التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
معركة النهروان مقال يتناول فيه الدكتور سهيل طقوش انشقاق الخوارج من جيش علي بن أبي طالب، واضطرار علي إلى قتالهم في النهروان، ويرصد نتائج الموقعة وأبرزها
الاستعدادات والتجهيز للمعركة
هدأت رياح الحرب بعد فشل التحكيم، ولم يكن أمام عليٍّ رضي الله عنه سوى العودة إلى القتال وبخاصَّةٍ أنَّ التحكيم لم يسر وفق أمانيه ولا وفق ما يعدُّه الطريق الصحيح، وبما أنَّه انتهى -فوق ذلك- إلى خلافٍ بين الحكمين؛ فإنَّه عدَّ نفسه متحلِّلًا من وثيقة صفين التي تضمَّنت إزالة الحرب نهائيًّا من قلب الأمة، ونزل بالنخيلة[1] حيث اتَّخذها قاعدةً لتجمُّع قوَّاته[2]، لكن اعترضته عدَّة صعاب، فإذا كان قرار السلم قد جاء نتيجة اختراق معاوية رضي الله عنه لجيشه وانحياز قسمٍ كبيرٍ من جيشه إلى التحكيم، فقد وجد نفسه الآن أمام انشقاقٍ آخر تمثَّل بانسحاب بضعة آلافٍ من جيشه متذرِّعين بأنَّ الحكم لله، والواقع أنَّ الخليفة كان يُعاني إحباطًا بسبب خروج هؤلاء، وتعذَّر عليه تعويض النقص الذي تعرَّض له، وبالتالي إعادة تنظيم جيشه على نحوٍ يُؤهِّله لاستئناف الحرب ضدَّ معاوية رضي الله عنه[3].
لذلك حاول استرضاء الخوراج، فطلب منهم العودة إلى الكوفة للمشاركة معه في الحرب ضدَّ معاوية رضي الله عنه، وذكَّرهم بالانحياز بدايةً إلى التحكيم "ألم تعلموا أنِّي نهيتكم عن الحكومة وأخبرتكم أنَّ طلب القوم إيَّاها منكم دهن ومكيدة؟"[4]، وقال لهم بأنَّ الحكمين لم يحكما بمقتضى القرآن، وأنَّه يدين حكمهما، وبالتالي ليس هناك أيُّ سببٍ للخلاف.
لم يرفض الخوراج طلبه بشكلٍ مباشر وإنَّما شرطوا شروطًا لعودتهم هي إلى الرفض أقرب "إنَّك لم تغضب لربِّك وإنَّما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلَّا نابذناك على السواء، إنَّ الله لا يحب الخائنين"[5]. وعندما قرأ عليٌّ رضي الله عنه هذا الرد يئس منهم، ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى الشام فقطع بذلك التحالف معهم بشكلٍ نهائي، وحتى يُعوِّض بعض النقص في صفوف قواته طلب من عبد الله بن عباس استنفار أهل البصرة، لكنَّ البصريين أحجموا عن تلبية النداء على الرغم من أنَّ اثنين من أهمِّ أشرافهم هما الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة -وكلاهما من بني تميم- قد لبَّيا الدعوة ونفر معهما ثلاثة آلاف ومائتا مقاتل[6]، وهي أعدادٌ ضئيلةٌ إذا ما قُورنت بحجم المسجلين في ديوان أهل البصرة الذين بلغ تعدادهم ستِّين ألفًا سوى الأبناء والعبيد والموالي[7]، ممَّا يدلُّ على أنَّ عليًّا قد فقد سلطته على البصرة، على الأقل فيما يختص بالجهاد معه.
أثار إحجام أهل البصرة غضب عليٍّ رضي الله عنه فكتب إلى أهل الكوفة يستنهضهم؛ فالكوفة قاعدته وأهلها شيعته، فوافاه "أربعون ألفًا، وسبعة عشر ألفًا من الأبناء ممَّن أدرك، وثمانية آلافٍ من مواليهم وعبيدهم..."، فحشد جيشًا بلغ تعداده ثمانية وستين ألفًا ومائتي مقاتل، ومع ذلك فإنَّ هناك شكًّا في تجمُّعٍ كبيرٍ كهذا في النخيلة، والمعروف أنَّ عدد الذين خاضوا معركة النهروان بلغ أربعة عشر ألف مقاتلٍ فقط[8].
كانت وجهة عليٍّ رضي الله عنه بلاد الشام، غير أنَّ تحركات الخوارج والأعمال التي قاموا بها في العراق غيَّرت وجهة سيره نحو النهروان؛ ذلك أنَّهم لم يتردَّدوا في استعمال القوَّة ضدَّ كلِّ من اعترض سبيل خروجهم من الكوفة[9]، كما قاتلوا عمَّال الولايات الذين اعترضوا اجتيازهم أراضي ولاياتهم[10].
