ملخص المقال
الخطوات القادمة واضحة ومعلنة؛ تقسيم المسجد الأقصى واقتطاع ساحاته الجنوبية الغربية لتكون خاصة بعبادة الصهاينة، في تكرار لتجربة سابقة
مرة ثانية وثالثة نوقد في لجة العتمة شمعة، ونفتح في جدار القهر نافذة، نصطحب الأمل المتشبث باليقين، والثقة المبنية على صدق التوكل على الله، لكننا في هذه المرة نبدأ بشكر أعدائنا الصهاينة المحتلين لبيت المقدس على وجه الخصوص! نشكرهم لأنهم بما يسيرون فيه من الطغيان والعدوان يكشفون لنا الحقائق الغائبة، ويحيون الضمائر الميتة، وينبهون العقول الخاملة، ويحركون في الأمة معاني الإيمان والقوة المعنوية المطلوبة، ويكشفون لنا مواطن الخلل، ويُعَرُّون لنا الخونة من الأدعياء والمنافقين من المندسين والدخلاء.
تأملوا معي هذه الصورة المؤلمة المحزنة..
شخص يقال عنه إنه فلسطيني، وإنه وزير في سلطة (وطنية فلسطينية) يقول معترفًا: إن من يمنع الناس من حماية الأقصى هي السلطة وأجهزتها!!
وآخر يقول: إن الأحداث إنما تقع في الأقصى، فمن أراد الاحتجاج عليها فليذهب إلى هناك، وأما هنا -يعني في الضفة الغربية- فلا مكان للاحتجاج!!
فهل دار في خلد الصهاينة يومًا أن يرتكبوا كل هذه الجرائم ويجدوا -في الوقت نفسه- ظهورهم محميَّة من بعض أبناء الأرض؟!
وإخوان حسبتهمُ دروعًا *** فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهمُ سهامًا صائباتٍ *** فكانوها ولكن في فؤادي
نشكر الصهاينة على إيقاظنا من غفلتنا، وتنبيهنا على خطورة الوضع في قدسنا، فإن الخطوات القادمة واضحة ومعلنة؛ تقسيم المسجد الأقصى واقتطاع ساحاته الجنوبية الغربية لتكون خاصة بعبادة الصهاينة، في تكرار لتجربة سابقة، مرت على الأمة وهي صامته يوم قسم مسجد الخليل -بالطريقة نفسها- قبل أكثر من ستة عشر عامًا.
وكلكم سمع عن (كنيس الخراب) الذي رفعوا بناءه حتى غطى على قبة الصخرة وحجبها عن الأنظار، ورسموا في قبته مسجد الخليل ومسجد بلال الذين ضموهما للتراث اليهودي قبل أيام!!
وهذه الأرض التي بني عليها هذا الكنيس هي لأسرة فلسطينية معروفة تملكها منذ عام 1880م، ولديها بذلك وثائق عثمانية وأردنية، وقد صودر بعضها عام ثمانية وستين وتسعمائة وألف، واعترضوا ونافحوا، ومنذ ذلك التاريخ وهم يتصلون بالزعماء ويراسلونهم دون جدوى، وفي عام 2004م رفعوا دعوى قضائية عندما شعروا ببدايات الترميم ووكلوا محامين، وكان مما أعاق القضية نقص الإمكانات المادية.
وربما كان الأمر يحتاج أقل من قيمة ما يدفع لشراء لاعب كرة قدم هنا وهناك، بل ربما كان ما يصرف على هؤلاء اللاعبين وحده -بدون ما يصرف على الجيوش- كافيًا لتحرير فلسطين وإخراج الغاصبين بالكلية.
أما شأن السكان المقدسيين فترحيلٌ عن بيوتهم المتوارثة، وهدمٌ للمنازل، وسحبٌ للهويات، وقد سحب في عام واحد ما يعدل في جملته ما سُحب خلال أربعين عامًا.
أفليس من حقنا أن نشكر الأعداء الذين يدفعوننا لنعيد حساباتنا، ونرص صفوفنا، ونصحح وجهتنا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، وما لم نكن صفًّا واحدًا وبنيانًا مرصوصًا، فلن نستطيع مواجهة أعدائنا.
