الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال

طبقات القادة
(أ) الطبقة الأولى من قادة العرب والمسلمين، هم قادة النبي صلى الله عليه وسلم، الذين قادوا سراياه، أو قادوا تشكيلاته التعبوية في غزواته. وقادة سراياه، هم الذين قادوا إحدى سراياه لتحقيق واجبٍ معيَّنٍ في وقتٍ معيَّن، وكان تعداد سراياه سبعًا وأربعين سريَّة. والتشكيلات التعبويَّة في غزواته، هي المقدِّمات والمؤخِّرات والمجنَّبات التي كان يتَّخذها لحماية جيشه في مرحلة مسير الاقتراب، وقادة المفارز الاستطلاعيَّة، وقادة أصحابه كالمهاجرين والأنصار والقبائل، وقادة أرتاله المكلَّفة بواجبٍ خاص، كالأرتال التي دخلت مكَّة المكرَّمة في غزوة الفتح، وقادة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة الكرام خريجو مدرسته القيادية، وكلهم من العرب المسلمين.
(ب) والطبقة الثانية: من قادة العرب والمسلمين، هم قادة الفتح الإسلامي، وقادة إعادة الفتح الإسلامي بالنسبة إلى البلاد التي سبق فتحها ثم انتقضت، فأعاد المسلمون فتحها من جديد. وقد بدأ الفتح الإسلامي سنة إحدى عشرة الهجرية (132م)، وانتهى سنة مائة الهجرية (718م)، وكان مدُّ الفتح الإسلامي عاليًا على عهد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وحتى سنة إحدى وثلاثين الهجرية (651م) من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم أصبح الفتح الإسلامي فتحًا جديدًا واستعادةً للفتح من سنة إحدى وثلاثين الهجرية إلى سنة مائة الهجرية، وذلك بعد عودة الوحدة إلى صفوف المسلمين.
وأكثر قادة الفتح من الصحابة، وأقلهم من التابعين، وجميعهم من العرب المسلمين عدا طارق بن زياد فاتح الأندلس الذي كان من البربر المسلمين. ويُمكن إضافة أسد بن الفرات فاتح صقلية، ومحمد الفاتح فاتح القسطنطينية إلى طبقة قادة الفتح، كما يُمكن إضافة صلاح الدين الأيوبي إلى طبقة قادة إعادة الفتح.
(ج) الطبقة الثالثة من قادة العرب والمسلمين، هم قادة الدفاع عن البلاد الإسلاميَّة الذين استطاعوا صدَّ العدوان الخارجي، واستطاعوا القضاء على الفتن الداخلية، وهم القادة الذين جاءوا بعد سنة مائة الهجرية وانتهوا بسقوط بغداد عاصمة العباسيِّين على أيدي التَّتار سنة ست وخمسين وستمائة الهجرية (1258م)، وقد استطاع السلطان قطز سنة ثمان وخمسين وستمائة الهجرية (1260م) صدَّ التتار في معركة (عين جالوت) على أرض فلسطين وانتصر عليهم، فهو من قادة الدفاع عن البلاد الإسلامية أيضًا.
والتوقيت الذي ذكرته بالنسبة إلى قادة الفتح الإسلامي، وقادة استعادة الفتح الإسلامي، وقادة الدفاع عن البلاد الإسلامية- توقيتٌ يصدق على الأغلبية العظمى من القادة في تصنيفهم إلى طبقات، أمَّا القلَّة القليلة من القادة الفاتحين أو مستعيدي الفتح أو المدافعين، فيُمكن إضافة كلِّ قائدٍ إلى طبقةٍ مع الإشارة إلى تاريخ فتحه أو استعادته الفتح أو انتصاره في المعارك الدفاعيَّة.
لقد فتح قسمٌ من القادة أجزاء من أوربَّا في أيام الدولة العثمانية، فهم دون شك من قادة الفتح، واستطاع قسمٌ من القادة استعادة بلاد إسلاميَّة احتلَّها أعداء المسلمين في عهد الدولة العباسية، وفي الحروب الصليبيَّة خاصَّة، فهم بلا مِرَاء من قادة استعادة الفتح، واستطاع قسمٌ من القادة الدفاع بنجاح عن بلاد المسلمين في عهد العباسيِّين وملوك الطوائف، وفي أيَّام الحروب الصليبيَّة الخاصَّة، فهم بلا ريب من قادة الدفاع عن بلاد المسلمين.
