كأتباعي. في المقابل أنا أوافق على أن يُؤدُّوا شعائرهم، ويحتكموا إلى قوانينهم كما كانوا يفعلون من قبل، و-أيضًا- لن أرسل ضدَّهم قوَّاتي العسكريَّة، ولن أهدم قلعتهم. أنا أوافق على أن تبقى ممتلكاتهم، وأعمالهم، وبيوتهم، ومخازنهم، وحقولهم، ومطاحنهم، وسفنهم، وقواربهم، وكلُّ بضائعهم، وزوجاتهم، وبناتهم، وأبناؤهم، وعبيدهم، في أيديهم، ولن أتعدَّى عليهم أو أزعجهم. أنا أوافق على أن يقوم تجَّارهم بالتجارة في أيِّ جزءٍ من البلاد التي تحت سيادتي، ويُمكن لهم السفر بحرًا وبرًّا دون أن يُعيقهم أحدٌ أو يُزعجهم. أنا أفرض عليهم الجزية الإسلاميَّة والخراج يدفعونها كلَّ عامٍ مثلما يفعل بقيَّة غير المسلمين. أنا أوافق على حمايتهم كما أفعل مع بقيَّة الأجزاء التي تحت سيادتي، ويُمكن لهم أن يحتفظوا بكنائسهم، ويُقيموا فيها شعائرهم كما يرغبون باستثناء دقِّ الأجراس، ولن أقوم بتحويل كنائسهم إلى مساجد، ولكنَّهم لا يقومون ببناء كنائس جديدة. أنا أوافق على أن يقوم التجار الچنويُّون الذين يأتون من خارج جالاتا ويذهبون بدفع الرسوم الجمركيَّة المفروضة في القانون العثماني ولن يتعدَّى عليهم أحد. أنا أوافق على ألَّا يُؤخَذ أحدٌ من أبناء جالاتا في نظام تجنيد الإنكشاريَّة، وعلى ألَّا يُحوَّل أحدٌ منهم إلى الإسلام بالقوَّة. أنا أوافق على أن يختار أهل جالاتا أيَّ إنسانٍ يُريدونه من أنفسهم ليُدير شئونهم. أنا أتعهد ألَّا يأتي إلى وطنهم أحدٌ من الإنكشاريَّة أو رجال السلطان. لن يُفْرَض عملٌ بالقوَّة على سكان البلدة أو التجار الذين يزورونهم»[100].
هذا هو عهد جالاتا!
والحقُّ أنَّه نموذجٌ قيِّمٌ يُوَضِّح مدى التناسق بين عزَّة المسلمين وقوَّتهم من جانب، وأخلاقهم الرفيعة واحترامهم لحقوق الغير من جانبٍ آخر، والذي يزيد من عظمة العهد أنَّه عُقِد أعقابَ انتصارٍ مهيب، وكان من الممكن أن يَفرض على أهل جالاتا شروطًا قاسية، ولا يُعطيهم هذه الحرِّيَّات المتعدِّدة، ولقد كان هذا السلوك من المنتصرين مستغربًا في أوروبَّا في هذه الحقبة، لدرجة أنَّ مثل هذه التعاملات الأخلاقيَّة صارت عَلَمًا على العثمانيِّين، وعُرِفَت في أوروبَّا باسم «السلام العثماني» «Ottoman Peace» أو «Pax Ottomana»[101][102]!