وقفات مع آية الإسراء
ولأرض الإسراء في القرآن مكانة وأي مكانة، سأقف مع آية منها وقفات يسيرة، وإن كانت تستحق نظراتٍ أعمق، ووقفات أطول؛ يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. وأغلبنا يفهم المعنى العام، لكن هذه وقفات تأمل وتدبر تربط الآيات العظيمة بالواقع الذي نعيشه اليوم في صورته الإيجابية:
1- {سبحان} كلمة تنزيه وتعظيم لله إما لنفي ما لا يليق بعظمته، أو للإشارة إلى عظمة قدرته وفعل ما لا يقدر عليه أحدٌ سواه، ومن ذلك ما كان في إسرائه برسوله وعروجه به إلى السموات العُلا.
ونقول استعظامًا لقدرة الله: (سبحان الله) كيف ثبَّت أولئك المقدسيين المؤمنين المرابطين، وكيف لم تتغير عقولهم كما تغيرت عقولنا ونحن بعيدون، وكيف لم ينشغلوا بالترهات والتفاهات مثل كثير منا، بل كيف يتحدثون باللسان العبري، وبه يعلنون كلمة الحق، ونساؤهم وأطفالهم -فضلاً عن رجالهم- يقفون أمام الجنود المدججين بالسلاح، في ظل كل ظروف المحنة العصيبة، بدون خوف ولا تلعثم ولا تلكؤ!!
المسلمين والدفاع عن الأراضي المقدسةفما أعظم قدرة الله في زرع الإيمان واليقين في قلوب المؤمنين! كما كان في عهد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وفي عهد الصحابة والتابعين، وعبر تاريخنا الممتد كله من بدر وأحد، إلى عين جالوت وحطين، إلى تحرير الجزائر وغيرها من بلاد المسلمين، إلى أهل فلسطين المعاصرين!
2- أسري بنبينا إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء، ومع كون المعراج أعظم فإنه لم يذكر في القرآن، وذكر فيه الإسراء؛ لأننا نحن في الأرض ولسنا في السماء، وفي ذلك إشارة تخصنا، فإننا نستطيع أن نحقق المعجزة الإيمانية في الأرض، وليس في السماء، وأننا مطالبون بأن نحرر الأرض ونطهرها لله ، ونجعلها على نهج الإسلام وهدي رسوله .
3- تأملوا هذا الاختيار الرباني لبيت المقدس، متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السموات العُلا، فقد تليت فيه الكتب الأربعة المنزلة، وهو قبلة الصلاة في الملتين، ثم في صدر الإسلام بعد الهجرتين، وهو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وفيه صلى النبي بإخوانه الأنبياء وهو إمامهم.
4- في إمامته بالأنبياء إشارة إلينا معشر المسلمين، فنحن أئمة الأمم في الدفاع عن المقدسات، وفي نصرة المظلوم، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وقال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
5- قوله تعالى: {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} نص صريح في بركة هذه المنطقة، وهذه البركة نرى بعض مظاهرها المادية اليوم في صور متعددة، نذكر منها:
- تشبث أغلب سكانها بالإيمان والجهاد.
- ازديادهم السكاني أكثر من جميع بلاد الدنيا.
- خصوبة الأراضي الزراعية.
- اتساعها لسكن الملايين مع ضيق المساحات.
إلى غير ذلك.
ومن أبرز مظاهر هذه البركة المشاهدة أن رجلاً مثل الشيخ رائد صلاح يقف -هو وأعوانه- أمام اليهود بقوتهم المادية الهائلة، ويخاطبهم بلسانهم بكل جرأة، وبكل إيمان بحقائق الإيمان والأرض والتاريخ بما لم يقل عشرُ معشاره أي سياسي، أو قائد في محافلنا العربية والإسلامية الرسمية!!
أسأل الله أن يردنا إلى دينه ردًّا جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
د. علي بن عمر بادحدح
المصدر: موقع إسلاميات.
التعليقات
إرسال تعليقك