التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
وصلت النجدة الصليبية الثانية إلى القسطنطينية واتجهت منها إلى هرقلة، لتدور بينها وبين المسلمين معركة هرقلة الثانية، فماذا حدث؟
معركة هرقلة الثانية
تكلمنا عن المجموعة الأولى من النجدة الصليبية، وما دار بينهم وبين المسلمين في مدينة مرسيفان، حيث هُزموا هزيمة شنيعة، لحقتها بعد ذلك بقليل هزيمة أخرى أطلق عليها موقعة هرقلة الأولى.
أما قصة معركة هرقلة الثانية فتبدأ بوصول المجموعة الثانية من هذه النجدة الصليبية التعيسة، حيث وصل إلى القسطنطينية ستون ألف مقاتل من فرنسا وألمانيا، على رأسهم وليم التاسع دوق أكوتيين وولف الرابع دوق بافاريا[1]، واتجهت هذه المجموعة مباشرة إلى هرقلة عبر قونية، ومارس معها المسلمون نفس الأسلوب الذي مارسوه مع الحملة الأولى، حيث استدرجوهم إلى هرقلة بعد إتلاف المزروعات وطَمْر الآبار، فوصل الجيش الصليبي إلى هرقلة في أوائل سبتمبر من سنة 1101م في حالة مأساوية من الجوع والعطش والإنهاك[2]، وما لبثت المعركة أن بدأت لتصل في خلال ساعات إلى نفس النتيجة حيث أُبيد الجيش الصليبي بكامله، ولم ينجُ إلا الأمراء الذي هربوا إلى أنطاكية[3]!!
ولعله من الملاحظ في المعارك الثلاثة أن أمراء الجيش الصليبي كانوا يفتحون لأنفسهم طريقًا للهرب تاركين الجموع المسكينة لمصيرهم المشئوم!
وهكذا دائمًا طبيعة الجيوش التي تفتقر إلى قضية، ولا يحرك القائد فيها إلا شهوته للتملُّك ورغبته في التوسع!
وقفة للتدبر
لقد كانت ثلاث معارك هائلة في أقل من شهرين فَقَد فيها الصليبيون قرابة ربع مليون مقاتل، إضافةً إلى الغنائم والسبي، ولا شك أن حدثًا كبيرًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى، ولعله من المناسب أن نقف وقفة لنتدبر في نتائج هذه المعارك المهمة، وأثرها على سير الأحداث:
أولاً: ارتفعت معنويات المسلمين في كل مكان، ليس في آسيا الصغرى فقط ولكن في كل العالم الإسلامي، فالمسلمون كانوا يفتقرون إلى نصر يعيد لهم ثقتهم بأنفسهم، ويُهوِّن عندهم قوة الصليبيين، وهذه المعنويات المرتفعة -وإن لم يكن لها مردود سريع- فقد رسَّختْ في الأذهان فشل الادِّعاء القائل بأن الصليبيين قوة لا تقهر، وهذه خطوة مهمة في بداية التغيير.
ثانيًا: من المفترض أن المسلمين فهموا بعد هذه المعارك الثلاث بعض أسباب النصر، ولعل من أبرز هذه الأسباب وضوحًا الجهاد والوحدة.
فالحقوق لا تعود إلى أصحابها عن طريق إقناع المعتدين بالعدول عن اعتدائهم، ولا عن طريق طاولة مفاوضات، ولا عن طريق وساطة غربية ولا شرقية، إنما تعود الحقوق بالدفاع الجريء عنها، وبالصمود الطويل، وبالصبر الجميل، وبالإعداد والتجهيز، وبذل الوسع والطاقة؛ وهو ما وَضَح لنا جميعًا في خطوات سير المعارك الثلاث.
كما أن الوَحْدة بين قلج أرسلان وكمشتكين ضاعفت القوة، وسددت الرمية، وأزعجت الأعداء، وأرهبت صدورهم؛ مما قاد إلى النصر بشكل طبيعي مفهوم.