ولكنَّ أعداد أولئك القادة المنتصرين قليلة، بالمقارنة بأعدادهم الضخمة التي وردت في توقيت تصنيف طبقاتهم، فلا ينبغي إغفال كتابة تاريخهم تقديرًا لجهادهم وجهودهم، وهم يستحقُّون أعظم التقدير وأصدق الوفاء.
القادة المسلمون في المصادر
في المصادر التاريخيَّة المعتمدة معلومات غزيرة عن المعارك المختلفة خاضها قادة العرب والمسلمين، تُغطِّي الناحية العمليَّة من حياة القادة تغطيةً كاملةً أو قريبةً من الكمال، ولكن كتابة سِيَر القادة العرب والمسلمين تشمل سِيَرهم قادةً وسيرهم بشرًا، ولا ينبغي الاقتصار على سيرهم قادة وإبراز سماتهم العسكريَّة، والسكوت عن أيَّة سمةٍ لأيِّ قائدٍ إنسانًا، فذلك وحده يُكمل الصورة لتاريخ القادة العسكريَّة وغير العسكريَّة.
وقد كان عمل القادة في الغالب لا يقتصر على العمليات العسكرية، بل يشمل القضايا الإداريَّة؛ لأنهم كانوا ولاةً يُمارسون الإدارة، وقادةً يُمارسون القيادة، وتاريخهم الإداري لا يقلُّ أهميَّةً عن تاريخهم العسكري، وتاريخهم الرسمي قادةً وإداريِّين جزءٌ من تاريخهم الكامل، فينبغي تدارس تاريخهم بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويعملون عمل سائر البشر، زواجًا وإنجابًا، ولهم سماتهم البشرية مزايا ومآخذ، ليكون تاريخهم كاملًا جهد الإمكان، بحيث يستطيع الذي يدرس تاريخهم أن يتصوَّر أيَّ نوعٍ من البشر كانوا في حياتهم بالإضافة إلى تصوُّرِهم أيَّ نوعٍ من القادة والولاة.
والمصادر غير التاريخيَّة التي تُفيد في كتابة تاريخ القادة تكاد لا تُعدُّ ولا تُحصى، ولكن ليس من السهل كتابة تاريخهم لأنَّه لا تتيسَّر دراسات خاصَّة مستقلَّة لكلِّ قائد، بعكس المفسِّرين، والمحدِّثين، والمؤرِّخين، والفقهاء، والأدباء، والشعراء، والنحاة، واللغويِّين، والصوفيَّة، والأطباء، والفلاسفة، وأصحاب الملل والنحل، ومختلف العلماء العرب والمسلمين في مختلف العلوم؛ فلكلِّ واحدٍ من هؤلاء الأعلام دراسةٌ خاصَّةٌ مستقلة.
أمَّا القادة العرب والمسلمون فينبغي للذين يُحبُّون أن يكتبوا تاريخهم أن يجمعوا شتات ما جاء عن كلِّ واحدٍ منهم من مختلف المصادر التاريخيَّة والأدبيَّة والعلميَّة، ومصادر التفسير والحديث والأنساب والفروسية والمعجمات وغيرها؛ ليبنوا سيرتهم من جديد لأوَّل مرَّةٍ في التاريخ لَبِنَةً لبنة بجهدٍ جهيدٍ، ودأبٍ متواصلٍ، وعملٍ شاقٍّ، وصبرٍ جميل.
وكلُّ مصدرٍ من المصادر يذكر القادة بالنسبة إلى اختصاص ذلك المصدر: مصادر التاريخ تذكر معاركهم وأعمالهم الإدارية ولاةً وقادة. وكتب الحديث تذكر عدد الأحاديث التي رووها، وأسماء الرواة الذين أخذوا عنهم، وأسماء الرواة الذين أخذوا منهم، ومبلغ الثقة بهم. وكتب الأدب تروي محلهم الأدبية، وأقوالهم السائرة، وخطبهم، وأحاديثهم البليغة، وشعرهم، ونثرهم، وما قيل فيهم من الشعر في المدح أو الهجاء. وكتب الأنساب تتحدَّث عن أنسابهم وعن أعقابهم وذريَّتهم وأزواجهم. وكتب الفروسية تروي نتفًا من فروسيَّتهم.
