التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
زخر التاريخ الإسلامي بعد عهد رسول الله والخلافة الراشدة بالكثير من المواقف التكافلية والإغاثية، التي شملت كافَّة مظاهر التعاون والتآخي داخل المجتمع
زخر التاريخ الإسلامي بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة بالكثير من المواقف التكافلية والإغاثية، التي شملت كافَّة مظاهر التعاون والتآخي داخل المجتمع المسلم، وهذا يُؤَكِّد لنا ابتداءً أنَّ أمر التكافل الاجتماعي والإغاثة لم يكن مقتصرًا على صدر الإسلام؛ وإنَّما امتدَّ ليشمل كلَّ فترات التاريخ الإسلامي، ثم هو يُؤَكِّد لنا -أيضًا- معنًى آخر غايةً في الأهميَّة، وهو أنَّ أمر الإغاثة والتكافل بكلِّ صوره أمرٌ عملي، وقابلٌ للتطبيق على أرض الواقع، إلَّا أنَّنا إذا أردنا حصر هذه المواقف وجدنا ذلك أمرًا أقرب إلى الاستحالة منه إلى الإمكان، ومن ثَمَّ آثرنا أن نذكر طرفًا منها، آخذين من كلِّ بستانٍ زهرة، يفوح من شذاها عَبَق حضارتنا، وإنسانيَّة تاريخنا، فكان ما يلي:
التكافل والإغاثة في الدولة الأيوبية (569 – 648هـ)
الدولة الأيوبية أنشأها السلطان صلاح الدين الأيوبي (569 - 589هـ) حيث يُعدُّ السلطان صلاح الدين الأيوبي واحدًا من أشهر زعماء الإسلام البارزين؛ فقد كانت له شخصيَّة نادرة جمعت عدَّة صفات كريمة منها: الحرص على كفالة الفقراء في دولته، وذلك بإقامة الخوانق لهم لإيوائهم؛ لكي يتفرَّغوا لعبادة ربِّهم، وتحصيل العلم، وهو أوَّل من أنشأ الخوانق في مصر[1].
وقد خصَّص صلاح الدين الخانقاه الصلاحيَّة في عام 569هـ لفقراء الصوفيَّة الواردين من البلاد الإسلامية المختلفة، ووقفها عليهم، وتقع في مكان مقابل دار الوزارة، وكانت تُسمَّى بدار سعيد السعداء، وولَّى على الزهَّاد شيخًا سمَّاه بـ "شيخ الشيوخ"، وبنى لهم الحمَّامات، ووضع لهم أنظمة خاصَّة بهدف مساعدتهم في السفر والحضر.
وكان من شدَّة اهتمامه بهذا المرفق أنَّه أوقف عليه الأوقاف الكثيرة، وبنى في بيت المقدس بعد فتحها رباطًا أو خانقاهًا، وأوقف عليه الأوقاف.
كما أنشأت عصمة الدين خاتون -زوجة صلاح الدين- خانقاهًا خارج باب النصر في القاهرة[2]، وقد ذكر ابن جبير: أنَّ الرباطات والخوانق كانت كثيرة منتشرة في دولة صلاح الدين[3].
كما بنى صلاح الدين الخانات في الأماكن المنقطعة البعيدة عن العمران، وفي الطرق الموصلة بين المدن، وذلك لخدمة أبناء السبيل والمسافرين، وقد شاهد ابن جبير الخان الذي بناه السلطان صلاح الدين في الطريق بين حمص ودمشق، وكان يُسمَّى بـ "خان السلطان"، كذلك بنى الأمير بهاء الدين قراقوش خان السبيل[4].
كما اهتمَّ صلاح الدين ببناء المارستانات؛ إذ لم يكن في عهده مدارس خاصَّة لدراسة الطب؛ بل كان هذا النوع من الاختصاص يُدرَّس في المستشفيات، ثم ينساب الطالب بعد المحاضرة بين المرضى ليُعاين الأمراض، ويُعالج المرضى، وفي عام 577هـ فتح صلاح الدين مارستانًا في أحد جوانب القصر الفاطمي، وعيَّن فيه الأطباء من مختلف الاختصاصات وصيادلة وممرِّضين وعمَّالًا وخدمًا، وأوقف عدَّة مرافق في القاهرة والفيوم لتدر عليه ما يتكفَّل بمصاريفه، وقد ملأ مخازنه بالأدوية والعقاقير الطبيَّة، وخصَّص فيه جناحًا للنساء، وجناحًا آخر لمرضى العقول، وكان دائم السؤال عن هذا المارستان[5].
وأمر صلاح الدين بفتح مارستان في الفسطاط على نمط مارستان القاهرة، وحدَّد له مصادر الإيراد والنفقة عليه، وأنشأ في العام نفسه -أيضًا- مارستانًا في الإسكندرية، وعيَّن له الأطباء والموظَّفين، وخصَّص أطباء يُعالجون المرضى الذين يترفَّعون عن الوصول إليه من الغرباء، خاصَّةً في بيوتهم[6].
ومن أشرف هذه المقاصد -أيضًا- أنَّ السلطان عيَّن لأبناء السبيل خبزتين لكلِّ إنسانٍ في كلِّ يومٍ بالغًا ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كلَّ يومٍ إنسانًا أمينًا من قبله، ينتهي في اليوم ألفَا خبزة أو أزيد بحسب القلَّة والكثرة، وهكذا دائمًا، ولهذا كلِّه أوقاف من قبله حاشا ما عينه من زكاة العين لذلك، وأكَّد على المتولِّين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيءٌ أن يرجعوا لصلب ماله[7].
عندما دخل صلاح الدين إلى مصر لم يكن بها شيءٌ من المدارس النظاميَّة التي تُشرف عليها الدولة، وقد استقطب بسخائه العلماء والطلاب من العراق وشمال إفريقيَّة، وأوقف عليها الأوقاف للإنفاق على مدرِّسيها وطلَّابها وخدمها وإصلاحها، ويتولَّى شئون النظر في هذه الأوقاف ناظر يُعيِّنه مُنشئ المدرسة، ويقضي النظام الداخلي المطبَّق في معظم المدارس، أن يتفرَّغ الطالب للعلم والتحصيل لقاء تأمين الغذاء والسكن له، فضلًا عن منحه المال[8].
وبالإضافة إلى المدارس بنى صلاح الدين كثيرًا من الكتاتيب لأبناء الفقراء والأيتام، وعيَّن عليها المحفِّظين يُعلِّمون كتاب الله، وأجرى عليها الجرايات الكافية[9].
وما أُحضر بين يديه يتيمٌ إلا وترحَّم على والديه، وجبر قلبه ومصابه وأعطاه، وإن كان له من أهله كبيرٌ يعتمد عليه سلَّمه إليه، وإلَّا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته، وسلَّمه إلى من يعتني بتربيته ويكفله، هذا بالإضافة إلى ما كان يطلقه من المال في أثمان الخيل المصابة في القتال؛ لأنَّه ما عُقر في سبيل الله فرسٌ أو جُرِح إلَّا وعوَّض مالكه بمثله[10].
[1] طقوش: تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص214، 215.
[2] ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/272.
[3] ابن جبير: رحلة ابن جبير ص256.
[4] طقوش: تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص215.
[5] ابن جبير: رحلة ابن جبير ص26.
[6] السابق نفسه.
[7] السابق نفسه.
[8] طقوش: تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص212.
[9] السابق: ص27.
[10] ابن شداد: النوادر السلطانية ص34.
التعليقات
إرسال تعليقك