التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
اضطراب الأوضاع في الموصل والرها وذلك بخروج جكرمش عن طاعة السلطان السلجوقي، ووفاة قلج أرسلان، وغير ذلك من الأحداث
خروج جكرمش عن طاعة السلطان السلجوقي
استكمالاً لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا، فالموصل بالذات -كما ذكرنا- لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير، وعلم واسع، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى اختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع.
كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد؛ مما جعله يشكك في ولائه، وراسله في ذلك، فتعلَّل جكرمش، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغلاًّ حب الناس له، فاضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لاسترداد الموصل لصالح السلطان، ولكن -للأسف- هذا العسكري كان سيئ الخلق، وحشيًّا في تعاملاته، مكروهًا من العامة، وكان اسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك.
فسار جاولي إلى الموصل، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو، وأقاموا عليهم زنكي ابن زعيمهم المحبوب جكرمش، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم[1].
وفاة قلج أرسلان
رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لامتلاك الموصل، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب، فدخل المدينة وملكها، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان، ثم اضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور، ولم يستطع النجاة فغرق، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام[2].
وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه، وتقوية سلطته، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته!! قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة، وجاء ليزيدها اتساعًا، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين!
استيلاء جاولي على الموصل
وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها، وعامل أهلها بمنتهى الغلظة، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان، ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م. وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فاضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين، وهو من التركمان الأخيار.
وحاصر مودود مدينة الموصل، وقاومه جاولي وجنوده، وحذر جاولي العامة من الاقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له، وشدَّد عليهم في ذلك، لكن الشعب لم تَمُتْ فيه النخوة، فاجتمعت طائفة من الشعب، وتعاهدوا على فتح الأبواب، واتفقوا على استغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات، وقد أخذه -لا شك- لأنه يعلم أن قيمته كبيرة، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه[3].
في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي -وهو أمير تل باشر، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج- قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار[4]، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل.
لقد صار الموقف في غاية التعقيد!!
إطلاق سراح بلدوين دي بروج
مودود الآن يحكم الموصل، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو[5].
في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية! أي أنها معاهدة دفاع مشترك[6].
وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد!
حرب عجيبة
في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي، والمال الوفير الذي توفر في يده، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش[7].
وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة، قامت فيها أحلاف أعجب! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي!!
أيُّ غيابٍ للفهم هذا! وأي ضياع للعقل!
ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها، ويبقى تانكرد في أنطاكية، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين[8]!
ثورة أرمن الرها
في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه[9]، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة، ودخل المدينة حاكمًا، وعلم بهذا الاجتماع، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة، وعزل كل الكبار من الأرمن، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة[10]، واضطراب عام في الأوضاع، وهذا -لا شك- سيكون له أثر في عدم استقرار تلك الإمارة.
وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية، بل إنه أفلح في استرداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة، أي في سنة (502هـ) 1108م[11]، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها.
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/102، 103؛ ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص198.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/106، 107.
التعليقات
إرسال تعليقك