ويُلاحظ في هذا العهد أنَّ الألفاظ فيه جاءت عموميَّة؛ بمعنى أنَّه من الواضح أنَّ هذا العهد يُكْتَب لكلِّ الولايات التابعة للدولة العثمانيَّة، مع تعديلاتٍ طفيفةٍ تُضاف إلى كلِّ عهد، ولهذا لم يأتِ فيه مثلًا تحديد قيمة الجزية ولا الجمارك، ولم تُذكر فيه تفاصيل آليَّات جمع هذه الجزية، ولا طريقة الدولة العثمانيَّة في الدِّفاع عن جالاتا، وكيف يُمكن الجمع بين هذا الدِّفاع وعدم التدخل العسكري في شئون المدينة. كان من الواضح أنَّ هذا العهد المبدئي يحتاج إلى جلساتٍ أكثر، بل إلى زياراتٍ ميدانيَّةٍ لتحديد التفاصيل الدقيقة للعلاقة بين جالاتا والدولة العثمانيَّة، ولقد آثر السلطان الفاتح أن يقوم بأوَّل هذه الزيارات بنفسه؛ وذلك رغبةً منه في تهدئة الأجواء، وإعطاء أهل جالاتا شرفًا يدفعهم إلى احترام هذا التعاهد، وعدم الرضوخ للضغوط المتوقَّعة عليهم من أوروبَّا نتيجة قبولهم بالتبعيَّة للعثمانيِّين المسلمين، وعليه فقد حدَّد السلطان موعد الزيارة في يوم 3 يونيو 1453م[103]؛ أي بعد كتابة العهد بيومين فقط، وبعد الفتح بخمسة أيَّامٍ فقط، دلالةً على اهتمامه الشديد بالأمر.
قام السلطان الفاتح فعلًا بالزيارة في الوقت المحدَّد، ومعه وفدٌ كبيرٌ من الوزراء، والحاشية، والموظفين، وبناءً على هذه الزيارة تحدَّدت معالم كثيرة للوضع القانوني للمدينة، واتُّفِق على بنودٍ أخرى محدَّدةٍ لدعم تنفيذ العهد بشكلٍ مستقر، ويُمكن إجمال ما اتَّفق عليه الطرفان عَقِبَ هذه الزيارة في النقاط التالية:
1. رأى الفاتح أنَّ بعض أسوار المدينة ستُمثِّل عائقًا عسكريًّا يُهدِّد الأمن القومي للدولة العثمانيَّة، وكذلك وجود السلسلة الحديديَّة على مدخل القرن الذهبي، ولذلك اتَّفق مع محافظ المدينة على أن يقوم سكان جالاتا بهدم بعض الأسوار التي اتُّفق عليها، وكذلك هدم القلعة البيزنطيَّة التي تُرْبَط فيها السلسلة الحديديَّة، على أن تبقى القلعة الرئيسة للمدينة سليمة، وكذلك برج جالاتا[104].
2. ستكون منطقة جالاتا منزوعة السلاح[105].
3. يُمْنع أهل جالاتا من تقديم المساعدة لليونانيِّين في القسطنطينيَّة[106].
4. يتَّخذ أحد القضاة العثمانيِّين، ومعه طاقم من الموظفين، برج جالاتا كمقرٍّ لهم، وهم مكلَّفون بجمع الجزية والخراج، والإشراف على العلاقة القانونيَّة بين جالاتا والدولة العثمانيَّة، وستكون هناك حاميةٌ من الإنكشارية لحراسة البرج والموظفين العثمانيِّين[107].
5. قام الموظفون العثمانيُّون بحصر كلِّ البيوت في جالاتا، وحدَّدوا البيوت التي تركها أهلها وغادروا المدينة بعد فتح القسطنطينيَّة، ثم قاموا بفتح هذه البيوت في وجود الحكومة الچنويَّة، وقاموا بجرد كلِّ المحتويات وتسجيلها، ثم أعادوا إغلاق هذه البيوت، وقاموا بإعطاء أهلها مهلةً قدرها ثلاثة أشهر للعودة وأخذ بيوتهم وممتلكاتهم كلِّها، وإلَّا فستئول هذه الأملاك للدولة العثمانيَّة[108]، وكان هذا الإجراء يهدف إلى تشجيع هؤلاء المغادرين للعودة السريعة إلى البلد، لِمَا لوجودهم من أهميَّةٍ اقتصاديَّة واجتماعيَّةٍ وأمنيَّة.
