الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مدينة مرو كان لها شأن علمي واقتصادي كبير للمسلمين، وهي تقع الآن في جمهورية تركمنستان، وقد كانت تعرف قديمًا بمرو الكبرى.
مدينة مرو كان لها شأن علمي واقتصادي كبير للمسلمين، وهي تقع الآن في جمهورية تركمنستان، وقد كانت تعرف قديمًا بمرو الكبرى؛ أو مرو الشاهجان تمييزًا لها عن مرو الروذ وتقع في تركمنستان أيضًا، ويقال إنها كانت أكبر مدن العالم في القرن الثاني عشر الميلادي، وهي إحدى مدن إقليم خراسان التاريخي (شرق إيران، وغرب أفغانستان، والتركمانستان)، وقد فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب على يد أحد كبار التابعين، وهو الأحنف بن قيس[1].
دخل الإسلام إلى مرو في عهد عثمان بن عفان، وبقيت عاصمة لإقليم خراسان في عهد الخلافة الأموية، واكتسبت مرو أهميتها أكثر عندما أعلن أبو مسلم الخراساني بدء العهد العباسي في مرو، فأعاد تأسيسها واستخدمها كقاعدة ضد الأمويين، ثم انتقلت مرو على مر العقود من زعامة دولة إلى دولة، فكانت من أعظم مدن السلاجقة، ومركز السلطان سنجر، حتى وصلت إلى الدولة الخوارزمية، وقد تعرضت لنكبة لم يعرف التاريخ مثلها على أيدي التتار؛ فقد قتلوا كل أهلها بعد حصارها 4 أيام عام 617هـ= 1220م، وتسليم أهلها المدينة صلحًا بعد وعد ابن جنكيز خان لهم بالحماية.. وكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل!، وانتهت المدينة تمامًا، بعد هذا الغزو الهمجي.
وقد كانت مرو مدينة حضارية بطبعها، ومن أروع مظاهر الحضارة الإسلامية فيها قبل الغزو التتري انتشار المكتبات العامة المفتوحة للجمهور، وهذا ابتكار إسلامي صرف، فقد كانت المكتبات الموجودة في الحضارات السابقة؛ كاليونانية، والرومانية، والفارسية، والهندية، حكرًا على القصور، والكنائس، والمعابد، ولا يمكن للعامة الوصول إليها، فجاء المسلمون، فنشروا المكتبات بشكل غير مسبوق، وتنافس الأمراء والأثرياء في عمل المكتبات العامة، وأوقفوا له الأوقاف الكبيرة، وما نراه في مرو هو مجرد مثال للحواضر الإسلامية الراقية، وما نقوله هنا ينطبق على بغداد، والبصرة، والكوفة، ودمشق، وحلب، وطرابلس، والقاهرة، وفاس، والمدينة، وبخارى، وسمرقند، وغزنة، وقرطبة، وغرناطة، ومراكش، وغيرها.
وقد زار ياقوت الحموي[2] مدينة مرو قبيل الغزو التتري بشهور في أثناء رحلاته، فما استطاع أن يتركها بسبب مكتباتها العامرة، فقال واصفًا لها: وأقمت بها ثلاثة أعوام (613-616هـ) فلم أجد بها عيبًا إلا ما يعتري أهلها من العِرْقِ المديني[3] فإنهم منه في شدة عظيمة قل من ينجو منه في كل عام، ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها إلى الممات لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا مثلها كثرةً وجودةً.
أما الخزائن فمنها خزانتان في الجامع، إحداهما يقال لها العزيزية وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق وكان فقاعيًا (صانع جعة) للسلطان سنجر وكان في أول أمره يبيع الفاكهة والريحان بسوق مرو ثم صار شرابيا له وكان ذا مكانة منه، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية لا أدري إلى من تنسب.
خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعد محمد بن منصور في مدرسته ومات المستوفي هذا في سنة 494 وكان حنفي المذهب من أعيان وأثرياء الدولة الخوارزمية، وخزانة نظام الملك الحسن بن إسحاق في مدرسته، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية، وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها، والخزائن الخاتونية في مدرستها، والضميرية في خانكاه هناك، وخزانتان للسمعانيين، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثر بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبُّها كلَّ بلد، وألهاني عن الأهل والولد، وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيرِه مما جمعته فهو من تلك الخزائن[4].
يُذْكَر أن التتار أحرقوا كلَّ مكتبات مرو، وفتحوا سدود الأنهار ليدمِّروا المدينة، فاختفت المدينة تمامًا، وعندما زار ابن بطوطة المنطقة بعد ذلك بقرن قالوا له: كانت هنا مدينة اسمها مرو! والمدينة الموجودة الآن هي من تأسيس الروس عام 1884م كقاعدة عسكرية ما لبثت أن تطوَّرت إلى مدينة حاليًا، ونذكر هذا ليعرف الجميع الفرق بين حضارة كانت تهدف إلى سعادة الإنسانية وثقافتها، وبين قوة غاشمة لا تهدف إلا لمصالحها المادية غير عابئة بآلام البشر[5].
[1] أدرك زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأسلم لكنه لم يرَه. ابن عبد البر: الاستيعاب، 1/144، 145.
[2] ياقوت الحموي: من أصل رومي، وقيل وُلِد في اليونان، واسمه ياقوت بن عبد الله، وهو منسوب إلى عسكر الحموي وهو تاجر من بغداد اشترى ياقوت وعامله معاملة الابن، ويبدو أنه أعتقه، لوجود حرية كبيرة في حركة ياقوت في البلاد، وهو مؤرخ ثقة من أئمة الجغرافيين، وهو صاحب كتابي معجم البلدان، وإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء)، وهو من علماء القرن السابع الهجري (574-626/1178-1229)
[3] (دودة طفيلية تكون في مياه الشرب، وكانت تُرَى بالمدينة، ومصر، ووسط آسيا)
[4] ياقوت الحموي: معجم البلدان (5/ 114)
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك