الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
لم يعتمد رسول الله على إظهار قوة المسلمين المادية فقط ليخيف المكيين؛ وإنما حرص الرسول على إظهار تمكن الرحمة والعفو من قلوب المسلمين، فماذا حدث؟
عبقرية الرسول في إعلاء شأن أبي سفيان
كان العباس صديقًا قديمًا لأبي سفيان، ويرى الأزمة التي وضع فيها أبو سفيان، ويرى الانهيار الذي تعرض له؛ لذلك طلب العباس t من الرسول r أن يُخرِج أبا سفيان من هذه الأزمة، فقال: "يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا"[1].
وهنا بدأ الرسول r يفكر في الأمر، فمن الواضح أن أبا سفيان أسلم اضطرارًا، ولم يقتنع بعدُ بالنبوة، وإن لم يشعر بالانتماء الحقيقي للنظام الجديد، فقد ينتهز أي فرصة للانقلاب على المسلمين، وأبو سفيان عظيم مكة منذ عدة سنوات، وإن لم ينزله r منزله، فإن هذا سيؤثر سلبًا في أبي سفيان، وفي أهل مكة جميعًا. ثم إن الرسول r إذا أعطى أبا سفيان شيئًا فسوف يستخدمه لصالح الإسلام، ويكون أبو سفيان من رجاله وولاته بدلاً من أن يكون من أعدائه، وقد يرى ذلك بقية زعماء مكة، فيطمعون في شيء من سلطان المسلمين.
وقرر الرسول r أن يعطي أبا سفيان شيئًا، والرسول r في ذلك الوقت لا يملك مالاً كثيرًا يليق بزعيم مكة، ولا يستطيع أن يَعِده بإمارة؛ لأنه لم يتأكد بعدُ من صدق إيمانه، بل على العكس فالظاهر أنه قد أسلم مضطرًّا، وقد يؤذي المسلمين بإمارته، سواء على مكة أو على غيرها؛ لذلك فكر الرسول r في إعطائه شيئًا ينفع ولا يضر، فقال الرسول r: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ"[2].
وخصَّ الرسول r أبا سفيان بخِصِّيصى تجعله متميزًا على أقرانه من أهل مكة، وهي أن داره أصبحت مأوًى لأهل مكة، وأمانًا لهم. ولكن المتدبر في الأمر يجد أن الرسول r أعطاه شيئًا بلا خسارة، وهذا الشيء لا يقدِّم ولا يؤخر عند المسلمين، فهو يكسب قلب أبي سفيان؛ لأن أي إنسان يغلق عليه بابه سيكون في نفس الأمن الذي في دار أبي سفيان، فلا ميزة واضحة، ولكن هذا الأمر قد أحدث نوعًا من الفخر الشرفي، ينفع ولا يضر.
وهنا نجد التوازن الرائع من الرسول r في التعامل مع أبي سفيان، وسوف يدخل أبو سفيان بهذه المنحة التي أعطاها له الرسولُ r إلى مكة دافعًا للناس أن يدخلوا بيوتهم، وألاّ يقاوموا، وفي هذا تسكين لثورة الغضب في داخل مكة المكرمة، وفي هذا تسهيل لفتح مكة المكرمة دون خسائر كبرى؛ فهي حكمة سياسية هائلة، وفقه دعويّ على أعلى مستوى.
وهنا نجد ذكاء الرسول r في التعامل مع أبي سفيان، فقد خاطب أبا سفيان في البداية بالقوة والحسم، ثم بعد إسلامه أعطاه شيئًا يفخر به، ويمتلك به قلبه مع عدم فَقْد الدولة الإسلامية لشيء.