خلقت هذه الأعمال جوًّا من الفوضى في الكوفة والمناطق المحيطة بها، وأظهرت إصرار الحرورية على تنفيذ ما اعتزموا عليه من الخروج على سلطة الخليفة، ومع ذلك تُؤكِّد روايات المصادر حرصهم على تجنُّب المواجهة ورغبتهم في الالتحاق بأصحابهم المجتمعين في النهروان، معتقدين أنَّه لا ينبغي قتال عليٍّ رضي الله عنه ولا القتال معه، واستثنت هذه الروايات مقتل عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه على أيديهم، التي كانت السبب في اندلاع شرارة الحرب بين عليٍّ رضي الله عنه والخوارج[11]؛ لأنَّ هؤلاء رفضوا تسليم القتلة إلى عليٍّ رضي الله عنه[12].
بلغ عليًّا رضي الله عنه وهو يتهيَّأ للخروج إلى بلاد الشام مقال أتباعه: "... لو سار بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجَّهنا من وجهنا ذلك إلى المحلِّين"[13]، وقد رفض عليٌّ رضي الله عنه في بادئ الأمر هذا الاقتراح واعتقد أنَّ قتال أهل الشام ضرورةٌ ملحَّة.
هكذا فإنَّ الرغبة في قتال الخوراج راجت في صفوف المقاتلين حتى بلغت الخليفة نفسه، على الرغم من أنَّ هؤلاء لم يقوموا بأيِّ عملٍ معادٍ للسلطة سوى إصرارهم على الانفصال والتجمُّع مع أصحابهم في مكانٍ واحد.
يبدو أنَّ العراقيين خشوا مواجهة أهل الشام في معركةٍ سافرةٍ مرَّةً ثانية، فأرادوا تأجيل اللقاء الذي كان عليٌّ رضي الله عنه يعدُّ له؛ إذ إنَّ آثار معركة صفين وأهوالها ومآسيها كانت لا تزال ماثلةً في أذهانهم، لذلك لا يُريدون تكرارها ويسعون إلى تجنُّبها بترويج فكرة البدء بمحاربة الخوارج، ووصفوا ذلك بالضرورة الملحَّة لإقناع عليٍّ رضي الله عنه بقبولها[14]، واضطرَّ عليٌّ رضي الله عنه إلى النزول عند رغبتهم مواسيًا نفسه بأنَّ قتال الخوارج ضرورةٌ شرعية؛ لأنَّهم نكثوا البيعة وخرجوا على الطاعة.
أحداث المعركة
لم يتخذ عليٌّ رضي الله عنه قراره النهائيِّ بقتال الخوارج إلَّا بعد أن استنفد معهم كافَّة وسائل الاستقطاب، وأتاح لهم الفرصة للتراجع وتغيير ما بأنفسهم والتخلِّي عن موقفهم التمرُّديِّ، باستثناء أولئك الذين ارتكبوا أعمالًا جرمية[15]، وفعلًا انسحبت عدَّة مجموعات منهم قبل بداية المعركة، فانسحب ألف ومائتان من أصل أربعة آلاف، وقد عبَّر فروة بن نوفل الأشجعيِّ عن رأي المنسحبين بوضوحٍ حين قال لأصحابه: "والله ما أدري على أيِّ شيءٍ نُقاتل عليًّا رضي الله عنه، لا أرى إلَّا أن أنصرف حتى تنفذ بصيرتي في قتاله أو اتِّباعه، وانصرف في خمسمائة فارسٍ حتى نزل البندنيجين والدَّسْكرة، وخرجت طائفةٌ أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى عليٍّ رضي الله عنه منهم نحوٌّ من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة..."[16].
تكتسب عمليات الانسحاب هذه أهميةٌ كبيرة؛ لأنَّها تُبيِّن أنَّ المجموعات المنسحبة التي تبدو -من خلال روايات المصادر- متماسكة وملتفَّة حول المبادئ التي نادى بها زعماؤها، لم تكن لأفرادها الدرجة نفسها من الاقتناع والالتزام[17]، ولعلَّ في تعبير فروة بن نوفل خير دليلٍ على ذلك.