6. قام الموظفون العثمانيُّون كذلك بحصر أسماء السكان كلِّهم، وتحديد «المواطنين» من أهل جالاتا، وكذلك تحديد «الزائرين» من التجار والدبلوماسيِّين وغيرهم؛ حيث سيقوم الرجال البالغون من المواطنين بدفع الجزية والخراج، بينما سيُعفَى من ذلك الزائرون[109].
هكذا أُغلق ملفُّ جالاتا بصورةٍ تُرضي الطرفين، وهدأت الأمور تمامًا بينهما، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ هذه الاتِّفاقيَّة بين الدولة العثمانيَّة والچنويِّين في جالاتا فقط، ولا علاقة لها بجمهوريَّة چنوة الأم، ولا بشيءٍ من مستعمراتها؛ فموقف الجمهوريَّة العدائيُّ واضح، وقد برز في المعونة العسكريَّة الصريحة سواءٌ عن طريق چوستينياني والمقاتلين الذين جاءوا معه، أم عن طريق السفن التي دخلت إلى القسطنطينيَّة بعد حربٍ مع الأسطول العثماني في يوم 18 أبريل.
وجديرٌ بالذكر أنَّ السلطان الفاتح كان يُدرك أنَّ ولاء الچنويِّين في جالاتا له ليس بدافع الحب، أو الاحترام، أو التقدير؛ إنَّما هو بدافع القوَّة العثمانيَّة، والمصلحة الاقتصاديَّة، ولكنَّ ولاءهم الحقيقيَّ سيكون لجمهوريَّتهم الأم، ولأبناء عقيدتهم الكاثوليكيَّة، ولقد كُشِفَ حديثًا عن رسالةٍ أرسلها محافظ جالاتا لأخيه ولحكومة چنوة، وذلك في يوم 23 يونيو 1453م؛ أي بعد حوالي ثلاثة أسابيع فقط من المعاهدة مع الدولة العثمانيَّة، وفي هذه الرسالة يُحذِّر المحافظ الچنوي دولته الأمَّ من طموحات الفاتح، ومن خطورة أمره، ومن شعوره اليقيني أنَّ الفاتح لن يكتفي بفتح القسطنطينيَّة؛ إنَّما سيسعى لفتح روما نفسها! وقد أورد المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون Kenneth Setton الرسالة كاملةً في كتابه[110]، ويُعْلَم منها أنَّه ما لم تكن للمسلمين قوَّةٌ تحمي معاهدتهم -كما رأينا في موقف الفاتح- فإنَّ الطرف الآخر سيسعى عند أوَّل فرصةٍ للنكث بالمعاهدة، وتجديد الانتماء إلى أهل عقيدته، أو إلى مَنْ تتحقَّق معه «مصالح» أعلى!
المسألة السادسة: المناطق المحيطة بالقسطنطينيَّة والمضايق:
كان من الطبيعي أن يسعى السلطان الفاتح بعد فتح القسطنطينيَّة إلى إخضاع أيِّ أملاكٍ للدولة البيزنطيَّة خارج القسطنطينيَّة، وكذلك إخضاع أيِّ مدينةٍ في محيط القسطنطينيَّة لا تدين بالولاء للدولة العثمانيَّة، وكانت هذه المناطق قلعتين، ومدينة، وأربع جزرٍ في مدخل المضايق.
أمَّا القلعتان فهما قلعة سيليمبريا Selymbria، وهي القلعة التي قاومت العثمانيِّين أثناء حصار القسطنطينيَّة، ولم ينجح الجيش العثماني في فتحها آنذاك، وهي توجد الآن في مدينة سيليڤري Silivri التركيَّة، والقلعة الأخرى هي قلعة إبيباتوس Epibatos، وهي تقع في مدينة سليم باشا Selimpaşa التركيَّة الآن، وقد سَلَّمت هاتان القلعتان فورًا دون قتالٍ بعد سقوط القسطنطينيَّة[111].