ثالثًا: للأسف الشديد، وللمرة الثانية في حروب السلاجقة والدانشمنديين، لم نر التوجه الإسلامي واضحًا في الحرب التي خاضوها، ولم تنقل المصادر إلينا اشتياقًا إلى الشهادة، أو رغبة في دخول الجنة، إنما أخذت المعارك الطابع القومي والوطني، وطابع الحفاظ على الأراضي والديار والأملاك، وهذا وإن كان من الممكن أن يحقق نصرًا كما رأينا، إلا أن هذا النصر يكون مرحليًّا غير ممتد؛ لأن الله U لا يتم نصره إلا لمن قاتل في سبيله، ووحَّد وجهته كلها لله I. ومما يؤكد قومية التوجه عند الأتراك في هذه المعارك أنهم لم يسعوا إلى استغلال هذا النصر والتفوق في تحرير المدن الإسلامية المحتلة، مع قربها الشديد من أرضهم، وخاصةً أنطاكية والرها.
رابعًا: مع حلاوة هذا النصر وبريقه فإنَّ قادة المسلمين في الشام كانت على أعينهم غشاوة سميكة جدًّا، فلم يفهموا هذا النصر، ولم يعلموا أسبابه، بل لم يفكروا في استغلال أزمة الصليبيين بفقدان هذا العدد الهائل من الجنود، ومن ثَمَّ لم يسعوا إلى تحرير أوطانهم وديارهم.
خامسًا: تفرغ الأتراك في آسيا الصغرى بعد هذه المعارك إلى بسط سيطرتهم على المدن هناك، فسيطر قلج أرسلان على وسط آسيا الصغرى، واتخذ قونية عاصمة له[4]، بينما ركَّز كمشتكين بن الدانشمند جهوده في الشرق، وأسقط ملطية تحت سيطرته[5].
سادسًا: أغلقت هذه المعارك الطريق البري من القسطنطينية إلى أرض الشام أمام القوات الصليبية، وظل هذا الطريق مغلقًا قرابة قرن كامل من الزمان حتى زمان الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي[6]؛ مما يشير إلى مدى الرهبة التي تُلقى في قلوب أعداء الأمة إذا رُفعت راية الجهاد والمقاومة.
سابعًا: أدى انغلاق الطريق البري لأرض الشام أن نشطت جدًّا حركة السفن في البحر الأبيض المتوسط للوصول بالإمدادات والمؤن والجيوش إلى الموانئ الشامية والقسطنطينية، ولما كانت معظم هذه السفن مملوكة للجمهوريات الإيطالية فإنَّ دور هذه الجمهوريات أصبح مؤثرًا جدًّا في أحداث الحروب الصليبية، ولعشرات السنوات المقبلة[7].
ثامنًا: أدت هذه الانتصارات الإسلامية إلى قلق الصليبيين في الشام، وهذا أدى بدوره إلى توقف حركاتهم التوسعية، وقناعتهم بالاكتفاء بالحفاظ على ما بأيديهم، خاصةً أن هزيمة الصليبيين كان لها وقع سيِّئ جدًّا على الغرب الأوربي مما عوَّق جهود الكنيسة في جمع المقاتلين.
تاسعًا: أدت هذه الانتصارات إلى اقتناع الدولة البيزنطية أن قوتها أضعف من أن تخوض قتالاً مباشرًا مع الأتراك في داخل آسيا الصغرى، ومن ثَمَّ لم تحاول أن تدخل جيوشها إلى هذه المناطق إلا بعد وفاة قلج أرسلان بعد ذلك بست سنوات.
عاشرًا: نتيجة سلبية خطيرة لهذا النصر، وهي أن البيتين التركيين الكبيرين: البيت السلجوقي، والبيت الدانشمندي دخلا في صراع محتدم بعد هذا الانتصار، فقد تفرَّغ كل منهما للآخر، ولم يفهما قيمة الوحدة التي أنعم الله بها عليهما في وقت من الأوقات، ومن ثَمَّ نظر كل طرف إلى مصالحه الخاصة، وإلى أطماعه التوسعية؛ ولما كانت مساحة آسيا الصغرى محدودة، فكان لا بد من التوسع على حساب الطرف الآخر! كما أن وفرة الغنائم وكثرة الأموال كانت من العوامل التي أغرت الطائفتين بنسيان الأصول الإسلامية، والتفرُّغ لجمع الدنيا[8]!!