حوار بين العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان
أراد الرسول r ألاّ يترك أي فرصة للشيطان يدخل بها إلى قلب أبي سفيان، فقد يكون إسلام أبي سفيان إسلامًا عارضًا؛ للخروج من هذا المأزق، فأراد الرسول r أن يزلزل معنويات أبي سفيان حتى لا يبقى عنده أي أمل في المقاومة، فماذا فعل الرسول الحكيم r؟
أمر الرسول r العباس بن عبد المطلب أن يقف بأبي سفيان عند مكان ما ليشاهدَ الجيوش الإسلامية، وأعدادها، وعُدَّتها، وتنوع أفرادها، وتعدد قبائلها. لقد أراد الرسول r أن يريه الأحزاب المؤمنة، وشتان بين هذه الأحزاب والأحزاب التي قادها أبو سفيان قبل ذلك؛ ليعلم أبو سفيان أنه لا طاقة له بهؤلاء، قال رسول الله r للعباس: "يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا"[3].
والعباس نفّذ الأمر النبوي، وأخذ أبا سفيان ووقف عند المنطقة التي ذكرها الرسول r، ووقف أبو سفيان يشاهد العرض العسكري الإسلامي المهيب، وانبهر أبو سفيان؛ فقد كان آملاً في المقاومة، وقد شاهد أبو سفيان هذه الأعداد منذ ثلاث سنوات تقريبًا في غزوة الأحزاب، وكان هو يرأسهم جميعًا، ورأى أبو سفيان في هذه الجيوش عدة قبائل كانت تربطه بها علاقات قوية، ولم يكن بينه وبينها عداء يذكر، فإذا بهذه القبائل جميعًا تجتمع تحت راية رسول الله r. ورأى أبو سفيان وحدة الصف واجتماع الجميع على قلب رجل واحد؛ فقد رأى أبو سفيان الألفة والمودة والصلابة التي في عيونهم، وفي تصميمهم، وفي مشيتهم، وهذا كله زلزل أبا سفيان. إن انبهار أعداء الأمة بالصف المسلم المتحد أمرٌ لا يُنكر كما رأينا، ولننظر إلى وصف العباس t لحالة أبي سفيان عند رؤية الجيوش الإسلامية، يقول العباس: ومرت به القبائل على راياتها، كل قبيلة تسير رافعة الراية، فكلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: من هؤلاء؟
فأقول: سُليم.
فيقول: ما لي ولسُليم؟ أي: لماذا تأتي سُليم وتحاربني؟ أوْ كيف طاقتي وسليم؟ فتمر القبيلة الأخرى فيقول: من هؤلاء؟
فأقول: مُزَيْنة.
فيقول: ما لي ولمزينة؟
وهكذا كلما مرت قبيلة سأل من هؤلاء، فيرد العباس: بنو فلان وبنو فلان، فيقول: ما لي ولبني فلان. حتى مر رسول الله r في الخضراء، والخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منها إلا الحَدَق. يعني الكتيبة مغطاة بالدروع والسلاح، لا ترى إلا أعينهم من خلال الدروع، قال أبو سفيان -وهو في أشد حالات الانبهار-: من هؤلاء يا عباس؟
قلت: هذا رسول الله r في المهاجرين والأنصار.
فقال أبو سفيان في منتهى اليأس: ما لأحدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداة عظيمًا.
قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة.
فقال: فنَعَمْ إذن[4].
لقد اقتنع أبو سفيان أخيرًا أنها النبوة.
أبو سفيان يدعو قريشًا للدخول في الإسلام
خرج أبو سفيان حتى دخل مكة وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمدٌ قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به.
وهنا يتحقق غرض الرسول r من إعطائه هذا الفخر، ونجد أبا سفيان يمنع قريشًا من المقاومة؛ ليحقن دماء قريش، وفي الوقت نفسه يحقن دماء المسلمين. إنه الفقه السياسي العالي من الرسول r.
ثم قال: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ولم يقل: ومن دخل داره، ومن دخل المسجد، واكتفى بالجانب الذي يُعلِي من شأنه؛ ليظهر فخره.
فقامت إليه امرأته هند بنت عتبة، وهي من أشد المقاومين للإسلام، ومن أشد المحاربين له، فأخذت بشاربه وقالت للجميع: اقتلوا الدَّسِم الأَحْمَس، قُبِّح من طليعة قوم!
