الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
كان أهم تعريف يُعَرّف به رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه هو أنَّه رسولٌ من عند الله تعالى للناس، وكان هذا التعريف مهمًّا بشكلٍ خاص في أربع حالات.
أولاً: التعريف بكونه رسولًا ونبيًّا:
كان أهمُّ تعريفٍ يُعَرِّف به رسول الله ﷺ نفسه هو أنَّه رسولٌ من عند الله تعالى للناس، وكان هذا التعريف مهمًّا بشكلٍ خاصٍّ في أربع حالات؛ الأولى عندما يلتقي إنسانًا لأوَّل مرَّة، خاصًّة إن كان هذا الإنسان يسأل عن كنهه، أو كان الرسول ﷺ يدعوه إلى الإسلام، وأمَّا الحالة الثانية فهي عند ظهور معجزةٍ أو آيةٍ على يده ﷺ، فعندها يُذَكِّر الناس أنَّه رسولٌ من عند الله لئلَّا يظنُّ أحدٌ أنَّه حقَّق المعجزة بنفسه إنَّما الفاعل لها على الحقيقة هو الله تعالى، وأمَّا الحالة الثالثة فهي عند شعوره ﷺ أنَّ المسلمين مضطربون لسببٍ أو لآخر، فيُطمئنهم أنَّه رسولٌ من عند الله، وبالتالي فالله يؤيِّده وينصره، وأخيرًا تأتي الحالة الرابعة وهي عندما يُكَذِّبه أحدٌ في أمر الرسالة، أو النبوَّة.
من أمثلة الحالة الأولى التي يُعَرِّف فيها رسول الله ﷺ نفسه ما يلي:
ذكر رسول الله ﷺ ما فعله عند قيامه بالرسالة أوَّل مرَّةٍ في مكة فقال، كما روى أبو الدرداء رضي الله عنه: «.. إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ»[1].
وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، ومَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَتَاهُمْ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ قَالُوا: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللهِ، بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأُنْزِلَ عَلَيَّ كِتَابٌ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِسْلَامَ، وتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ، هَذَا واللهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ[2].
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: كُنْتُ وأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ. فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ. فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا نَبِيٌّ». فَقُلْتُ: ومَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي اللهُ». فَقُلْتُ: وبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ وكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ»[3].
وفي رسالة الرسول ﷺ إلى كسرى زعيم الفرس قال له: «.. فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لأُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ..»[4].
وفي رسالته ﷺ إلى هرقل زعيم الروم قال: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ..»[5].
وعن إياس بن سلمة عن أبيه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ عَقُوقٍ[6] يَتْبَعُهَا مُهْرُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللهِ». قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «غَيْبٌ، ولَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ». قَالَ: فَمَتَى نُمْطَرُ؟ قَالَ: «غَيْبٌ، ولَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ». قَالَ: فَمَا فِي بَطْنِ فَرَسِي؟ قَالَ: «غَيْبٌ، ولَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ». قَالَ: فَأَعْطِنِي سَيْفَكَ؟ قَالَ: «هَا» فَأَخَذَهُ، فَسَلَّهُ ثُمَّ هَزَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الَّذِي أَرَدْتَ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا أَقْبَلَ، فَقَالَ آتِيهِ فَأَسْأَلُهُ، ثُمَّ آخُذُ سَيْفِي فَأَقْتُلُهُ». فَغَمَدَ السَّيْفَ[7].
وعَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ[8]، لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللهِ. مَرَّتَيْنِ، قَالَ: «لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ». قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ، أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ -أَوْ فَلَاةٍ- فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ، رَدَّهَا عَلَيْكَ»[9].
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ب، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟ قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا العِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ فَعَادَ». فَأَسْلَمَ الأَعْرَابِيُّ[10].
ومثل الروايات السابقة في السيرة النبويَّة كثير.