وأمَّا المدينة فهي مدينة إنيز Enez، وهي في تركيا الآن، وتقع على بعد حوالي مائتين وأربعين كيلو مترًا غرب القسطنطينيَّة، عند مصبِّ نهر ماريتسا Maritsa في بحر إيجة، وكانت تحت حكم بالاميديس Palamedes، وهو أحد أفراد عائلة جاتيلوسي Gattilusi الچنويَّة، وهي مدينةٌ استراتيجيَّة؛ حيث تتحكَّم في الملاحة في نهر ماريتسا المهم، فضلًا عن كونها أحد موانئ بحر إيجة الرئيسة، ولمـَّا كانت قيادتها چنويَّة فإنَّ الفاتح قرَّر القيام بغزوها مباشرةً بعد إسقاط القسطنطينيَّة، ولكنَّ حاكمها الچنوي استبق هذا الغزو بالقدوم إلى الفاتح بمفاتيح المدينة[112]، لتأخذ المدينة بذلك أحكام جالاتا نفسها تقريبًا.
وأمَّا الجزر الأربعة فهي ثاسوس Thasos (وهي معروفة في اللغة التركية القديمة باسم طاشوز)، وساموتراس Samothrace، وإمبروس Imbros، وليمنوس Lemnos، وهي جزرٌ في غاية الأهميَّة؛ حيث تقع عند مدخل المضايق في شمال بحر إيجة، وبالتالي تتحكَّم في الملاحة في هذه المضايق الاستراتيجيَّة، وكانت هذه الجزر تابعةً للدولة البيزنطيَّة، ولكنَّها تحت قيادة عائلة جاتيلوسي الچنويَّة، التي كانت تدفع ضريبةً للدولة البيزنطيَّة نظير هذه القيادة، فلمَّا سقطت القسطنطينيَّة توقَّع معظم أهل الجزر من اليونانيِّين وكذلك الموظَّفون البيزنطيُّون، أن تكون الخطوة القادمة للفاتح هي غزو هذه الجزر المهمَّة، ولذلك فرَّ عددٌ كبيرٌ منهم إلى مناطق بعيدة تكون أكثر أمانًا لهم[113]. كان القاضي البيزنطي لجزيرة إمبروس هو كريتوبولوس، وهو الذي سيُصبح لاحقًا المؤرِّخ البيزنطي الشهير، وقد قرَّر هذا القاضي عدم مغادرة جزيرته، ونجح في مقابلة الفاتح ليُحاول إقناعه بعدم غزو هذه الجزر، ولكن بفرض السيادة عليها مع دفع الجزية[114]، أي معاملتها بطريقة معاملة جالاتا نفسها، التي من الواضح أنَّها أصبحت نموذجًا يسعى اليونانيُّون والچنويُّون في المنطقة لتقليده. وافق الفاتح على طرح كريتوبولوس، وأقرَّ بقاء الجزر على الوضع السياسي والاجتماعي نفسه الذي كان سائدًا أيَّام البيزنطيِّين، ولكن لصالح الدولة العثمانيَّة بدلًا من الدولة البيزنطيَّة، وعليه انتقلت قيادة الجزر الأربعة إلى أخوين من عائلة جاتيلوسي؛ فكانت جزيرتا إمبروس وساموتراس تحت قيادة بالاميديس حاكم مدينة إنيز، التي تدفع الجزية فعلًا للدولة العثمانيَّة، وكانت جزيرتا ليمنوس وثاسوس تحت قيادة أخيه دورينو، والمعروف بدورينو الأول Dorino I، وهو حاكم جزيرة ليسبوس، إحدى جزر بحر إيجة[115][116][117].