ولا أعرف مصدرًا عربيًّا إسلاميًّا معتمدًا يُمكن الاستغناء عن دراسته لاستكمال كتابة تاريخ القادة؛ فلابُدَّ أن يكون المؤلف خبيرًا بالكتب والمكتبات، مغرمًا بالقراءة والتَّتبُّع، يلتقط كلَّ كلمةٍ أو جملةٍ تُفيده في دراسته وتأريخه.
ولكي يبني قصَّة حياة قائد من القادة عليه أن يدرس عشرات المصادر المعتمدة بل مئات المصادر، حتى يستطيع إبراز سيرته قائدًا وإنسانًا، وكل جهدٍ ووقتٍ ومالٍ يُنفق من أجل تحقيق هذا الهدف الحيوي يهون، والمهمُّ أن نبدأ الطريق الطويل الشاق، وكلُّ بدايةٍ في كلِّ مسيرةٍ طويلةٍ شاقَّةٍ تبدأ بالخطوة الأولى، ثُمَّ تتعاقب الخطوات خطوةً بعد أخرى، حتى يصل إلى المثابة المرجوَّة بالمثابرة والإصرار والاستمرار.
إنَّ قراءة مصدر واحد عن قائدٍ من القادة لا يكفي أبدًا، فيجب قراءة المصادر كافَّة مهما يبلغ تعدادها؛ لأنَّ إخراج سيرة قائدٍ واحدٍ بشكلٍ متكاملٍ أو قريبٍ من الكمال أجدى وأبقى من إخراج سِيَر عدَّة قادة بشكلٍ ناقصٍ أو مشوَّهٍ أو مبتور.
إنصاف القادة
لم تجحد أمَّةٌ من الأمم قادتها العسكريِّين كما جحدت الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة قادتها العسكريين؛ فقد لاقى القادة العرب والمسلمون عقوقًا وجحودًا من أمَّتهم بشكلٍ منقطع النظير بين سائر الأمم الأخرى، وقد عكف المؤلِّفون القدامى من العرب والمسلمين على تأليف كتب الطبقات من كلِّ صنفٍ ونوع، إلَّا القادة العسكريِّين، فلم يكن لهم نصيبٌ -أيُّ نصيبٍ- في كتب الطبقات على الرغم من كثرتها وتعدُّد أصنافها وأنواعها بما لا مزيد عليه.
فهناك كتب طبقات المحدِّثين، وكتب طبقات المفسِّرين، وكتب طبقات الفقهاء في شتَّى المذاهب الإسلاميَّة، وكتب طبقات الأدباء، وكتب طبقات الشعراء، وكتب طبقات النحاة، وكتب طبقات الصوفيَّة، وكتب طبقات الأطباء، وحتى كتب طبقات المغنِّين .. وغيرهم كثير.
أما كتب طبقات القادة العسكريين، فلا ذكر لهم في كتب الطبقات!!! وربما يزعم من يزعم، أن ذكر القادة العسكريين العرب المسلمين قد ورد في المصادر التاريخية وطبقات المحدِّثين وغيرها من المصادر الأخرى ولكن ما ورد عنهم في تلك المصادر نزر قليل من جهة، وموزع على عشرات المصادر من جهة أخرى، وكل مصدر يذكرهم بالنسبة إلى اختصاص ذلك المصدر فحسب.
ولا أعتقد أنَّ كتب مصادر الطبقات التي دوَّنت تاريخ الرجال العرب المسلمين الأعلام من مختلف الصنوف والأنواع في مختلف العلوم والآداب والفنون، أكثر أهميَّة من القادة العسكريِّين عامَّة، وقادة الفتح الإسلامي وقادة استعادة الفتح الإسلامي خاصَّة؛ لأنَّهم فتحوا البلاد وحملوا الإسلام إليها بالفتح، ولم يحملوهم على الإسلام بذلك الفتح، ولأنَّهم نشروا اللغة العربية في البلاد المفتوحة، فلم يمضِ زمنٌ قصيرٌ إلَّا ونبغ من سكَّان البلاد المفتوحة علماء أعلام في العربيَّة يتعلَّمون بها ويُعلِّمون، ويكتبون بها ويُؤلِّفون، ويخطبون بها ويتكلَّمون.