فهي تسبُّ زوجها أمام الناس، فقال: ويحكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فقال له أهل مكة: ويلك! فما تغني عنا دارك. أي: إن دارك لا تتسع لأهل مكة كلهم. فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فتفرق الناس ودخلوا إلى ديارهم، وإلى المسجد[5].
وهذا موقف أبي سفيان، فقد أصبح في نهاية اليوم مدافعًا عن دخول الرسول r إلى مكة المكرمة، فاتحًا له الطريق. اقترب الرسول r من مكة، وبدأ يضع الخطة العسكرية لدخول مكة، وقسَّم الرسول r جيشه إلى أربع فرق:
- فرقة على رأسها خالد بن الوليد t، وهذه تدخل من جنوب مكة، وهذه فرقه قوية.
- والفرقة الثانية على رأسها الزبير بن العوام t، وتدخل من كَدَاء في شمال مكة المكرمة.
وهاتان الفرقتان تشبهان الكماشة على مكة.
- والفرقة الثالثة وهي فرقة من الرَّجَّالة (المشاة) بقيادة أبي عبيدة بن الجراح t.
- أما الفرقة الرابعة فهي فرقة الأنصار y، وعلى رأسها سعد بن عبادة t، وفي هذه الفرقة كان يسير رسول الله r.
وأعطى الرسول r أوامره للفرق الأربع بالالتقاء عند الصفا، فكل فرقة تأتي من ناحية وتدخل مكة المكرمة، ثم يلتقوا جميعًا عند جبل الصفا بالقرب من البيت الحرام. واستمع معظم الناس في داخل مكة لكلام أبي سفيان، ودخلوا أحد الأماكن الآمنة.
محاولة يائسة من قريش لمواجهة المسلمين
في هذا الجو المفعم بسيطرة المسلمين على الأمور في مكة، قرر زعماء قريش -من غير أبي سفيان- القيام بمحاولة يائسة للمقاومة لعلها أن تنجح، وهي جمع أوباش قريش، وهم العبيد والفقراء وعَوَامّ الناس، ويدفعوا بهؤلاء إلى قتال الجيش الإسلامي، على أن يرأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وهما أشهر فرسان قريش. وكانت النتيجة في حسابات القرشيين الزعماء واحدة من اثنتين: إما نصر وسيكون هذا النصر للسادة، وإما هزيمة وبعدها يسلِّمون للرسول r بما يريده، ولو كانت الهزيمة قاسية وفُقِد الجيش، فهؤلاء الأوباش لا قيمة لهم عندهم.
وهكذا الجيوش العلمانية يكون النصر للسادة، والتضحية والبذل للعبيد، فإن أقصى أحلام الجندي المنتصر في الجيوش العلمانية أن يُعطَى نيشانًا أو عدة عشرات أو مئات من الجنيهات، وعند الهزيمة يُحصون بالآلاف والملايين، أما السادة في الجيوش العلمانية فيحتفلون بالنصر، ولا يدفعون أثمان الهزائم. وهذا لا يوجد في الجيوش الإسلامية، فلقد كان الرسول r يقاتل مع جنوده كواحد منهم، يعاني كما يعانون، ويتعرض للخطر كما يتعرضون، وتوزَّع الغنائم في حالة الفوز على الجيش المنتصر، والهزيمة يشترك في دفع ثمنها الجميع، وهذا -لا شك- يزرع الانتماء في قلوب الجميع بصورة طبيعية. هكذا كان الوضع في الجيوش الإسلامية، ولكن الوضع في مكة كان قبول المعظم بدخول البيوت، وتجنُّب القتال إلا فرقة من العبيد والفقراء، يقودهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وتتمركز عند منطقة تسمى الخَنْدَمَة في جنوب مكة.