هكذا صارت القسطنطينيَّة، وضواحيها، والجزر الواقعة في مدخل المضايق، كلُّها تحت السيطرة العثمانيَّة، وفقدت الدولة البيزنطيَّة «كلَّ» أملاكها في المنطقة.
المسألة السابعة: محاكمة الصدر الأعظم خليل جاندرلي:
مرَّ بنا أثناء حديثنا عن الأيَّام السابقة مباشرةً للهجوم النهائي أنَّ هناك شائعات سَرَت في الجيش بأنَّ الصدر الأعظم خليل جاندرلي قد سرَّب معلومات هذا الهجوم للإمبراطور البيزنطي.
لم تكن هناك أدلَّةٌ صريحةٌ على هذا الاتِّهام الكبير، ومِنْ ثَمَّ لم يأخذ الفاتح موقفًا من هذه الشائعات. ومع ذلك، وبعد الفتح، أُسِرَ القائد العسكري الأعلى للجيش البيزنطي لوكاس نوتاراس، وفي أثناء عمليَّة التحقيقات معه ذكر أنَّ الذي دفعهم إلى إكمال المقاومة وعدم الاستسلام للجيش العثماني هو وصول رسائل من الصدر الأعظم تدعوهم للمقاومة قليلًا وسوف يُرفع الحصار، وكان نوتاراس يقول هذا الكلام في محاولةٍ لإنقاذ نفسه من القتل بدعوى أنَّهم كانوا مدفوعين للمقاومة بنصيحة الصدر الأعظم، أحد أكبر قيادات الدولة العثمانيَّة[118]. وصلت هذه الاتهامات الخطرة إلى السلطان الفاتح، فحقَّق مع نوتاراس بنفسه[119]. في هذا التحقيق كانت المفاجأة الصارخة؛ حيث لم يكتفِ نوتاراس باتِّهام الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي بإرسال رسائل كثيرة إلى الإمبراطور البيزنطي دون علم السلطان، بل سلَّم السلطان عددًا من هذه الرسائل[120]!
غضب السلطان الفاتح غضبًا شديدًا، وأمر بالقبض على الصدر الأعظم فورًا بعد عزله من منصبه، وأمر كذلك بترحيله إلى أدرنة لحين استكمال التحقيقات[121].
كانت هذه الأحداث يوم الأربعاء 30 مايو[122]؛ أي في اليوم التالي للفتح مباشرة، وقد أعطى السلطان منصب الصدارة العظمى لزاجانوس باشا القائد الأعلى للجيش[123]، وهذا الذي يُفسِّر قيام زاجانوس باشا بعقد الاتفاق مع جالاتا، والتوقيع على العهد بدلًا من السلطان يوم 1 يونيو؛ أي بعد ولايته لمنصب الصدارة بيومين.
ولاستكمال الصورة نذكر أنَّ التحقيقات استمرَّت في أدرنة بعد عودة السلطان من القسطنطينيَّة، واستعان فيها السلطان بشهادات بعض اليونانيِّين ممَّن أُخِذُوا أسرى بعد الفتح، وكذلك بمعلوماتٍ من المخابرات العثمانيَّة[124]، وكانت كلُّ الأدلة تدين الصدر الأعظم، ويُؤكِّد ذلك عاشق زاده، وهو المؤرِّخ التركي المعاصر للتحقيقات[125][126]، وبعد أكثر من أربعين يومًا حُكِم بإعدام الصدر الأعظم خليل جاندرلي ، ونُفِّذ الحكم في 10 يوليو 1453م[127]، وإن كان خليل إينالچيك Halil Inalcik قد ناقش موعد الإعدام فوجد أنَّه في أغسطس أو سبتمبر من السنة نفسها[128]، وهذا يعني أنَّ الحكم لم يكن متسرِّعًا، بل أخذ الوقت الكافي للتحقيق.
إنَّه لأمرٌ مؤسفٌ حقًّا!