كانت المعركة التي جرت في "9 صفر 38هـ= 17 يوليو 658م" خاطفة، لم تدم سوى ساعاتٍ بدأها الخوارج بالضغط على الجيش العراقي وبخاصَّةٍ الخيَّالة، وقاتلوا ببسالةٍ وبشكلٍ متواصل وهم يصرخون صرختهم العسكرية التي أضحت مشهورةً في نضالهم المستقبليِّ "الرواح، الرواح إلى الجنَّة"، لكنَّ الفارق العدديِّ أدَّى دورًا كبيرًا في تحديد مسار المعركة الذي سرعان ما تحوَّل لصالح العراقيين، كانت الهزيمة ثقيلة على الخوارج الذين تكبَّدوا خسائر فادحة، ولم ينج من الخوارج سوى أربعمائة شخصٍ سقطوا جرحى، وقد أمر عليٌّ رضي الله عنه بعد انتهاء المعركة بنقلهم إلى الكوفة ومداواتهم، كما أمر عليٌّ رضي الله عنه بتقسيم الدوابِّ والسلاح بين العراقيين، وردِّ الرقيق والإماء إلى أهلهم، وفي المقابل تكبَّد العراقيُّون ألفًا وثلاثمائة قتيل[18].
أحداث ما بعد معركة النهروان
تطور الحركة الخارجية
تُعدُّ معركة النهروان مرحلةً حاسمةً في تطوُّر الحركة الخارجية والصراع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، فقد استغلَّ بعض الخارجين تنقلاتهم -في تلك المرحلة- لنشر الفكر الخارجي واستقطاب أنصارٍ جددٍ لمواجهة عليٍّ رضي الله عنه مرَّةً ثانية، وتزعَّم هذه التحركات هلال بن علفة في ماسبذان، وأبو مريم السعدي في شهر زور؛ الذي نجح في استقطاب أربعمائة كلهم من الموالي ليس فيهم من العرب إلا خمسة، وأبو مريم سادسهم، بذلك دخل الموالي إلى دائرة الصراع لأوَّل مرَّة؛ لأنَّ الحركة الخارجية اقتصرت حتى ذلك الوقت على المسلمين العرب[19].
انتهت سلسلة هذه التحركات مع (بداية عام 39هـ= صيف عام 659م) بنجاح عليٍّ رضي الله عنه في القضاء عليها ذلك بسبب تشتتها، لكنَّها ساهمت في إضعاف قوَّاته وزادت في عدد الناقمين عليه، وعزَّزت في المقابل مواقع معاوية رضي الله عنه السياسية والعسكرية من خلال توسيع دائرة نفوذه خارج بلاد الشام، كما دفعت بعض العناصر الخارجية إلى الإقدام على قتله ممَّا خلق وضعًا جديدًا سيُؤثِّر على الحركة الخارجية بخاصَّةٍ وعلى الأمَّة الإسلامية بعامَّة، وسيُشكِّل خوراج القرن الأوَّل الهجري العدوَّ الرئيس للخلافة الأمويَّة[20].
تخلِّي الكوفيُّون عن عليٍّ
الواضح أنَّ الجبهة العراقية قد اهتزَّت أركانها بعد الدعوة إلى التحكيم وانهارت بعد معركة النهروان، ممَّا شكَّل بداية النهاية لحكم عليٍّ رضي الله عنه؛ فقد انفضَّ عنه معظم أفراد جيشه وانسلُّوا من معسكره في النخيلة التي عاد إليها؛ ذلك بحجة الراحة وشحذ الأسلحة "نفدت نبالنا، وكلَّت سيوفنا، ونضلت أسنَّة رماحنا، وعاد أكثرها قصدًا[21]، فارجع إلى مصرنا، فلنستعدُّ بأحسن عدَّتنا..."[22].
الواقع أنَّ النصر الذي حقَّقه عليٌّ رضي الله عنه في النهروان كان مريرًا في نفوس الكفويين، وفجر التناقضات في صفوف جيشه؛ لأنَّ المعركة كانت بين الكوفيين أنفسهم، فتقاتل رجالٌ من قبيلةٍ واحدة، وعشيرةٍ واحدة، وأسرةٍ واحدة، وقتل الكوفيون إخوانهم وأبناءهم وأعمامهم وأهل عشائرهم، ودفن المنتصرون موتاهم بكلِّ ورع، وقد ذكرنا بأنَّ الجرحى أُرسلوا إلى قبائلهم لكي يُعالَجوا بأمرٍ من عليٍّ رضي الله عنه، من هنا جاء ردُّ الفعل السلبيِّ على مواصلة القتال.
هكذا تخلَّى الكوفيُّون عن عليٍّ رضي الله عنه في أحرج لحظات المواجهة مع معاوية رضي الله عنه، فتركوه بكلِّ سهولة وهم منهكون من التعب الداخلي، ومن تأنيب الضمير، ومن الاستحياء، ولم يتذمَّروا منه؛ لأنَّهم أدركوا أنَّه مثلهم تمامًا، تجاوزته الأحداث[23].