لكن على العموم فإن هذه المعارك التي حدثت أدت إلى خروج آسيا الصغرى تقريبًا من موازنات الحروب الصليبية، حيث أخرجها الصليبيون من حساباتهم لفترة طويلة، كما أخرج سكانها المسلمون بقيَّة القضايا الإسلامية -وعلى رأسها احتلال الشام وفلسطين- من حساباتهم، وصارت قضية احتلال القدس وغيرها من المدن الإسلامية وكأنها من قضايا الشأن الداخلي التي تخص الفلسطينيين والشاميين، ولا دخل لبقية المسلمين فيها، وهذا -لا شك- قصور كبير في الفَهْم، وبُعد هائل عن حقيقة الشرع وطبيعة الدين!
الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين
قبل أن تصل أخبار الهزيمة الصليبية الفادحة إلى بيت المقدس كان بلدوين الأول يرتب أمور مملكته الجديدة، وبينما هو منهمك في هذا الترتيب إذ بالجيوش العبيدية (الفاطمية) تظهر في الصورة!
لقد رغبت الدولة العبيدية -كما شرحنا قبل ذلك- في التفاهم مع الصليبيين لتقسيم البلاد معهم، فتكون الشام للصليبيين وتكون فلسطين للدولة العبيدية، غير أن هذا لم يعجب الصليبيون، واستمروا كما رأينا في احتلال الأراضي حتى أخذوا فلسطين بكاملها، وأسقطوا بيت المقدس في قبضتهم في (492هـ) يوليو 1099م.
ولا شك أن هذا لم يأتِ موافقًا لأطماع ورغبات الدولة العبيدية، ولم يكن هذا بالطبع لأي نخوة إسلامية، ولا لتقديس مدينة القدس ومسجدها الأقصى، إنما كان لرغبات التوسع والتملك والسيطرة، ولتأمين الحدود الشرقية المتاخمة مباشرة لفلسطين. وبعد ما يقرب من سنتين، وتحديدًا في (494هـ) مارس 1101م فكر العبيديون في استرداد بيت المقدس وقتال بلدوين الأول، وجاءوا بجيش كبير يقوده سعد الدولة القواسي الذي كان حاكمًا لبيروت من قبلُ[9]، وعسكر هذا الجيش في عسقلان، وهي -كما نعلم- ما زالت تحت السيطرة العبيدية، وبدأ الجيش في الاستعداد لخوض معركة مهمة مع الصليبيين.
ولكن من الواضح أن خطوات الجيش العبيدي كانت متثاقلة جدًّا، فقد أخذوا أكثر من ستة أشهر في الاستعداد، وأخيرًا خرجوا في (494هـ) أوائل سبتمبر سنة 1101م لقتال الصليبيين، مضيعين بذلك فرصة الصيف الحار الذي لا يألفه الأوربيون، إضافةً إلى إعطاء الصليبيين فرصة التجهز والاستعداد للمعركة المقبلة[10].
وفي منطقة الرملة، وفي يوم 7 من سبتمبر سنة 1101م، حدث الصدام الذي يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الأولى بين الجيش العبيدي في عدد كبير، والجيش الصليبي بقيادة بلدوين الأول في أعداد قليلة لكن حسنة التنظيم، ومع أن أعداد العبيديين كانت تفوق كثيرًا أعداد الصليبيين فإنهم هُزموا سريعًا، وسقط قائدهم سعد الدولة القواسي صريعًا في أرض المعركة[11]، وقُتل منهم عدد كبير، وفر الباقون إلى عسقلان الحصينة، وغنم الصليبيون كل ما كان مع الجيش العبيدي من سلاح ومؤن وآلات[12].
لقد كانت ضربة موجعة للدولة العبيدية في مصر!
واهتز الوزير الأفضل بن بدر الجمالي المسيطر على الأمور في مصر، وقرَّر أن يرسل حملة أخرى لرد الاعتبار، لكن تجهيز هذه الحملة أخذ أكثر من ثمانية أشهر، جعلت الأمور تستقر إلى حد كبير في منطقة بيت المقدس!
وهكذا وصلت أنباء الهزيمة القاسية للجيوش الصليبية في آسيا الصغرى مع أنباء هزيمة الدولة العبيدية في الرملة، مما أعاد الثقة نسبيًّا إلى الصليبيين.
[1] Matthieu d`Edesse (Hist. Arm. 1), p. 59.
[2] Setton: op. cit., 1, pp. 361-362.
التعليقات
إرسال تعليقك