إنَّها لقضيَّةٌ شائكة، وما زالت تُمثِّل اضطرابًا عند المؤرِّخين ما بين مؤيِّدٍ ومعارض، بل تذكر بعض الروايات أنَّ بعض العلماء وبعض رجال الإنكشاريَّة كانوا يُعارضون إعدام الصدر الأعظم[129]، ويزعم بعض المؤرِّخين أنَّ محمدًا الفاتح أعدم الصدر الأعظم لكونه من عائلة جاندرلي المنافسة للعائلة العثمانيَّة، وهذا غير صحيح؛ لأنَّه لو كان هذا هو السبب لَمَا أعطى السلطان الفاتح بعد ذلك الفرصة لأحدٍ من أفراد العائلة للوصول إلى مركزٍ مرموقٍ في الدولة، وهذا خلافٌ الواقع؛ فقد ارتقى أولاد خليل جاندرلي نفسه إلى مناصب عليا في زمن الفاتح؛ فالابن الأول إبراهيم صار قاضي العسكر، والابن الثاني سليمان صار قاضي أدرنة، وهذا الأخير كان مقرَّبًا جدًّا من السلطان إلى درجة أنَّه بعد وفاة الفاتح صار صدرًا أعظم في عهد ابنه بايزيد الثاني[130].
ويرى آخرون أنَّ الفاتح أعدم خليل جاندرلي لكونه معارضًا لفتح القسطنطينيَّة، ولكونه مشاركًا في إعادة السلطان مراد الثاني إلى الحكم منذ سبع سنوات في فترة الولاية الأولى لمحمد الفاتح، ولكونه يُعامل السلطان بطريقةٍ غير لائقة، ولكونه كذلك صاحب شعبيَّةٍ في الإنكشاريَّة ممَّا يُسبِّب قلقًا للسلطان[131][132][133]، والحق أنَّني أرى أنَّ كلَّ هذه الأسباب لا ترقى إلى اتِّهام الفاتح بقتل الصدر الأعظم؛ إنَّما كان يكفي عزله لتحقيق المراد، ولو كانت هذه الأسباب قويَّةً عند الفاتح لعزله بمجرَّد ولايته، ولكنَّه أبقاه حتى زمن الفتح، بل صحبه معه في كلِّ المحافل واللقاءات، وكان إلى جواره لحظةً بلحظةٍ في حصار القسطنطينيَّة.
أمَّا الدوافع وراء هذه التعاون بين الصدر الأعظم والإمبراطور البيزنطي، وما إذا كانت بسبب الرشوة، أو الصداقة، أو بسبب الخوف على مصلحة الدولة العثمانيَّة، فهذه كلُّها أمورٌ لا يعلمها إلَّا الله، وهي بينه وبين الصدر الأعظم، ولا يأخذ بها القاضي في حكمه؛ إذ إنَّ الظاهر هي جريمة خيانةٍ عظمى في وقتٍ دقيقٍ كان من الممكن أن تُؤدِّي إلى كوارث تعصف بالدولة كلِّها، ولم يكن لهذه الجريمة عقابٌ إلَّا الإعدام.
وعمومًا كان صعود زاجانوس باشا إلى مركز الصدارة العظمى هي المرَّة الأولى التي يرقى فيها إلى هذا المنصب رجلٌ من غير الأتراك، وسيكون بدايةً لسلسلةٍ من الصدور العظام من أعراقٍ مختلفة، وهذا يُناسب التوسُّع الإمبراطوري للدولة، وقيادتها لعددٍ كبيرٍ من الجنسيَّات والأعراق.