وهذه الأعمال الباهرة التي قدَّمها القادة العرب المسلمون لعقيدتهم ولغتهم وأُمَّتهم ينبغي أن تُذكر لهم بكثيرٍ من العرفان، وتُسجَّل في سيرة كلِّ واحدٍ منهم بالفخر والاعتزاز، في صفحاتٍ مشرقة بالنور من صفحات الرجال الأفذاذ.
أليس من الغريب حقًّا والمخجل -أيضًا- أن تخلو كتب الطبقات العربيَّة الإسلاميَّة القديمة على كثرتها وتنوُّعها بحيث تضيق عن الحصر وتصعب في التصنيف، من كتابٍ واحدٍ عن: قادة الفتح الإسلامي!!!
وجاء الاستعمار القديم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، فوجد الجوَّ مناسبًا لطمس أسماء القادة العرب والمسلمين من مناهج التدريس في المعاهد والجامعات، وإبراز القادة الأجانب في تلك المناهج، فتخرَّج التلاميذ والطلاب في تلك المؤسَّسات التعليميَّة -وهم جيل الاستعمار القديم- يجهلون حتى مجرَّد أسماء قادتهم الذين فتحوا بلادهم وحملوا إليها الإسلام دينًا والعربيَّة لغةً؛ لأنَّهم شغلوا عن قادتهم الغر الميامين بقادة الاستعمار القديم، فأصبحوا يعرفون عن نابليون بونابارت (مثلًا) كلَّ شيءٍ ويجهلون عن خالد بن الوليد كلَّ شيء!!
ولم تقتصر الجهود الاستعماريَّة على طمس أسماء القادة العرب المسلمين وسير حياتهم على المؤسَّسات التعليميَّة المدنية؛ بل شملت المؤسَّسات العسكريَّة العربيَّة والإسلاميَّة أيضًا، بل كانت الجهود الاستعمارية في المؤسَّسات التعليميَّة العسكريَّة أدهى وأمر وأشهد إمعانًا في التخريب ممَّا كانت عليه في المؤسَّسات التعليميَّة المدنيَّة؛ فقد كان يُدرَّس في المؤسَّسات التعليميَّة العسكريَّة العربيَّة الإسلاميَّة في مادة (تاريخ الحرب)، سِيَر قادة الاستعمار الأجنبي الذين قادوا الحملات العسكريَّة لاكتساح البلاد العربيَّة والإسلامية واستعبادها وإذلالها والاستحواذ على خيراتها، فكان يُدرَّس في الكليَّة العسكريَّة العراقيَّة الملكيَّة للطلاب الذين يُصبحون ضبَّاطًا بعد تخرُّجهم في تلك الكليَّات، معارك استعمار العراق في الحملة البريطانيَّة أثناء الحرب العالمية الأولى بأسلوبٍ يُبهر الطلاب العسكريِّين بمزايا القادة البريطانيِّين الأجانب وبعقيدتهم العسكريَّة الأجنبيَّة في القتال!!
والمعنويَّات العالية هي التي تقود العسكري إلى النصر، ولا نصر مع المعنويَّات المنهارة، والضابط العربي المسلم يتخرَّج في كليَّته العسكريَّة محطَّم المعنويَّات مشلول الإرادة، مبهورًا بالعقيدة العسكريَّة التي تحتلُّ بلاده وبالعسكريِّين الذين اغتصبوها، يُؤمن أنَّ الأجنبيَّ متفوِّقٌ عليه عسكريًّا وفكرًا وعقيدةً فلا مجال للِّحاق به أو منافسته، وليس له إلَّا أن يستخذي للمستعمر ويستجدي رحمته وعطفه ويستسلم له، وهنا بيت القصيد.
ومضى الاستعمار القديم إلى غير رجعة، فاستقلَّت الدول العربية الإسلامية بخروج الاستعمار القديم ورحيله عنها، ولكنَّها بقيت تُعاني عقابيل الاستعمار الفكري الذي لا يزال مُعَشْعشًا فيها، وابتُليت بالاستعمار الحديث بعد أن تخلَّصت من الاستعمار القديم؛ إذ خرج القديم من الأبواب ودخل الحديث من النوافذ، وبقي جيل الاستعمار القديم مسيطرًا على التعليم والمؤسَّسات التعليميَّة، ينفث سموم ما لقَّنه المستعمر في عقول التلاميذ والطلاب.