ومن أمثلة الحالة الثانية التي يذكر فيها رسول الله ﷺ أنَّه رسولٌ من عند الله عند ظهور معجزة، ما يلي:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ب، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ، وَكَانَ يُسْلِفُنِي[11] فِي تَمْرِي إِلَى الجِدَادِ[12]، وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ[13]، فَجَلَسَتْ[14] نَخْلًا عَامًا[15]، فَجَاءَنِي اليَهُودِيُّ عِنْدَ الجَدَادِ وَلَمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئًا، فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ[16] فَيَأْبَى، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ». فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُكَلِّمُ اليَهُودِيَّ، فَيَقُولُ: أَبَا القَاسِمِ لاَ أُنْظِرُهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ، ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى، فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟» فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «افْرُشْ لِي فِيهِ» فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا جَابِرُ جُدَّ وَاقْضِ» فَوَقَفَ فِي الجَدَادِ، فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ مِنْهُ، فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ»[17].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً لِي، وأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا أَرَادَهُ اللهُ». قَالَ: فَجَاءَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ حَمَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ»[18].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ب، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ سَفَرٍ، حَتَّى إِذَا دَفَعْنَا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ بَنِي النَّجَّارِ، إِذَا فِيهِ جَمَلٌ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَ أَحَدٌ إِلَّا شَدَّ عَلَيْهِ[19]، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَ حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ، فَدَعَا الْبَعِيرَ، فَجَاءَ وَاضِعًا مِشْفَرَهُ[20] إِلَى الْأَرْضِ، حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَاتُوا خِطَامَهُ[21]». فَخَطَمَهُ، وَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا عَاصِيَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»[22].
ومن أمثلة الحالة الثالثة التي يُذَكِّر فيها رسول الله ﷺ المسلمين برسالته عند اضطرابهم ما يلي:
اضطرب المسلمون يوم حنين فذكَّرهم الرسول ﷺ بنبوته، فعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السبيعي: قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ب: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمْ يَفِرَّ؛ إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، وإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ واسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَلَمْ يَفِرَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا والنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»[23].
واضطرب المسلمون يوم عقدوا صلح الحديبية، وكانوا يرونه شرًّا لا ينبغي لهم أن يعقدوه، فطمأنهم رسول الله ﷺ بأنَّه رسولٌ من عند الله، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يَا ابْنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا»[24]. وفي رواية: «إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»[25].
واضطرب المسلمون في غزوة خيبر عندما قلَّ معهم الطعام أو انعدم، ثم طبخوا الحمر الأهليَّة (الإنسيَّة)[26]، فحرَّمها رسول الله ﷺ، فكان هذا شاقًّا عليهم، فنبَّه رسول الله ﷺ إلى أنَّه رسولٌ من عند الله ليطمئنهم أنَّ الله لن يُضيِّعهم، وأيضًا ليؤكِّد أنَّ تشريع تحريم أكل الحمير هو من عند الله وليس من عنده، وإن لم يأتِ في القرآن. عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى خَيْبَرَ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَوَجَدُوا فِيهَا حُمُرًا مِنْ حُمُرِ الْإِنْسِ، فَذَبَحَ النَّاسُ مِنْهَا، فَحُدِّثَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: «أَلَا إِنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِ لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ»[27].
أمَّا الحالة الرابعة التي يذكر فيها رسول الله ﷺ أنَّه رسولٌ من عند الله فهي عندما يُكَذِّبه الناس في هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَقَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَا، فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللهِ، وأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ»[28].
وفي رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، التي شرح فيها إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ذكر أنس رضي الله عنه أنَّ الرسول ﷺ قال لليهود عندما واجههم للمرَّة الأولى في المدينة: «يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ، وَيْلَكُمْ، اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ، فَأَسْلِمُوا»[29].
وقال الفَلْتَانُ بْنُ عَاصِمٍ رضي الله عنه: كُنَّا قُعُودًا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَشَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي فِي الْمَسْجِدِ[30] فَقَالَ: «يَا فُلَانُ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ[31]، قَالَ: وَلَا يُنَازِعُهُ الْكَلَامَ إِلَّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «أَتَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، وَالْإِنْجِيلَ، قَالَ: «وَالْقُرْآنَ؟» قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَشَاءُ لَقَرَأْتُهُ. قَالَ: ثُمَّ نَاشَدَهُ قَالَ: «تَجِدُنِي فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟» قَالَ: أَجِدُكَ مِثْلَكَ وَمِثْلَ هَيْأَتِكَ وَمِثْلَ مَخْرَجِكَ، وَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنَّا، فَلَمَّا خَرَجْتَ تَحَيَّرْنَا أَنْ تَكُونَ أَنْتَ هُوَ فَنَظَرْنَا وَإِذَا لَيْسَ أَنْتَ هُوَ. قَالَ: «وَلِمَ ذَلِكَ؟» قَالَ: إِنَّ مَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَمَعَكَ نَفَرٌ يَسِيرٌ. قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنَا هُوَ وَإِنَّهُمْ لَأُمَّتِي لَأَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا»[32].