المسألة الثامنة: تغيير اسم القسطنطينيَّة إلى إسطنبول:
كانت عاصمة الدولة العثمانيَّة حتى هذه اللحظة هي مدينة أدرنة، وكان الفاتح يُريد تغيير عاصمة الدولة بعد الفتح لتكون القسطنطينيَّة، ولكن هذا يحتاج إلى بعض الإعدادات والترتيبات العميقة، التي تجعل هذا الانتقال أمرًا طبيعيًّا، وكان من أوائل الأمور التي فكَّر فيها السلطان الفاتح هو تغيير اسم المدينة من القسطنطينيَّة إلى إسطنبول، ولذلك -كما يقول طورسون Tursun- أبلغ السلطانُ وزراءَه قبل رحيله من القسطنطينيَّة إلى أدرنة بعد الفتح بثلاثة أسابيع، أنَّ الاسم الرسمي للمدينة الذي سيُستخدم في المحافل الدوليَّة والشئون الداخليَّة، هو إسطنبول من الآن فصاعدًا[134].
لقد كان من الضروري أن يتغيَّر اسم القسطنطينيَّة، وذلك لعدَّة أسباب؛ فأوَّلًا: هناك ارتباطٌ وثيقٌ بين «القسطنطينيَّة» والدولة البيزنطيَّة وأباطرتها، وهذا الارتباط قديمٌ للغاية، ومن الصعب محوه من الأذهان، وعندما سُئِل رسول الله ﷺ عن أيِّ المدينتين تُفتح أوَّلًا؛ قسطنطينيَّة أو روميَّة؟ كانت إجابته: «مدينة هرقل تُفتح أوَّلًا»[135]. فالقسطنطينيَّة عنده مرتبطةٌ بالإمبراطور البيزنطي، فهذا الارتباط التاريخي والسياسي والاجتماعي صار غير مناسبٍ بعد تحوُّل القسطنطينيَّة من البيزنطيِّين إلى العثمانيِّين، وثانيًا: هناك بُعْدٌ معنويٌّ مهمٌّ عند الأوروبِّيِّين، وخاصَّة الأرثوذكس منهم، وهو أنَّه طالما «القسطنطينيَّة» ما زالت موجودةً فإنَّه لا بُدَّ من تحريرها واستخلاصها من المسلمين، أمَّا لو صارت القسطنطينيَّة «إسطنبول»، أو غيرها من الأسماء، فإنَّه مع مرور الوقت قد تُمْحَى القضيَّة من أذهان المتحمِّسين لاسترداد المدينة، وثالثًا: فإنَّ اسم القسطنطينيَّة مُشْتَقٌّ من اسم أحد رموز النصرانيَّة الكبرى في العالم، وهو قسطنطين الأول، مؤسِّس المدينة، وأوَّل إمبراطورٍ رومانيٍّ يعتنق النصرانيَّة، وهو السبب الرئيس في تحوُّل الدولة الرومانيَّة من الوثنيَّة إلى النصرانيَّة[136]، فلا يُناسب الآن بعد أن صارت مدينةً إسلاميَّة، وستكون عاصمةً لإحدى دول المسلمين الكبرى، أن تكون منسوبةً لنصراني، فكان التغيير إلى غيرها من الأسماء أفضل.