أليس من المذهل حقًّا أن أوجِّه هذا السؤال إلى معارفي من المثقَّفين، ومنهم أساتذةٌ للتاريخ في الجامعة: ما اسم القائد الذي فتح المدينة التي نعيش فيها؟ فلم أسمع جوابًا!! أو سمعت جوابًا بعيدًا عن الصواب!
ذلك هو مبلغ ما وصل إليه العرب والمسلمون من عقوقٍ شنيعٍ لقادتهم، وهذا هو الواقع المرير.
كتابة سير القادة العسكريين
(أ) من الطبيعي أن يُبادر القادرون على كتابة سِيَر القادة العسكريين إلى العمل الجادِّ لإخراج سيرهم في كتب للناس، لعلَّ كلَّ عربيٍّ مسلم يعرف القائد الذي فتح بلده، وهذا أضعف الإيمان، ولعلَّ سيرهم الباهرة تُطهِّر عقول الذين بُهروا بالقادة الأجانب وقلوبهم من أدرانها التي علقت بها بتأثير المناهج الدراسيَّة للمستعمر الحاقد، ولعلَّ شباب العرب والمسلمين يقتدون بسيرهم الغنيَّة بالرجولة والشجاعة والإقدام والتضحية والفداء، ويقتفون آثارهم الفذَّة ليصلوا إلى النتائج نفسها التي حقَّقها أولئك القادة العظام.
ولعلَّ العرب والمسلمين -أيضًا- يُوقنون أنَّ قادتهم أعظم من القادة الأجانب وأكثر كفاية واقتدارًا، وأنَّ ما غرسه المستعمر في نفوسهم من تفوُّق الأجنبي ما هو إلَّا حديث خرافةٍ بعيد عن الواقع والحق، وأنَّ العرب والمسلمين أمَّةٌ لا تقلُّ شأنًا عن سائر الأمم، وبإمكانها أن تأخذ مكانتها المرموقة بين الأمم الأخرى.
وأخيرًا، لعلَّ المدارس والمعاهد والكليَّات المدنيَّة والعسكريَّة تُثْبِتُ في مناهجها دراسة سِيَر قادة العرب والمسلمين، وتمحو من مناهجها سير القادة الأجانب، وبذلك يستبدلون الذي هو خير بالذي هو أدنى، فيتخرَّج التلاميذ والطلَّاب العرب والمسلمون في تلك المدارس والمعاهد والجامعات المدنيَّة والعسكريَّة، وعقولهم وقلوبهم معًا طاهرة من سموم الاستعمار الفكري البغيض.
وأحبُّ أن أضع زبدة تجاربي في كتابة سير قادة الفتح الإسلامي وقادة استعادة الفتح الإسلامي بين أيدي الذين يُحبُّون أن يُشاركوا في العمل بهذا الميدان.
إنَّ الإفاضة في قراءة أكبر عددٍ من المصادر لكتابة سيرة قائدٍ من القادة ضروريٌّ جدًّا، فذلك وحده يُخرج سيرته قريبة من الكمال، أمَّا الاكتفاء بقراءة عدد محدود من المصادر اقتصادًا بالوقت أو توفيرًا للجهد، فيُؤدِّي إلى إخراج سيرته بعيدة عن النضوج.
ودراسة القادة لا ينبغي أن تقتصر على المشاهير منهم دون المغمورين؛ بل يجب أن تشمل على المشهورين والمغمورين أيضًا، وقد اكتشفت أنَّ قسمًا من القادة المغمورين فتحوا بلادًا أوسع من العراق ومصر مساحةً وأكثر منهما سكانًا، ولكنَّهم بقوا مغمورين في صفحات المصادر المعتمدة، وكأنَّهم لم يفتحوا بلدًا، ولم يُجاهدوا في الله حق جهاده!
إنَّ بعث القادة المغمورين أهمُّ بكثيرٍ من كتابة سِيَر القادة المشهورين، ولكنَّ الكتابة عن المغمورين أصعب بكثيرٍ من الكتابة عن المشهورين؛ لأنَّ المغمورين اكتشاف، والمشهورين اقتباس، فلا ينبغي اختيار الطريق الممهَّدة وتجنُّب الطريق الصعبة؛ فهي الطريق الوحيدة التي تُؤدِّي إلى اكتشافٍ جديد.