والأمر في الحقيقة أوسع من ذلك؛ فمسألة نبوَّة الرسول ﷺ ورسالته هي أعظم قضيَّةٍ كان يتكلَّم فيها الرسول ﷺ مع الناس، وعليها كان ينبني كلُّ شيء؛ لهذا فرواياتها ومواقفها من الكثرة بمكان[33].
[1] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأعراف (4364).
[2] أحمد (23668)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والطبراني: المعجم الكبير (805)، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني، ورجاله ثقات. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/ 36.
[3] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة (832)، وأحمد (17057).
[4] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/655، وابن كثير: البداية والنهاية، 4/307. وحسنه الألباني. انظر: فقه السيرة، ص 360.
[5] البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (7)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل (1773).
[6] عَقُوقٌ: أَيْ حَامِلٌ. وَقِيلَ: حَائِلٌ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّفَاؤُلِ، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهَا سَتَحْمِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/278.
[7] الحاكم (14)، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. والطبراني: المعجم الكبير (6245)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/ 227.
[8] يصدر الناس عن رأيه: يعني يعمل الناس ما يأمر به، ولا يخالفون أمره.
[9] أبو داود: كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار (4084)، وصححه الألباني.
[10] الترمذي: أبواب المناقب، باب منه (3628)، وقال: حسن غريب صحيح، وصححه الألباني.
[11] أي باع جابر تمرًا غير موجود، وقبض ثمنه، ثم سيعطي هذا التمر المباع إلى اليهودي عندما يحلُّ وقت قطف الثمار بعد شهور.
[12] الجداد: زمن قطف ثمار النخل.
[13] رومة: بئر معروف في المدينة، وهي التي اشتراها عثمان بن عفان ووهبها للمسلمين.
[14] جلست الأرض أي لم تثمر.
[15] أي ظلت النخل بلا ثمر عامًا كاملًا، وبالتالي لم يتيسٍّر لجابر ما يقضي به الدَيْن.
[16] أي أرجوه لينتظر إلى العام المقبل.
[17] البخاري: كتاب الأطعمة، باب الرطب والتمر (5128).
[18] مسلم: كتاب النكاح، باب حكم العزل (1439).
[19] شد عليه: يعني هاج عليه.
[20] مشفره: المشفر: شفة الْبَعِير الغليظة.
[21] الخطام: الزِّمَام وَمَا وضع على خطم الْجمل ليقاد بِهِ.
[22] أحمد (14372)، وقال الأرناءوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن. والدرامي (18)، وقال حسين سليم أسد: إسناده جيد.
[23] البخاري: كتاب المغازي (4063)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين (1776).
[24] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الفتح (4563)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية (1785).
[25] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).
[26] وهي الحمير المستأنسة التي يستخدمها عموم الناس.
[27] النسائي: كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية (4341)، وقال الألباني: صحيح لغيره.
[28] البخاري: كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه (2552).
[29] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة (3699)، وأحمد (13228).
[30] هذا الرجل يهودي.
[31] لا يقول الرجل اليهودي هنا: يا رسول الله قناعةً بنبوة الرسول ﷺ، ولكن لأن أهل المدينة بشكلٍ عامٍّ درجوا على نداء الرسول ﷺ بهذا اللقب، فكان اليهودي يفعل مثلهم.
[32] البزار (3700)، والطبراني: المعجم الكبير (854)، والبيهقي: دلائل النبوة 6/273، وابن حبان (6580). وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات من أحد الطريقين. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/242.
[33] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص79- 84.
التعليقات
إرسال تعليقك