أثارت هذه التطورات غضب عليٍّ رضي الله عنه، فحنق على أهل الكوفة لخذلانهم له، وحاول استنهاضهم وحثَّهم على نصرته، كما أرسل عليٌّ رضي الله عنه الوفود إلى أطراف بلاد الشام وأذربيجان والسواد لحشد المقاتلين، لكنَّ جهوده لم تُثمر فأدرك عندئذٍ واقعه المرير، ممَّا دفعه إلى تأجيل قراره بمهاجمة أهل الشام واعتكف في عاصمته، وطوى مشاريع القتال بانتظار ظروفٍ أفضل.
قابل هذا التطور السلبي في مجرى الأحداث وفي المستوى العسكري على الجبهة العراقية التي عجزت حينذاك عن تعويض النقص في العدد وفي الاندفاع، تحوُّلٌ إيجابيٌّ في التخطيط العسكريِّ على الجبهة الشامية؛ حيث تحوَّل معاوية رضي الله عنه من الدفاع إلى الهجوم، وبهذه الحركة كانت النهاية الفعليَّة للصِّراع الواسع على المستوى العسكري بين العراق والشام؛ حيث لم يملك عليٌّ رضي الله عنه أكثر من مواجهة الغارات التي أخذت تستهدف مواقعه من جانب القوَّات الشاميَّة[24].
الواقع أنَّ معاوية رضي الله عنه اتَّبع خطَّةً تكتيكيةً تهدف إلى عزل عليٍّ رضي الله عنه في العراق، وإحكام الحصار عليه، ثُمَّ إثارة جبهته الداخلية حتى القضاء عليه، فبعد السيطرة على مصر التي لم تكن سوى توسُّع طبيعيٍّ في مجاله وجَّه حملتين إلى الحجاز: الأولى بقيادة عبد الله بن مسعدة الفزاري فشلت في دخوله؛ فقد انهزم عبد الله أمام المسيب بن نجبة الفزاري[25]، والثانية بقيادة بُسر بن أرطاة وقد تمكَّن من السيطرة على الحجاز[26]، الأمر الذي كان له تأثيرٌ سلبيٌّ بالغٌ على أوضاع عليٍّ رضي الله عنه؛ فقد أضحت مكَّة والمدينة تحت سيطرة خصمه ممَّا عزَّز موقعه المعنوي؛ حيث أضحى بإمكانه التلقُّب بالخلافة دون حرج، وهكذا انهارت عمليًّا الخلافة الراشديَّة[27]، كما انتزع ابن أرطاة اليمن من نفوذ عليٍّ رضي الله عنه وضمَّه إلى نفوذ معاوية رضي الله عنه.
فيما يتعلق بهجمات معاوية رضي الله عنه على الأراضي العراقية فيُمكن تصنيفها في مجال الضغط النفسي؛ فمن واقع العلاقات المتوتِّرة القائمة بين عليٍّ رضي الله عنه والكوفيين حاول معاوية رضي الله عنه إثارة أهل البصرة لاستقطابهم، والمعروف أنَّ علاقة البصريين بعليٍّ رضي الله عنه لم تكن على مستوى علاقته بالكوفيين بعد الجرح الذي تسبَّبت به وقعة الجمل، والواقع أنَّ معاوية رضي الله عنه كان يُراهن على تفكُّك العراق من خلال هذه الثغرة وإضعاف قوَّة عليٍّ رضي الله عنه العسكرية؛ فقد بعث عبد الله بن عمرو الحضرمي إلى البصرة لإقناع أهلها بالانضمام إليه[28]، كما أنَّ الحملات العسكرية التي أرسلها إلى عين التمر وهيت والأنبار والمدائن تصبُّ في هذا الاتجاه[29].
كان من المتوقع أن يتمخَّض عن العلاقة بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما التي بلغت الذروة في التوتُّر حلٌّ معيَّن مؤقَّت أو نهائي، وتستحضرنا هنا فكرة الاتفاق على التقسيم التي أوردتها روايات المصادر، التي عرضها معاوية رضي الله عنه وقبلها عليٌّ رضي الله عنه، وتقضي بأن يكون العراق تحت إمرة هذا الأخير، ويحتفظ معاوية رضي الله عنه ببلاد الشام على أن تتوقَّف رحى الحرب[30].
الراجح أنَّ هذه القسمة تتعارض مع الأفكار السائدة آنذاك، وتوجُّهات الرجلين، بالإضافة إلى وحدة الأمة الإسلامية، لذا كان لا بُدَّ من تجدُّد المواجهة الشاملة.