وللقادة العرب والمسلمين سماتهم ومزاياهم التي تُناسب عصرهم وعقيدتهم وتقاليدهم، فيجب الإبقاء على تلك السمات والمزايا كما هي وكما كانت على أصحابها، دون أن نُبقي أسماءهم كما هي ونمسخ سيرتهم بإضافة سمات ومزايا جديدة إليهم لم يكونوا يعرفونها ولم يسمعوا بها، ولا كانوا يحلمون بها، ولو عادوا إلى الحياة لاشمأزُّوا منها ورفضوها.
لقد عاشوا قبل أربعة عشر قرنًا، والقادة الأجانب الذين عاشوا في القرن الحالي اقتبسوا منهم -إذا فعلوا ذلك حقًّا- أما إذا لم يفعلوا فلا ينبغي أن ندَّعي لقادتنا ما ليس لهم بحق؛ إذ لا يزيد في قدرتهم وقيمتهم هذا الادِّعاء، وإسباغ سمات ومزايا القادة الأجانب عليهم خطأ فاحش، وهو إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على إعجابنا الشديد إلى حدِّ الانبهار بالقادة الأجانب؛ كأثرٍ من آثار الاستعمار الفكري المستحوذ على عقول الذين يقعون في مثل هذا الخطأ الشنيع، كما أنَّ قادتنا أعظم قدرًا ومنزلةً من القادة الأجانب لأنَّهم أكثر فتحًا وأرسخ عقيدةً وأعظم شجاعة، فإذا شبَّهناهم بالقادة الأجانب كما فعل قسمٌ من المؤلِّفين، فقد قلَّلنا من أقدارهم ومنزلتهم وأسأنا إليهم من حيث أردنا الإحسان .. وهذا ما لا يقبله العقل ولا يرتضيه المنطق، ولا يقرُّه الوجدان، ويأباه القادة العرب المسلمون.
(ب) ونعود إلى أسلوب كتابة سِيَر القادة العرب المسلمين: هل نقلد الأسلوب الأجنبي في الإطناب الممل، كالذي اتَّخذه طلاب الدراسات العليا في إعداد رسائلهم، أم نُقلِّد أسلوب (المتون) في الإيجاز المخل، كالذي اتَّخذه كتاب (المتون) التي تحتاج إلى (الشروح) على (المتون)، ثم تكون (التعليقات) على الشروح؟
لقد قلَّد قسمٌ من الذين حاولوا الكتابة عن قائدٍ أو أكثر من قائدٍ من قادة العرب والمسلمين الأسلوب الأجنبي، فأخرجوا للناس كتابًا ضخمًا عن قائدٍ واحد، يُمكن اختصاره في صفحاتٍ معدودات دون مغادرة شاردة أو واردة من المعلومات الواردة في الكتاب إلَّا أحصتها، وما بقي من سائر صفحات الكتاب حشوٌ ولغوٌ وتكرارٌ مبتذل.
وبالإمكان أن أضرب مثلًا على ذلك؛ فقد ورد في أحد المصادر العربيَّة القديمة أنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه هو الذي فتح مصر، ومؤلِّف هذا المصدر أورد هذا الخبر مسندًا إلى رواته الذين لا يُعتمد على روايتهم ولا يُؤخذ بها؛ لأنَّهم ضعفاء لا ثقة بما يقولون.
ومؤلِّف هذا المصدر المذكور أورد هذا الخبر بهذا الشكل من الإسناد الضعيف، ليقول بصورةٍ غير مباشرة: إنَّ الخبر عن خالد لا نصيب له من الصحَّة، ولكنَّه ذكره في مصنَّفه ليدلَّ على الخبر المكذوب؛ لأنَّه أورد أنَّ فاتح مصر هو عمرو بن العاص بإسنادٍ متين، وهذا هو منتهى الدقَّة في الأمانة العلميَّة لتدوين الأخبار.