أوامر الرسول لجيشه بتجنب القتال
وَصَلَ الرسولَ r أخبارُ فرقة مكة، التي تريد مقاومة المسلمين، ومن ثَمَّ أصدر الرسول r ثلاثة أوامر رئيسية:
الأمر الأول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
فليس الغرض من الفتح هو الانتقام من أهل مكة برغم كل التاريخ الأسود لكفارها، ولكن الغرض هو حكم هذه البلدة الطيبة بالإسلام، وتعليم الناس لدين الله، وهذا الحكم كان المسلمون يهدفون إليه في كل الفتوح الإسلامية.
الأمر الثاني: إذا لقيتم أوباش قريش فاحصدوهم حصدًا.
في مقابل الرحمة في الأمر الأول، نرى الحسم والحزم والقوة في الأمر الثاني، ولا بد أن يرى أهل الباطل قوة المسلمين وبأسهم، وعندها ستلين قناتهم؛ وهذا أحفظ لدمائهم ولدماء المسلمين.
الأمر الثالث: أهدر الرسول دماء مجموعة من كفار مكة.
وهذه المجموعة قد ارتكبت جرائم بشعة في حق الدولة الإسلامية، وهي جرائم لا تغتفر، لدرجة أن الرسول r وهو المشهور بالرحمة، والمعروف بالرفق واللين يقول: "اقْتُلُوهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ"[6].
وكانوا بضعة عشر رجلاً وامرأة، وكانت هذه دلالة على جدية الدولة الإسلامية، وعدم قبول الدولة الإسلامية بأي حال من الأحوال أن يسخر أحد منها أو من رموزها، وخاصةً أن معظم هؤلاء الذين أهدر الرسول r دماءهم كانت جريمتهم هي سبُّ الرسول r، والسخرية منه، والتعريض به، والتهكم عليه. ولا يخفى على أحد أن الطعن في رسول الله r ليس كالطعن في أي قائد، فهو ليس مجرد زعيم للدولة الإسلامية، بل هو ناقل عن ربِّ العزة، ورسول من رب العالمين، والطعن فيه طعن في دين الدولة الإسلامية وشرعها وكيانها، وهو ما لا يجب أن يُنسى بسهولة؛ لذلك كان الأمر صارمًا: "اقْتُلُوهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ".
وبعضهم تاب وعاد إلى الرسول r، وأعلن التوبة بين يديه، وقَبِل منه الرسول r.
الرسول يحظر التجول في شوارع مكة
بهذا القرار الذي اتخذه الرسول r بأن من دخل دار أبي سفيان، ومن دخل الكعبة، ومن دخل داره يكون آمنًا، يكون قد أصدر قرارَ حظر تجوُّل مؤقت في مكة؛ لأنه إذا كان هذا القرار يكثر الأمان على من دخل بيته أو من دخل بيت أبي سفيان أو المسجد، فمعنى ذلك أن من لم يدخل بيته ويسير في الشارع بصرف النظر عمَّا يفعله فهو غير آمن، وفعل الرسول r ذلك؛ ليمنع الناس من أي فرصة من المقاومة، وفي الوقت نفسه حتى يمنع القتل العشوائي في أهل مكة.
وهذه عملية عسكرية كبيرة جدًّا، ونريدها أن تتم بأقل خسائر ممكنة للطرفين، وهذا وإن كان يتبدى فيه الحال من الحزم الواضح من رسول الله r إلا أنه يظهر الرحمة عنده r، فهو لا يريد إراقة دماء أهل مكة، مع أن دماء المسلمين سالت غزيرة قبل ذلك على هذه الأرض نفسها؛ فلذلك أخذ الرسول r قرارًا بحظر التجول، وهذا يشبه في زمننا قانون الطوارئ؛ فأحيانًا يتخذ هذا القانون في ظروف صعبة تمر بها البلد، ولكن الرسول r لم يُبقِ هذا القانون الخاص الاستثنائي لمدة سنة أو اثنتين أو خمس أو عشر أو عشرين سنة، لا، بل طبَّقه لعدة ساعات فقط، وهذا دليل على قوته r، ودليل قوة حكومته، ومدى تجانس هذه الحكومة مع الشعب الذي يحكم، حتى لو كان هذا الشعب هو شعب مكة الذي يحاربه المسلمون. ولا شك أن الرسول r كان يدرك أن طول مدة هذه الطوارئ ستترك انطباعًا سلبيًّا عند الشعب، مما يوحي بغياب الأمن والأمان في الدولة الإسلامية.