تشدَّدت المواقف في ظلِّ البحث عن حلٍّ؛ فحين رأى معاوية رضي الله عنه أنَّ جهوده لنسف كيان عليٍّ رضي الله عنه لم تُثمر وأنَّه ما زال صامدًا في العراق على الأقل، ويبدو أنه كان شديد الحرص على عدم القيام بهجومٍ عام، أخذ يتهيَّأ لإعلان نفسه خليفةً في بيت المقدس وبايعه رجاله، وقد عُدَّ ذلك تحديًّا سافرًا لعليٍّ رضي الله عنه الذي ردَّ بتعبئةٍ عامَّةٍ ضدَّ ما رآه محاولةً لاغتصاب السلطة، وضربةً موجَّهةً إلى شرعيته، لكنَّه واجه عدَّة صعاب؛ فالكوفيُّون فقدوا القدرة على التماشي مع عليٍّ رضي الله عنه والدفاع عن قضيَّته، كما فشل زعماء القبائل في تجييش أتباعهم، وفقد القرَّاء دورهم بعد النهروان، وزال الأشعث بن قيس ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة؛ لذلك اختار عليٌّ رضي الله عنه جيلًا جديدًا ربطه بشخصه وسلطانه[31]، مثل: مالك بن كعب الهمذاني، ومعقل بن قيس الرياحي التميمي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وعبد الرحمن بن شريح الهمذاني، وحجر بن عدي الكندي، وسليمان بن صرد الخزاعي، كما اعتمد على أفراد أسرته، وبخاصَّةٍ الفرع العباسي، فولَّاهم المناصب الإدارية، مثل: عبد الله بن عباس والي البصرة، وأخيه عبيد الله والي اليمن، وأخيه الآخر قثم في مكَّة، وسهل بن حنيف من الأنصار والي المدينة السابق، لكنَّ هذا الالتفاف تعرَّض هو الاخر إلى الانحلال؛ ففي عام (40هـ/ 660م) غادر عبد الله بن عباس رضي الله عنه مركزه في البصرة والتحق بمعاوية رضي الله عنه[32] مثيرًا انفعال القبائل واضطرابها، وفرَّ عبيد الله بن عباس من أمام بُسْر بن أرطاة، في حين كان أهل المدينة يُغادرون إلى معاوية رضي الله عنه.
اعتمادًا على المقاتلين الجدد قام عليٌّ رضي الله عنه بتعبئةٍ عامَّةٍ في العراق بعامَّة وفي الكوفة بخاصَّة؛ بهدف شنِّ هجومٍ واسعٍ وشامل ضدَّ معاوية رضي الله عنه وأهل الشام، ووُضعت الخطوط العريضة لهذا المشروع الهجومي؛ أي إنشاء قوَّةٍ ضاربةٍ تقودها نخبةٌ محاربةٌ مخلصة، فيما عُرِف بشرطة الخميس[33]، لكنَّ المشروع توقَّف ولم يُنفَّذ بسبب مقتل عليٍّ رضي الله عنه.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] النخيلة: موضع قرب الكوفة. الحموي: 5/278.
[2] الطبري: 5/77.
[3] بيضون: ص93.
[4] الطبري: 5/84.
[5] المصدر نفسه: ص78.
[6] الطبري: 5/78.
[7] ابن قتيبة: 1/117.
[8] البلاذري: 3/146، والطبري: 5/79، 80.
[9] الطبري: المصدر نفسه: ص75، 76.
[10] المصدر نفسه: ص76.
[11] البلاذري: 3/144، والبكاي: ص40، 41، 44.
[12] المصدران أنفسهما.
[13] الطبري: 5/80.
[14] البكاي: ص42.
[15] الطبري: 5/86.
[16] المصدر نفسه.
[17] البكاي: ص45.
[18] البلاذري: 3/149، والطبري: 5/88، وابن مزاحم: ص559.
[19] البلاذري: 3/241، 247، 248.
[20] البكاي: ص51-53.
[21] قصدًا: أي قطعًا منكسرة.
[22] الطبري: 5/89.
[23] جعيط: ص233، 234.
[24] بيضون: ص94-96.
[25] الطبري: 5/134، 135.
[26] المصدر نفسه: ص139، 140.
[27] بيضون: ص94، 95.
[28] الطبري: 5/110.
[29] المصدر نفسه: ص133، 134.
[30] المصدر نفسه: ص140.
[31] جعيط: ص293.
[32] الطبري: 5/141.
[33] المصدر نفسه: ص158.
التعليقات
إرسال تعليقك