ولكنَّ المؤلِّف الحديث، ناقش بإطناب: هل فتح خالد مصر أم لم يفتحها؟ واستغرقت مناقشتة أكثر من عشر صفحات من القطع المتوسِّط، فضيَّع وقته الثمين دون مسوِّغ؛ لأنَّه اعتمد الأسلوب الأجنبي في التدوين. وأخشى أن يكون ذلك المؤلِّف يعتبر أهميَّة الكتاب تُقدَّر بوزنه لا بما فيه من فائدة، فضاعف وزن كتابه باللغو من القول.
والأسلوب الذي أراه مناسبًا في كتابة سِيَر القادة العرب المسلمين ليس الأسلوب الأجنبي الذي يعتمد الإطناب، ولا أسلوب تدوين (المتون) الذي يعتمد الإيجاز؛ بل الأسلوب الوسط الذي يكتفي بنقل الحقائق من مصادرها المعتمدة التي تُعين على استنتاج سمات القائد ومزاياه إنسانًا وقائدًا، واستنتاج ما يفيد العرب والمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم.
وهذا الأسلوب الوسط يُدوَّنُ بكلمات عربيَّة أصليَّة، بعيدة عن الكلمات الأجنبيَّة الدخيلة؛ فالعربيَّة الفصحى لغة القرآن الكريم ليست عاجزةً عن التعبير الرائع البليغ المعبِّر المفهوم في مختلف مجالات العلوم والآداب والفنون، بعد أن استطاعت التعبير الواضح الوافي البليغ في كتاب الله، وحملت قرونًا طويلةً في تعبيرها الفصيح شتَّى أنواع المعارف الإسلاميَّة بكفايةٍ واقتدار.
ويبدو لي أنَّ قسمًا من الكتَّاب العرب المسلمين مغرمون غرامًا شديدًا بترصيع ما يكتبون بالكلمات الأجنبية الدخيلة، وهؤلاء دون شكٍّ يُعانون من أدران الاستعمار الفكري البغيض إذا كانوا يُتقنون العربية الفصحى، أمَّا إذا كانوا لا يُتقنونها، فلماذا يُحمِّلون أنفسهم ما لا تطيق بالكتابة والتأليف، والله لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسْعَهَا.
وقد صدرت المعجمات العسكريَّة الموحِّدة وأصبحت متيسرة في المكتبات العامَّة والخاصَّة، وهي تُغطِّي المصطلحات العسكريَّة الأجنبيَّة بمصطلحات عسكريَّة عربيَّة، كما صدرت مجموعات المصطلحات الأدبيَّة والعلميَّة والفنِّيَّة الأجنبيَّة التي وضعت المجامع اللغويَّة والعلميَّة ما يُقابلها من مصطلحات عربيَّة، فبماذا نُعلِّل إصرار قسمٍ من الكتَّاب العرب على استعمال المصطلحات الأجنبيَّة، بعد صدور المصطلحات العربيَّة الأصليَّة!!
أيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير!
(ج) تَرِدُ في المعارك التي خاضها القادة العرب المسلمون أسماء مواقع وأماكن ومدن وجبال ووديان وأنهار وبحيرات وبحار وصحارى، والبلدانيُّون العرب والمسلمون القدامى لم يُقصِّروا قط في شرح تلك المواقع شرحًا مفصَّلًا تارةً ومختصرًا تارةً أخرى، ومن المفيد أن نشرح تلك المواقع الواردة في معارك القادة بما يكفي لتوضيحها للقرَّاء والدَّارسين، وبيانها على الخرائط القديمة -إن وُجِدَت- والحديثة مفيدٌ أيضًا.
إنَّ العرب والمسلمين يتمنُّون على الله أن يُكتب تاريخ قادتهم بشكلٍ يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولن يكون ذلك بتغريبهم أو تشريقهم، فما كانوا يتقبَّلون هذا التشريق أو التغريب، ويرفضون إلَّا أن يبقوا كما كانوا عربًا مسلمين، وعلى الذين يُريدون كتابة تاريخهم أن يضعوا هذا الهدف الحيوي نصب أعينهم، وليس تحقيقه عليهم بعزيز.
___________________
المصدر: اللواء الركن محمود شيت خطاب: العسكرية العربية الإسلامية عقيدة وتاريخًا وقادة وتراثًا ولغة وسلاحًا، الناشر: رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر، سلسلة كتاب الأمَّة (رقم 3)، 1403هـ.
التعليقات
إرسال تعليقك