اليوم يوم المرحمة
دخلت الجيوش الاسلامية كما خطط لها رسول الله r، ومكث معظم أهل مكة في بيوتهم، وكانت شوارع مكة في الأغلب خالية من المارَّة، وكانت رغبة الرسول r الأكيدة ألاّ يحدث قتال، وخاصةً في هذا البلد الحرام، وأحب البلاد إلى قلبه r. ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول r إلا أن بعض الصحابة كانت تراودهم أحلام الانتقام ممن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانًا، ومن ذلك مثلاً ما قاله سعد بن عبادة t -سيِّد الأنصار وقائد كتيبة الأنصار- في حماسة وهو يدخل مكة: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة".
وهذه الكلمات تعبر عن رغبة في القتال، مع أن هذه الكلمات لها خلفية شرعية، ولها منطق مقبول إلا أنها لا ترضي الرسول r، والخلفية الشرعية لكلمة سعد بن عبادة أن الرسول r قال عن مكة: "وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ"[7]؛ أي أن القتال في ذلك الوقت قتالٌ شرعيٌّ. ولكن الرسول r كان يريده عند الاضطرار فقط؛ فالأصل ألاّ نقاتل، ولكن المنطق كان عند سعد بن عبادة منطق مفهوم ومقبول، ومنطقه كان يؤيده هذا الأمر في رأي العموم من الناس؛ لأن مكة الآن محكومة بأهل الكفر وقتالهم واجب، وهؤلاء هم الذين عذبوا المؤمنين، وهم الذين أخرجوا الرسول r، وهم الذين آذوه هو وأصحابه قبل ذلك، بل إن سعد بن عبادة نفسه تعرض لأذى قريش بصورة مباشرة في بيعة العقبة الثانية؛ ففي آخر البيعة أمسك المشركون بسعد بن عبادة وضربوه ضربًا مبرحًا مع كونه سيد الخزرج، ومن الشخصيات المهمة في الجزيرة العربية، فلا شك أن هذه الحادثة تركت في نفسه أثرًا، فأراد أن يعاملهم بالمثل.
ومن ثَمَّ قال مثل هذه الكلمات. غير أن الرسول r لم يكن يريد قتالاً، ووصلت إليه كلمة سعد بن عبادة عن طريق أبي سفيان، وأبو سفيان قد أصابه الرعب عند سماع كلمة سعد بن عبادة، وأسرع إلى الرسول r يستوثق من أمر الأمان لأهل مكة، فقال r عندما سمع هذه الكلمات: "الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ"[8].
صحح الرسول r المفاهيم، ولم يكتفِ الرسول r بذلك، فقد خشي r أن يأخذ سعد بن عبادة فرقته من الأنصار بهذه الروح القتالية، ويتساهل في أمر القتال؛ لذلك نزع الراية منه، وأعطاها لابنه قيس بن سعد، في فقهٍ دعويّ؛ إذْ أراد الرسول r أن يطيِّب خاطر سعد بن عبادة بحيث لا يؤثر ذلك في نفسيته، وهو زعيم الخزرج، فأعطى الراية لقيس بن سعد بن عبادة، وكان قرارًا في منتهى الحكمة أَرْضَى به كل الأطراف؛ فقد أرضى سعد بن عبادة، وأرضى نفسه r بتنفيذ القرار: ألاّ يقاتل إلا من قاتل، وأرضى أبا سفيان الذي اشتكى إليه هذه الكلمة القاسية عليه، وخاصةً أنه قد أعطى أمانًا لأهل مكة.