ولقد اختار السلطان الفاتح أن يكون اسم المدينة الرسمي هو «إسطنبول»، ولا صحَّة لِمَا يُقال إنَّ «إسطنبول» هو تحريفٌ للفظ «إسلامبول»؛ فلفظ إسطنبول لفظٌ يونانيٌّ قديمٌ مشتقٌّ من الجملة «eis teen polin»، وتعني «إلى المدينة» «to the city»[137]، وقد استخدم البيزنطيُّون هذا اللفظ «إسطنبول» منذ القرن العاشر الميلادي[138]؛ أي قبل الفتح الإسلامي بخمسة قرونٍ كاملة، ولكنَّهم كانوا يعنون بها المدينة المسوَّرة فقط؛ بمعنى أنَّ المناطق الخارجة عن الأسوار لا تُعَدُّ من إسطنبول، ولكنَّها تُعتبر من القسطنطينيَّة، وذلك مثل: جالاتا، وأسكودار Üsküdar، وأيوب، وغيرها[139]، ولقد جاء ذكر «إسطنبول» في المصادر العربيَّة قبْل الفتح بسنوات، بل بقرون، ممَّا يُؤكِّد أنَّ اللفظ غير محرَّفٍ من كلمة إسلامبول؛ إذ كانت المدينة آنذاك لا تمتُّ للإسلام بصلة؛ فقد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان[140]، والمعروف أنَّ ياقوتًا الحموي تُوفِّي عام (626هـ= 1229م)[141]، أي قبل فتح القسطنطينيَّة بأكثر من قرنين، كذلك زار الرحَّالة المسلم الشهير ابن بطوطة مدينة القسطنطينيَّة، وذكر أنَّ أحد أقسامها العظيمة يُسَمَّى إسطنبول[142]، وقد تُوفِّي ابن بطوطة عام (779هـ= 1378م)[143]، أي قبْل الفتح بخمسةٍ وسبعين عامًا تقريبًا.
أمَّا لفظ «إسلامبول» فيعني «تخت الإسلام» أو «مدينة الإسلام»[144]، وهو لفظٌ حديثٌ لم يُستخدم إلَّا في القرن الثامن عشر الميلادي، واستُخْدِم لفترةٍ محدودةٍ فيه[145]، وإن كان بعضهم يقول: إنَّه من المحتمل أن يكون منشأ هذا اللفظ من عهد الفاتح، ولم يُستخدم بكثرةٍ إلَّا في القرن الثامن عشر[146].
المسألة التاسعة: تعيين والي القسطنطينيَّة:
أعطى السلطان الفاتح ولاية إسطنبول لسليمان بك[147]، وهو من الشخصيَّات المرموقة المتميِّزة في أكثر من جانب، ويلفت النظر وصف المؤرِّخ البيزنطي كريتوبولوس له؛ حيث قال: «كان سليمان بك من أذكى وأنفع الناس، وكان يتميَّز بأرفع الأخلاق»[148]! كانت مهمَّة الولاية الإسلاميَّة الأولى للقسطنطينيَّة تحتاج إلى مثل هذا الرجل بهذه الصفات؛ فالذكاء والقدرة على النفع سيضمنان قدرته على تنفيذ المطلوب منه في قيادة المدينة، وأخلاقه الرفيعة ستكون خير مثال للإسلام أمام الشعب اليوناني الذي يقطن القسطنطينيَّة، كما ستُمكِّنه هذه الأخلاق من تجنُّب الاحتكاكات السياسيَّة والاجتماعيَّة التي يُمكن أن تحدث في المدينة في ظلِّ التغيير الكبير الذي حدث في قيادتها وحكومتها. كلَّف السلطان محمد الفاتح ألفًا وخمسمائة من الإنكشاريَّة بحماية المدينة داخليًّا وخارجيًّا[149]، ويُعَدُّ هذا الرقم مناسبًا، بل كبيرًا؛ في ظلِّ فناء الجيش البيزنطي تقريبًا، ورحيل القوَّات الإيطاليَّة عن المدينة. أعطى السلطان الفاتح واليه الجديد عدَّة مهام، وكلها يصبُّ في اتِّجاه تحويل المدينة إلى عاصمةٍ جديدةٍ للدولة العثمانيَّة، وسوف نتعرَّض لهذه المهامِّ في الفصل القادم.
هكذا انتهت الأسابيع الثلاثة الأولى بعد فتح القسطنطينيَّة، وأعطى السلطان الفاتح واليه سليمان بك صلاحيَّاتٍ مطلقةً لإدارة المدينة، وقفل راجعًا إلى أدرنة في يوم 21 يونيو[150]، ليتَّخذ الخطوات المناسبة لتحويل عاصمة الدولة من أدرنة إلى القسطنطينيَّة[151].
التعليقات
إرسال تعليقك