مثل إسلامي في الصفح يبقى إلى يوم القيامة
ودخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلقَ قتالاً يذكر إلا عند منطقة في جنوب شرق مكة اسمها منطقة الخندمة، وتزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش، وقاتلهم في هذه المنطقة خالد بن الوليد t بفرقة قوية من الفرسان. ومع كون خالد t صديقًا قديمًا وحميمًا لعكرمة بن أبي جهل ولصفوان، إلا أنه كان متجردًا تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديدًا رائعًا، تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفارٍّ، وهرب صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة المكرمة بكاملها، وخمدت المقاومة تمامًا، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر r، يدخلها آمنًا مطمئنًا عزيزًا.
ولعل هذه هي لحظات السيرة النبوية التي مسحت آثار رحلة طويلة من المعاناة والألم، وهي اللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، وهي اللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرع الله U، فقد مرت ثلاث عشرة سنة متصلة في مكة من الألم والتعذيب والاضطهاد.
أين أولئك الساخرون من الإسلام؟
وأين أولئك المتهكمون على رسول الله r؟
وأين الذين كانوا يقولون: شاعر أو مجنون؟
وأين الزعماء والأسياد والأشراف والقوّاد؟
وأين الجبابرة والطواغيت؟
لا تسمع منهم اليوم إلا همسًا. ولا شك أن الرسول r وهو داخل إلى مكة كان يستعرض شريطًا للذكريات مرَّ على ذهنه r، وهو يدخل مكة بهذا الدخول العظيم الفاتح؛ فهنا كانت الطفولة والشباب، وهنا نزل عليه جبريل u للمرة الأولى، وهنا كانت خديجة رضي الله عنها، إنها ذكريات سنوات طويلة من الآلام والآمال، هنا مرت لحظات سعيدة على المسلمين؛ يوم أسلم الصِّدِّيق، ويوم أسلم عمر، ويوم أسلم عثمان، وعلي، وحمزة، وأبو عبيدة، وسعد، وهنا دار الأرقم بكل ذكرياتها الجميلة، وهنا في الوقت ذاته الصبر والكفاح، ومن هنا خرج المهاجرون إلى الحبشة، ومن هنا خرج المهاجرون أيضًا إلى المدينة المنورة، ومن هنا خرج الرسول r وصاحبه الصديق في هجرة صعبة وفي مطاردة شرسة، وزعماء الكفر جميعًا قد جمعوا أنفسهم لحربه أو لقتله، وكانت مكة أحب البلاد إلى قلبه: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لأَحَبُّ بِلاَدِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"[9].
ومرت السنوات بالأحداث الساخنة والصعبة والكفاح، ولكن مكة ما غابت عن الذهن لحظة واحدة، والآن تحقق حُلم السنين، وأصبح الأمل واقعًا، وصار الحلم حقيقة؛ إذْ كان كثير من الناس يرون أن هذا الأمر مستحيل، {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
إنه نصرُ الله وتدبيره، والرسول r لم يدخل مكة دخول المنتصرين المتكبرين، رافعًا رأسه، متعاليًا على غيره، ناسبًا النصر لنفسه، بل إنه دخل مكة دخول المتواضعين لله U، الخاضعين له، وخفض رأسه في تواضع حتى كادت أن تمسَّ رأسه دابته، ودخل وهو يتلو سورة النصر، يذكِّر نفسه ويذكّر المؤمنين حوله ويذكّر المؤمنين إلى يوم القيامة، بل يعلِّم الناس جميعًا أن النصر من عند الله تعالى، وأنه U إذا قضى شيئًا لا رادَّ لقضائه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1- 3].
وسار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة؛ ليبدأ الرسول r، ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة، وربانية التشريع؛ ليرسخ القاعدة الأصيلة: {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ} [الأنعام: 57].
ونسأل الله U أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات الموحدين، وأن يرينا يومًا تفتح فيه بلاد الأرض بالإسلام، ويظهر فيه الدين، ويعز الله U فيه المسلمين، ويذل فيه المشركين، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
د. راغب السرجاني
[6] العسقلاني: فتح الباري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار الفكر - بيروت، 8/13.
[7] البخاري: كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة (2302). مسلم: كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1355).
التعليقات
إرسال تعليقك